المقال أدناه هو رسالة من الأستاذ وائل عمر عابدين المحامى (الكفيف ) الذى يحكى فيه تجربته مع التمييز الذى تعرض له فى أكبر مؤسسة تعليمية فى السودان وهى جامعة الخرطوم ، المقال مؤثر وملئ بالمشاعر الإنسانية السالبة والموجبة وبالإصرار والإرادة ، وملئ بالإشارات حول خطاب منسوبى الإسلام السياسى مع الأخر المُختلف ولو كان الإختلاف بايلوجياً كما فى حالة كاتب المقال الكفيف ، قراءة ممتعة أتمناها لكم .
صداح
السيد رئيس تحرير صحيفة التيار
تحية طيبة وبعد,
ألتمس شاكراً نشر تعقيبي على ما ورد بصحيفتكم عدد (653) بتاريخ 14- يونيو-2011 في عمود هناك فرق المعنون (من جامعة الخرطوم) ممهوراً باسم الأستاذ/ حسن محمد صالح مدير إدارة الإعلام بجامعة الخرطوم .
"أشارت الكاتبة في عمودها المذكور إشارات غير محددة وتفتقر للدقة والموضوعية لحالات تتعلق بطلاب مكفوفين وهم أشقاء تعرضوا لتمييز في أوقات مختلفة وبكليتي القانون والاقتصاد بجامعة الخرطوم. حالتان في كلية القانون في منتصف التسعينيات من القرن العشرين والحالة الثالثة في كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم مؤخرا. ولم توضح الكاتبة في حالتي كلية القانون المنع والحرمان الذي تعرض له الطالب الكفيف غير النقاش الذي دار بينه وبين عميد كلية القانون بالجامعة وقتها " من الواضح أن السيد مدير إدارة الإعلام بجامعة الخرطوم يعيب على ما جاء في مقال الأستاذة منى أبو زيد عدم التحديد والوضوح, بعد شكر الزميلة الأستاذة منى أبو زيد أنتهز هذه الفرصة التي انتظرتها طويلاً لأسرد للقارئات والقرّاء الكرام ما تعرّضت له من مؤسسة جامعة الخرطوم عند قبولي بكلية القانون جامعةالخرطوم للعام الدراسي 94-95 والقصة كما يلي:
كنت قد نجحت في امتحان الشهادة السودانية وأحرزت نسبة 74.7% وقدمت للقبول بكلية القانون بجامعة الخرطوم وعند ظهور نتائج القبول ظهر اسمي في قائمة الطلاب المرشحين للقبول بالكلية وكان ترتيبي الخامس في القائمة بحسب النسبة التي تحصلت عليها في الشهادة السودانية, كانت سعادتي غامرة لأنني قد قبلت للدراسة في الكلية التي أرغب فيها وكنت مستمتعاً بهدايا الأهل والمعارف وأحسست أني قد قدّمت هدية قيّمة لوالديّ إذ كانوا قلقين على مستقبلي الأكاديمي حيث أنني كنت كفيفا وكذلك أخويّ اللذان يصغرانني, رافقني والدي للجامعة في اليوم الأول لبداية إجراءات التسجيل وفي لوحة الإعلانات لكلية القانون علمنا ان هنالك معاينة يجب أن يخضع لها الطلاّب ووجدت اسمي من الطلاب اللذين سيخضعون للمعاينة أمام دكتور الفاتح الرشيد, شكرت والدي وطلبت منه الانصراف لأعماله وأنني سأتدبّر الأمر, سألت عن مكتب الدكتور الفاتح الرشيد وطرقت الباب وأذنت لي السكرتيرة بالدخول, بعد أن عرّفتها بنفسي طلبت مني بتهذيب شديد الجلوس وأبلغتني بأن