أمرأة عمران- نذرت ما في بطنها لله ..فأعطاها الله مريم التي نشأت على الورع و التقوى و السلوك الحسن. و كان زكريا يكفلها أي يأتي لها بالطعام و الشراب و هي في المحراب.. لكن نبي الله زكريا يجد عندها الرزق فيسألها عن مصدره فتجيب إنه من عند الله الذي رزقه من غير حساب . فيسأل زكريا الله و هو في المحراب أن يهبه غلاماً فتجيبه الملائكة بأن الله يبشره بغلام اسمه يحي و يكون صادقاً مصدقاً و نبياً من الصالحين. و لنا أن نتساءل لماذا استجاب الله لدعاء زكريا و هو في المحراب مع مريم..؟ كأن الله يريد أن يهيئ مريم للتجربة التي ستخوضها بعد قليل .. التجربة التي لم تتعرض لها امرأة من قبلها و لن تتعرض لها امرأة من بعدها في ذلك العالم , كأن الله أراد أن يؤنس بشريتها,,فيجري على لسانها حكم الله بأنه القادر على رزق من يشاء بغير حساب إنها تتعرف على اتساع قدرة الله .. و كأنها تستعد دون أن تدري للتجربة الصعبة إن الله يجري أمامها أحداث رزق نبيه زكريا و امرأته العاقر..ميلاد النبي يحيى و ذلك حتى تستعد للتجربة الهائلة : إنجاب المسيح عيسى ابن مريم.. و يكرر الله نبأ اصطفائه لمريم مرتين في آية واحدة ((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ)) و اصطفاء الله لمريم ذلك اصطفاء الأول هو اصطفاء قيمي أمره يختص بالسلوك التقي و الإيمان الخالص .. و هي تدخل قي دائرة من يصطفيهم الله من البشر القانتين العارفين لله و المؤمنين بقدراته. ثم يأتي الإصطفاء الثاني ..الذي يهيئها للتجربة الفريدة.. تجربة إنجاب عيسى ابن مريم نبي الله الذي يكلم الناس في المهد و ينطق الحكمة و يحيى الموتى بإذن ربه, و يبرئ الأكمه و الأبرص . و هذا الاصطفاء الثاني و هو تمييز مريم على نساء العالمين بأنها ستلد دون ذكر.. و قد جاء التشخيص من الله بأن تمثل لها الملك في قوله تعالى: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا, فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا, قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا, قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)) إنها تعرف أنه لم يمسسها بشر و لكنها تؤمن أن كل ما يحدث هو بإرادة الله و التشخيص للروح هو من أمر الله بأن يتمثل لها بشراً سوياً ,, و كأن الله عندما يرتب كل الوقائع لتحث معجزته شاء أن ترزق مريم بغلام من المسيح. و كأن تشخيص الروح , و هو من أمر الله ,,إنما ليضع الناس أمام إرادته و كأن التشخيص إيضاح من الله أن قوانينه تنفذ و أن تلد مريم دون أن يمسسها بشر و ينفخ الملك روحاًُ من الله كأي روح ينفخها الله من أي إنسان و تحمل مريم عيسى و تلده معجزة من معجزات الله,, و كأن الله يريد بذلك التشخيص أن يؤكد لنا أن مثل هذه المعجزة الفريدة لا تتكرر أبداً .. و ذلك على عكس بعض ما أراده الله من وقائع رواها القرآن الكريم و لا تشخيص أو تحديد فيها..مثلما روى القرآن الكريم عن أهل الكهف ,,لم يحدد الله زماناً أو مكاناُ أو عدداُ ..و أمر النبي ألا يستفتي من أمر عددهم أحداً ذلك أن المغزى من قصة أهل الكهف هو المهم. و ليس المهم هو العدد أو المكان أو الزمان, إن المغزى من قصة أهل الكهف أن الله قادر على أن يعلق حياة هؤلاء المؤمنين به في زمن كافر بالله.. ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) إن المغزى من القصة أن الله يخبر المؤمنين به حكاية بعض من أهل الكهف الذين عاشوا وسط قوم المشركين فزادهم الله يقيناً بالإيمان و التوحيد بالله و أنه حقق لهم و بهم معجزة ,,فقد ظلوا في الكهف ثلاثمائة و تسع من السنوات و علق الله حياتهم أى حفظهم منذ لحظة نومهم على ما هم عليه إلى أن بعثهم مره أخرى في الحياة برهاناً و دليلاً على قدرته. و يضرب الله المثل بالذين كفروا و امرأة نوح.. إنه لا يذكر اسمها . إنها امرأة نبي تخلت عن عقيدتها و ما استطاع نوح و هو النبي أن يهديها و كذلك امرأة لوط لم يستطع نبي الله لوط أن يهدي زوجته فدخلت كل منهما النار ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)) إن امرأتين من زوجان اثنين من الأنبياء كانتا في عصمة رجلين يهديان إلى الإيمان لكن المرأتان لم تؤمنا فلم يغفر الله لهما زواجهما من النبيين نوح و لوط و دخلت كلتهما النار مع الكافرين. و يضرب الله مثلاً آخر بامرأة مؤمنة هي امرأة فرعون , زوجها ادعى لنفسه الألوهية لكنه عجز عن إقناعها بذلك, آمنت بالله فقط فدخلت الجنة . ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) هنا يحكي الله عن امرأة عرفت الله ولم تخضع لقهر فرعون لها..إن عدم التحديد هنا يوضح أن المثل يمكن أن يتكرر.. أما بالنسبة لمريم فقد حددها الله لأن قصتها لن تتكرر. إذن.. فالحق – سبحانه تعالى- حين يبدأ القرآن بقوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فهذا تنبيه لكل إنسان يسمع بأن الله هو المتحدث بذلك الكلام . و رسولنا صلى الله عليه و سلم يقول: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر) و معنى الأبتر هو مقطوع اليد. أي أن أي عمل لا تبدؤه باسم الحق فهو ناقص. ذلك أننا حين نبدأ أعمالنا باسم الله فإننا نحمى أنفسنا من الغرور ...و نعرف أن الله هو الذي سخر لنا كل ما في الكون ليكون متفاعلاً مع قدراتنا تلك القدرات التي وهبها لنا الله . و الله يمنحنا ثواباً في الدنيا على عملنا و ثواباً في الآخرة على نفس العمل. و عندما ننسى أن نذكراسم الله في أي عمل فنحن ننقص من عطاء الله لنا.. و قد نأخذ في الدنيا أجر العمل.. لكننا نحرم أنفسنا من عطاء الآخرة , إن الإنسان المؤمن حين يقدم على أي عمل و يبدؤه بــ (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فلابد أن ذلك العمل يرضى الله . ذلك أنه ليس من المعقول أن يقبل الإنسان على عمل قد يغضب الله و يقول في بدايته بسم الله الرحمن الرحيم ,, و على سبيل المثال لن يقول شارب الخمر في بداية احتسائه باسم الله لأنه سوف يخشى الله و سيعرف أن هذا العمل من المعاصي التي حرمها الله. إذن .. فإذا ما تعود المؤمن أن ينطق (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فإنه سيختار أعماله في ضوء ما أجازه الله و أباحه الحق الرحمن.. و عندما نتأمل (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فلسوف نجد اسم المعبود و هو الله الذي حدد لنا المحدود و التشريع و التكليف بــ (افعل) و ( لا تفعل) و حتى بالنسبة للعاصي فإن الله يطلب منه أن يستفتح أعماله بــ (( بسم الله الرحمن الرحيم)) ذلك أن الخالق لا يتغير على مخلوقاته .. و العاصي واحد من مخلوقات الله , ,لذلك يؤكد الله صفات جلاله و جماله: إنه رحمن رحيم.. فالله حين يشرع العقوبة على أي معصية لم يشرعها انتقاماً من مخلوقاته , إنما شرع العقوبة ,, لأن المعصية قد تقع من الإنسان .