رحمهG.T
| موضوع: من يتلاعب بالخرائط؟" الثلاثاء 12 يوليو 2011 - 10:42 | |
| " الكاتب: غسان شربل اعجبني الرئيس عمر حسن البشير. صورة مشاركته في احتفال جوبا من قماشة الصور التي يلتقطها التاريخ. ليس بسيطاً ان يشارك رئيس في وداع ثلث مساحة بلاده حتى ولو كانت شبه قارة. وأن يشارك في وداع ملايين من السكان حتى وإن عزّى نفسه بأن الباقي صار اكثر صفاء. وليس بسيطاً ان يرى إنزال علم السودان ليرتفع مكانه علم جمهورية جنوب السودان. كان كلام البشير في العرس الجنوبي لطيفاً. وشفافاً. ولذيذاً. وكان سلوكه مخملياً ما يمكن ان يغيظ رجلاً يتعقبه باسم العدالة الدولية واسمه اوكامبو. تمنيت انا العربي لو ان هذا السلوك المخملي اصاب البشير ورفاقه في «ثورة الانقاذ» يوم استولوا على السلطة قبل عقدين. كان من شأن المخمل المبكر ان يجنب السودان نهراً من الدم والدموع والفظاعات والعقوبات. وربما كان من شأنه ان يجنب الخريطة سكين الطلاق. لكن الحاكم العربي يُصر على تكرار اخطاء أسلافه الذين كانوا اصروا بدورهم على تكرار أخطاء أسلافهم.
قبل عام ذهبت لزيارة رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني. استوقفني على مدخل مقره ارتفاع علم الاقليم على مقربة من علم العراق. سألت الرجل عن شؤون الاقليم وشجون العراق. واستوقفني قوله في لحظة تأمل: «لو التزم صدام حسين اتفاق الحكم الذاتي الذي أُعلن في عام 1970 لوفرنا على العراقيين نهراً من الدماء والدموع». لكن صدام وبعقلية من يعتبر الاتفاقات حبراً على ورق ارسل بعد عام واحد وفداً انفجر بالملا مصطفى بارزاني انسجاماً مع عقلية الشطب والإلغاء وهي ليست عقلية صدام وحده.
في بداية عملنا الصحافي وقبل ان تتاح لنا زيارة مسارح الأحداث، كنا نميل الى تصديق مصانع الشعارات التي أنجبت سيلاً من الكوارث. كنا نعتقد مثلاً ان اصابع الغرب والموساد تقف وراء تحركات الاكراد في كردستان العراق وأن الامر مؤامرة على الخريطة العراقية والخريطة العربية. ولفترة كان يتردد الكلام نفسه عن القتال الذي يخوضه قسم من أبناء جنوب السودان احتجاجاً على تنكر جعفر نميري لاتفاق الحكم الذاتي. والحقيقة ان اسرائيل عدو صاحب مصلحة في تفكيك الدول العربية وإشعال الحرائق فيها. وأن بعض الغرب لا يتردد احياناً في زعزعة استقرار الدول التي تنتهج سياسات معادية له. لكن الحقيقة ايضاً هي ان التلاعب بالخرائط يأتي من الداخل اولاً وعلى يد سياسات الشطب والاستبداد.
يسمع الصحافي الذي يجول في عواصم المنطقة تحذيرات من ان العرب يتعرضون اليوم لمؤامرة تهدف الى تفتيت الكيانات القائمة. وتقول التجارب ان الخرائط لا تتمزق تحت وطأة الضغط الخارجي. يبدأ المرض من الداخل. من الإصرار على عدم الاعتراف بالآخر. وحقه في الاختلاف تحت علم البلاد. ومن رفض ثقافته ولونه وأغانيه وعاداته وحقه في ان يعبّر عن تطلعاته. وحقه في ان يقرأ في كتاب آخر. وأن يشرب من نبع آخر.
تبدأ المأساة من الإصرار على محو الملامح المختلفة لجزء من المواطنين. محاولة ارغام اقلية على التنازل عن تاريخها وتراثها وحق اطفالها في ان يتعلموا لغة أجدادهم. تبدأ المأساة من غياب مفهوم المواطنة. ودولة القانون. والمؤسسات التي تشرك وتضمن. تبدأ بمحكمة تعوزها النزاهة. وبشرطي منحاز. وحكومة تعتبر التشدد اقرب السبل للاحتفاظ بالسلطة. من الخوف من الصوت الآخر. تبدأ المأساة من احتكار الحقيقة والوطنية ومن بناء تصور حديدي مقفل لا يتسع إلا لمن يعتنق الزي الموحد الصارم.
يبدأ التلاعب بالخرائط من محاولة شطب التنوع والتعدد. من الاستئثار والتسلط والتعصب والاقصاء والتهميش والتكفير والتمييز والتهديد والغلبة. من الرفض الكامل والطرد ورسم خطوط تماس عرقية ومذهبية ومناطقية. من غياب الاعتراف المتبادل وفرص المشاركة والتداول. من التشكيك الدائم والخوف المتوارث والتربص وتحين فرص الثأر. لا تسقط الخرائط تحت ضربات الخارج. القاتل الحقيقي يأتيها من الداخل. | |
|