الدكتور يجري معاينة مع أحد زملائي وانتظرت لدقائق وبعدها خرج الطالب وجاءني صوت من الباب الذي بين مكتب السكرتيرة والمكتب الداخلي علمت أنه صوت الدكتور الفاتح الرشيد, ولكم أن تتخيلوا معي ما قاله - بدون سلام ولا ترحيب- "موش انت الجا أبوك معاك قبيل تحت؟", أجبت : "نعم", ومرة أخرى جائني الصوت بنبرة عالية وغاضبة :"طيب أبوك دا ما كان يجي يعمل المعاينة دي بدلك" لوهلة احسست بأن هذا السؤال هو جزء من المعاينة المراد منه اختبار قدرتي على التحمّل فأجبت بهدوء وبرود:" انت شايف كدا أحسن يا دكتور" عندها انفجر الدكتور غاضبا وصائحا ولتوه بادر في الجلوس مقابلي في مكتب السكرتارية! وقال بنفس النبرة:" أيوا نحن ما عندنا أي استعداد نقبل لينا أي طالب كفيف في الكلية دي" , سألته: "ولماذا؟", رد عليّ : "نحن ما عندنا أي إمكانيات نشتري ليك بيها مسجّلات ولا أشرطة" , رددت :" من قال لك أنني أستعمل المسجلات للقراءة وأنني سأطلب من الكلية أن تشتري لي مسجلات صوت", عاجلني بالسؤال: "طيب انت بتقرا كيف؟" أفدته" بأنني في مراحلي السابقة كنت أكتفي بحضور الحصص وبعض المذاكرة مع أصدقائي المتطوعين" , عندها ردّ وبحسم: " لاااااا كلام زي دا في الجامعة مافي والناس اتغيّرت ونحن عندنا هنا في كل محاضرة في 30 سابقة قضائية السابقة الواحدة تحتاج من الطالب إلى نصف ساعة في المكتبة إذن فكل محاضرة محتاجة ل15 ساعة في المكتبة وانت بطريقتك دي حتبلّط لينا في الجامعة وتربّت وتعذّبنا معاك", عندها أحسست بأن أحلامي الأكاديمية ومستقبلي يُنسف وبدون مبررات وأحسست وكأن هذا الشخص الذي يجلس امامي هو في حالة عداء مباشر وشخصي معي فقد كانت طريقته في الكلام عدوانية وغير حسّاسة وعندها بدأت متحفّزاً لصراع طويل وخاطبته بغضب :"لأ, أنا ما فاهم أنتو أصلا بتدرّسوا شنو بالضبط؟ انت ما سالت نفسك أنا وصلتك هنا كيف؟ ونجحت في المدارس الحكومية التابعة للتربية والتعليم؟ ثم ثانياً دراسة القانون بالنسبة لي حتكون أصعب من الرياضيات والمفكوك والجذر والتكعيب واللوجاريثم والهندسة وخرائط الجغرافيا والتاريخ؟" , بعدها رد بصوت منخفض وبارد:" على كلٍ أنا ممكن أحوّلك كلية الآداب", أجبته بلهجة حاسمة وساخرة:" يعني آداب دي مافيها قراية ولاّ شنو؟", جاءت عبارة دكتور الفاتح الرشيد الختامية:" أنا ما عندي ليك حاجة ممكن تمشي لعميد الكلية اسمه حافظ الشيخ الزاكي وقول ليه دكتور الفاتح الرشيد قال ما بيقبلني, وانصرف".
عدت إلى المنزل بعد ان انكسرت بهجتي بالجامعة والمستقبل والملابس الجديدة الأنيقة وكنت مهموما كيف أنقل هذا الخبر إلى والديّ وأرحّل لهم هذا الكم الهائل من الإحباط ولكنهما استقبلا الخبر برباطة جأش وخففا عنّي ووعداني أننا في اليوم التالي سنذهب إلى دكتور بشير الشيخ رحمه الله وقد كان وكيلاً لجامعة الخرطوم.