وإن الله يغفر لمن يشاء فحين نتذكر أنه الرحمن الرحيم فإن إقبالنا على المعصية يقل و إقبالنا على تجنب المعاصي يزداد.. فالله رحمن رحيم,, و عندما نتأمل معنى (( الرحمن)) فإننا نجدها كلمة مشتقة من (( الرحم)) و (( الرحم)) هو مكان الجنين أثناء وجوده في بطن الأم حيث يتنعم الجنين بالراحة و الأمان. هكذا يحنو الخالق على المخلوق.. و لذلك يقول الحق الرحمن في الحديث القدسي: (( أنا الرحمن و من الرحم شققت لها من أسمي من يصلها أصله و من قطعها أقطعه فأبته)) إن الله يعطف على عباده و يأمرهم بأن يصلوا الرحم لأنه أسم من صفات الله و أسمائه الحسنى ,, إذن .. الله يعطف على عباده حتى العاصي منهم ,,لأن المعصية لها عقاب ...لأن الله أيضاً أذن أن تقع و إن كان يكره أن تقع لأن الله لا يقع في ملكه إلا ما يريد و هو يغفر للتائب عنها. لذلك فالعاصي و المؤمن معاً..كل منهما عليه أن يبدأ أي عمل ذي بال بــ (( بسم الله الرحمن الرحيم)) حتى ينال ثواب الدنيا بأن لا يقدم على عمل إلا مما يرضي الله و ينال ثواب الآخرة لأنه أطاع الله في الدنيا و قاوم الغرور و تاب إلى الله عن المعاصي .. إن الله رحمن رحيم و صفاته لا تتأرجح بين القوة و الضعف ..إنه رحمن رحيم لا يتغير على عباده ...إنما عباده هم المتغيرون .. صفات الخالق عز وجل تسع المؤمن و العاصي.. و صفات الرحمن أنه حليم يسمح للعاصي بالتوبة و يمهل الكافر حتى يؤمن ,,لذلك يقول الحق جل و علا.. ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) أي: أن العبد إذا ما فعل العمل الصالح فله الأجر و الثواب, و أما من أساء في عمله فإثمه على نفسه ,, و الله لا يظلم عباده أبداً .. هكذا الكمال الرباني إنه القادر الذي لا تحد قدرته حدود.. لذلك عندما نضع الله في بالنا و نذكر اسمه قائلين (( بسم الله الرحمن الرحيم )) في أول كل عمل نبدؤه فإننا بذلك نجعل للعمل أجرين أجرا في الدنيا و ثوابا في الآخرة .. حتى عندما يأتي الرجل امرأته و هو ينوى إعفافها و الذرية الصالحة ..فهذا أيضاً يتلقى عليه المؤمن الثواب.. ذلك أن الرجل عندما يأتي زوجته فهذا حلال و من أجل ذلك يأتيه الثواب لأنه لو فعل ذلك خارج بيته مع امرأة أخرى لتلقى العقاب.. و لذلك فعندما نتأمل قول الرسول و هو يأمرنا بأن نقول (( بسم الله الرحمن الرحيم)) قبل أي عمل ذي بال.. عندما نتأمل ذلك فإننا نقف عند ذي بال ...ما معناها؟ إن معناها إن العمل الذي تفكر فيه قبل أن تبدأه . ذلك أن كل ما يشغل البال غالباً له ثلاث نسب : نسبة ذهنيه: و مثالها عندما يعطش الإنسان ..فإنه النسبة الذهنية التي تأتي لخياله هو كوب الماء ..فإذا ما قام الإنسان و طلب من أحد غيره كوب ماء ,, عندئذ تصبح النسبة (( نسبة كلامية)) هي: - اعطني كوب ماء.. و عندما يأتي كوب الماء .. فهذا يدخل تحت النسبة الثالثة و هي (( النسبة الخارجية )),, و لنا أن نلاحظ أن النسبة الخارجية نشأت من النسبيتين السابقتين عليها .. النسبة الذهنية و النسبة الكلامية.. هكذا نفهم الأمر الذي تنطبق عليه النسب الثلاث ,,إنه الأمر ذو البال أي الذي يشغل التفكير.. و لهذا فإن الله يمنحنا في مثل هذا العمل القدرة الكاملة على إتقانه و أن ننال عليه أجر الدنيا و ثواب الآخرة فعندما نقبل على العمل المهم بالنسبة لنا و نقول (( بسم الله الرحمن الرحيم)) فإننا نأخذ بركة اسم الله في تسخير ما نعجز عن تسخيره و نأخذ شجاعة الإقبال على العمل.. و فوق كل ذلك فإننا نأخذ ثواباً في الآخرة . هكذا يعلمنا الحق أن نبدأ (( بسم الله الرحمن الرحيم )) فما بالنا و نحن ندخل على تلاوة كتابه الذي يضم المنهج و المعجزة في آن واحد.. إننا نقبل عليه مستعيذين بالله من الشيطان . إننا نقبل على كتاب الله بـــ (( بسم الله الرحمن الرحيم )) لتضيء أعماقنا بقابلية الفهم الإيماني عن الله . أسأل الله أن يوفقنا في كل ما نأتي , و في كل ما ندع .
من كتاب الطريق إلى القرآن محمد متولى الشعرواي