كان دكتور بشير الشيخ أستاذاً لوالدتي حرم السر النور, في أكاديمية العلوم الإدارية فالوالدة كانت مصرفية مرموقة في بنك الخرطوم, عندما ذهبنا لدكتور بشير الشيخ في مكتبه صباحاً سردنا عليه ما حدث, فوراً قام بالاتصال بدكتور الفاتح الرشيد وطلب منه الحضور إلى مكتبه, بعد فترة ليست بالطويلة حضر دكتور الفاتح الرشيد وبدأ في تكرار ما سمعته في اليوم السابق بنفس اللغة وبنفس الخشونة وشدّما تأثرت عندما وجدت والدي يحاور دكتور الفاتح الرشيد بأن جامعة الخرطوم هي مؤسسة مرموقة وأن لديها دور اجتماعي كبير لتلعبه...... إلخ, ولم تجد كل تلك الدفوع أذن صاغية لدى دكتور الفاتح الرشيد والذي تمادى فيما كان يقوله كأن لم يسمع شيء, هنا تدخلت وقلت: " أنا متضرر أبلغ الضرر من هذا القرار الغريب وعلى ما أذكر أن هنالك سؤال في استمارة التقديم للجامعات هو: هل تعاني من أي مرض يمنعك من الالتحاق بالكليات العلمية؟ وقد أجبت على ذلك السؤال في استمارة التقديم فإن كان هناك شرط مسبق من قِبل كلية القانون يحظر قبول الطلاّب المكفوفين فلماذا تم ترشيحي للقبول في الكلية ابتداءً؟ وبذلك تكون كلية القانون قد أسهمت في حرماني من فرصي في القبول بكليات أخرى حسب تسلسل رغباتي التي أوضحتها في استمارة التقديم, فمن المعروف أن فترة التقديم قد انتهت ولا يمكن حل هذه المشكلة الآن", هنا تدخّل وكيل الجامعة دكتور بشير الشيخ محاولاً إيجاد حل لهذه الإشكالية وسألني:" إنت رغباتك التانية كانت شنو؟", أجبت عليه :" كلية القانون جامعة ....... ثم كلية القانون جامعة ........ ثم كلية القانون جامعة ........", فعلّق السيد الوكيل:" طيب دا ما نفس المجال!!", وأمّنت :"بالضبط", في تلك اللحظة أحسست أننا قد وصلنا إلى طريق مسدود وبدأ اليأس من إمكانية القبول في الكلية يأخذ مساحات أكبر في دواخلي وحينها قررت أن أنقل الصراع إلى مرحلة أعلى وفاجئت الجميع بقولي:" أنا عندي مقترح يحل لينا المشكلة دي", طلب مني دكتور بشير الشيخ بلهفة عرض اقتراحي فقلت:" الاقتراح بسيط جداً هو ان تقوم جامعة الخرطوم بكتابة كل الوقائع المتعلّقة بهذا الأمر بأن تسرد أنني قدّمت لكلية القانون وبحسب نسبتي في الشهادة السودانية فقد تم ترشيحي للقبول في كلية القانون جامعة الخرطوم وقد ظهر اسمي في قائمة الطلاّب المرشّحين للقبول في الكلية وبما أنني كفيف فقد رفضت الكلية قبولي وتتم هذه الكتابة في ورقة مروّسة من جامعة الخرطوم وموقع عليها ومختومة ومن نسختين إحداهما باللغة العربية والأخرى باللغة الإنجليزية وفي تقديري أن هذا من حقي لأن المعلومات المدوّنة ستعكس الواقع الماثل امامنا بصدق كما هو", حينها سمعت دكتور الفاتح الرشيد يهمهم بكلمات غير واضحة وأقرب للطنطنة ثم بدأت كلماته تتضح" إحنا أصلا ما كنّا عايزينك تقعد في الكلية وتربّت السنة بثلاثة سنين", أجبته بحسم شديد:" أصلا أي كلية محترمة فيها قواعد اكاديمية بتحكم مسيرة الطالب وإذا ما نجحت أرفدني وانتهى البيان", بعد ذلك جائني صوته متكاسلاً ومستسلماً:" خلاص مادام دا رأيك حأمشي أحاول أصارع ليك في مجلس الكلية عشان يقبلوك", وانتهى ذلك الاجتماع المؤذي نفسياً.
بعد ذلك الاجتماع أصبح الأمر معلّقاً وبدأت الدراسة في الكلية ولم يكن موضوع قبولي قد حُسِم, استنفرت الأسرة كل علاقاتها في المجتمع والجامعة للتوسّط في هذا الموضوع, وادين بأبلغ آيات العرفان لصديق والدي دكتور سراج اللبني بكلية العلوم ولبروفيسور سيادات ولبروفيسور مدثّر التنقاري الذي كنا قد التقيناه في إحدى رحلاتي العلاجية لموسكو في منزل صديق الوالد أستاذ عبدالعزيز محي الدين الملحق الثقافي في سفارة السودان في موسكو في العام 1990م كما توسّط قريبنا كابتن شيخ الدين محمد عبدالله, كانت المفاجأة الداوية الجديدة أن عميد كلية القانون وقت ذاك أستاذ حافظ الشيخ الزاكي ورئيس القضاء لاحقاً رحمه الله قد رفض قبولي بالكلية وأبلغ الوسطاء أنه يرفض قبولي بالكلية لأنه لايمكن تعييني بعد التخرّج لافي السلطة القضائية ولا في ديوان النائب العام, نقل لي الرفض بروفيسور سراج بكلية العلوم وهو أحد الوسطاء فطلبت منه أن ينقل ردي إلى عميد كلية القانون ورئيس القضاء السابق المرحوم حافظ الشيخ الزاكي وكان كما يلي:
أولاً: أنني مقدم للدراسة في كلية وليس لوظيفة وأن مهمته كعميد كلية هي إدارة العملية التعليمية وهو غير مسؤول عن توظيف خريجي الكلية في السلطة القضائية ولا في ديوان النائب العام فهذا الأمر خارج نطاق سلطاته واختصاصاته, ومن غير المقبول أن يحتج بهذا السبب في مواجهة قبولي للدراسة بكلية القانون.
ثانياً: إنني أرغب في دراسة القانون من اجل الدراسة والعلم وليس للحصول على وظيفة.
ثالثاً: لا أعتقد أن جميع خريجي كلية القانون جامعة الخرطوم قد تم توظيفهم في السلطة القضائية او في ديوان النائب العام.
إني أنتهز هذه الفرصة واطلب من السلطة القضائية ووزارة العدل أن توضّح للرأي العام موقفها من توظيف أشخاص مكفوفين في سلك القضاء والنيابة حيث أن هذا الكلام قد ورد على لسان عميد أعرق وأهم كلية قانون في السودان ورئيس سابق للقضاء على ما أعتقد, فبحسب علمي أن هنالك عدد من القضاة المكفوفين يعملون في المحاكم الإنجليزية المشهود لها عالمياً بالكفاءة والخبرة. ولأن الشيء بالشيء يُذكر أذكر أنه في يوم 23/9/2010 قمت بتقديم ورقة عمل في مؤتمر تمويل مشاريع البنية التحتية عن طريق نظام البوت بقاعة الصداقة, كان عنوان الورقة (الجوانب القانونية لتمويل مشاريع البنية التحتية عن طريق نظام البوت B.O.T) وكان عدد الحضور حوالي ثلاثمائة مؤتمِر من قيادات القطاع العام والخاص وكانت المفارقة أن من قدّمني في المنصة وكان يجلس على يميني مولانا محمد بشارة دوسة وزير العدل والنائب العام وقد قدمني بـ( الأستاذ العالم وائل عمر عابدين)!!
علمت في وقت لاحق أنه أثناء هذه المعمعة كان زميل لي في الدفعة يمرّ بنفس التجربة واسمه عادل عبدالعزيز النوراني وكان كفيفا وتصادف أنه يرتبط بصلة قرابة وثيقة لبروفيسور صديق الضرير بكلية القانون, لا أعلم على وجه الدقة تأثيرات هذا المعطى على ملف قبولي بالكلية, المهم أن الأيام قد مرّت وكانت الدراسة مستمرة حوالي شهرين وانا في تلك المنزلة بين المنزلتين الملئ بالتحركات المحمومة لأجاويد السودان (يعني الزول ينجح وبعد داك يشحد!) في النهاية صدر القرار بقبولي في الكلية ولكن القرار كان مشروطاً بأن أوقّع على تعهّد من شقين, فأولاً لابد أن أتعهّد بألا اطالب الكلية بأي التزامات من أي نوع كانت تجاهي, الشق الثاني أن أتعهّد بدفع أتعاب الشخص الذي ستنتدبه الكلية ليقوم بكتابة إجاباتي على أسئلة الامتحانات, للإشارة فقد كانت أتعاب ذلك الشخص تعادل ضعف رسومي السنوية, بالنسبة للسيد مدير إدارة الإعلام بجامعة الخرطوم( هل يمكن أن نسمّي ذلك تمييز؟!) دلفت إلى الدراسة متجاوزاً الغبار الكثيف لتلك المعركة العبثية وكنت أمام خوف حقيقي من السقوط في الامتحانات كما أفاد وكرر دكتور الفاتح الرشيد وبدأت أسأل نفسي كيف سأذاكر ومع من؟المهم أنني تعرّفت أولاً على أنور محمد سليمان المحامي الآن صديقي العزيز والذي أدين له بما لاتستطيع هذه السطور أن تعبّر عنه, كان هادئاً متزنا ً ذكياً وساخراً, وبمرور الأيام تشكّلت مجموعتنا أو (الشلّة) وكانت تتكون من الشهيد محمد عبدالسلام بابكر من أبناء حي الدباغة بود مدني الذي تمّ اغتياله في السنة الرابعة وقُيّدت الدعوى ضد مجهول بالرغم من أنه قد اُغتيل في الثالثة صباحاً على إثر اجتياح لداخليات مجمّع الوسط بالجامعة وهذه قصة طويلة ومريرة سنسردها في وقت لاحق, المهم أن محمد عبدالسلام كان من بادر وجمع الشلّة بغيابي وأقترح عليهم أن يقتسموا المواد بينهم وكل واحد مسؤول أن يذاكر معي إحدى تلك المواد وقد تمّ اخطاري بالجدول وقد افادني محمد لاحقا أن هذا الاقتراح قد نبهه إليه ابن خالته ياسر الأمين الذي كان في السنة الثانية مدرسة العلوم الإدارية في ذلك الوقت,فهذه الأسرة أنا مدينٌ لها بما حققته وبما قد أحققه في المستقبل, أسأل الله أن يخفف مصابهم وأن يخفف على والدي محمد عبدالسلام, وكان في الشلّة صديقي أمير محمد يوسف الهادئ الطبع والذي كنّا نلقّبه بالسنهوري, وسعد سعيد حسب الله من أبناء النيل الأبيض والآن أصبح عديلي, كما ضمت الشلة دكتور جودة بشرى الذي يعمل الآن محامياً بنيويورك, ومحمد أحمد علي آدم والقائمة تطول. عندما اقترب موعد الامتحانات أحسست ببعض القلق وراجعت إدارة الكلية للتأكيد على مضمون التعهّد , ولمرة أخرى تفاجأت فقد قالوا لي إنهم كإدارة كلية غير ملزمين بتوفير شخص ليقوم بكتابة إجاباتي على الامتحان وإنما عليّ أنا شخصياً أن أجد ذلك الشخص بشرط أن يكون هذا الشخص طالبا في جامعة الخرطوم وليس طالبا في كلية القانون, كان ذلك الأمر شديد التعسّف والمباغتة فالجامعة كلها تقريبا تدخل فترة الامتحانات في وقت متزامن ومن الصعوبة بمكان أن تجد شخصا واحداً يستطيع أن يفرّغ نفسه في تلك الأيام لأداء جميع الامتحانات, زاد ذلك الأمر من توتري المتفاقم أصلا بسبب الامتحانات, ومرة أخرى غمرني الشهيد محمد عبدالسلام بإحدى جمائله الكثيرة, فقد كانت كلية العلوم الإدارية هي الوحيدة التي لها تقويم مختلف وقد طلب محمد عبدالسلام من ابن خالته ياسر الأمين ان يقطع إجازته ويأتي من سنار لمساعدتي في أداء الامتحان وقد لبّى ياسر الطلب على الفور وعندما كنا متوجهين أنا وياسر فوجئنا بأحد موظفي الكلية بأن ياسر لن يدخل معي لقاعة الامتحان وأن الكلية قد وفّرت شخصا للقيام بتلك المهمة! .
الامتحانات في الكلية كانت قصة أخرى فلم يكن من النادر أن تتأخّر أوراق الامتحانات لنصف ساعة أو أكثر من بداية زمن الامتحان حيث أنني كنت امتحن في مكتب منفصل وكثيرا ما كنت أطارد الموظفين والأساتذة لإرسال أوراق الامتحانات لأن الزمن يمرّ, الغريب في الأمر أنهم لم يكونوا يتأخروا دقيقة واحدة في جمع أوراق الامتحانات عند نهاية المدة, الثابت في جميع أنحاء الدنيا أن مسالة الزمن في الامتحانات بالنسبة للأشخاص المكفوفين هي ضعف الزمن الأصلي المخصص للامتحان أو على الأقل يساوي مرة ونصف الزمن الأصلي للامتحان, الحكمة من وراء ذلك أنك إذا طلبت من الشخص المساعد أن يقرأ عليك الأسئلة ثم تقوم بتوجيهه لما يقرأ بالضبط من السؤال أو السؤال السابق او اللاحق وبعد ذلك تملي عليه ما تريد كتابته وتشرح له شرحاً دقيقاً أين تود أن تكتب ذلك, ثم تقوم بمراجعة ما كتب للتأكد من أنه على وفق ما وجهّته به, كل ذلك أنشطة إضافية لايحتاجها الطالب العادي وعليه فهي تستحق زمناً إضافياً (أليس ذلك تمييزاً يا مدير إدارة الإعلام بجامعة الخرطوم؟)
كانت هناك ممارسة مضحكة مبكية من إدارة المكتبة, فإذا ذهبت مع أحد زملائي لنقرأ داخل المكتبة اتى إلينا موظفو المكتبة وطلبوا منّا التوقف على الفور لأن في ذلك إزعاج لبقية زملائنا من مستخدمي المكتبة, وعندما أطلب منهم أن أستلف الكتاب لأقرأه خارج المكتبة بضمان بطاقتي كانوا يرفضون ذلك بحجة أن اللوائح لاتسمح به (أليس ذلك تمييزاً يا مدير إدارة الإعلام بجامعة الخرطوم؟) ونتيجة لذلك كنت أعتمد على ملخصات الزملاء وهي بلغة العلم مصادر ثانوية .
بعد أن أديت عدد من الامتحانات بمعاونة الموظف الذي انتدبته الكلية وكان رجلاً لطيفا ومحترماً سألني بعفوية :" انت مشكلتك مع دكتور الفاتح الرشيد شنو؟", أجبته ببساطة: "لماذا", رد:" لأنو امبارح لما كنت بجمع ورقة إجاباتك على امتحان اللغة العربية قابلني الدكتور وأخذ ورقتك وقرأها وقال لي يا فلان الزول دا إجاباته ممتازة ما تكون إنت القاعد تجاوب الاجابات دي؟".
انتهت الامتحانات وكان انتظار النتيجة ضرباً من العذاب و يوم إعلان النتيجة كانت لحظة أحسست أن القدر قد كذّب فيها من قطعوا بأنني (سأربّت وأبلّط) في الجامعة وكانت فرحة عارمة أعادت لي بعضا من توازني وابتهج والدي العزيزان وكذلك فرِح دكتور بشير الشيخ رحمه الله وأهدى لي صديق الأسرة المرحوم اللواء عوض مالك خروفاً وكتاب "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي وبالرغم من أنني لست من محبي الشعر فقد نظمت بعض الأبيات (المهردمة) عند سماعي لخبر نجاحي في السنة الأولى في كل المواد:
سرّنـي ما سمـــــعت وقــد طويـــت كل آهاتي القديمـــة وانتــــهيتُ
وولـــجت عالـــم كدٍّ كنت آمُــــــــله لذا تراني للكدّ بعد الكدّ واليـتُ
وهل يسعد من كــان مثلي براحـــــةٍ وقد غلوتُ في الأماني وغاليتُ
وغزلت من القادم نسيجــــــاً ثابتــــاً لا تختل له عقــــدة ولا خــــيطُ
وتسائلت أفكُتب عليّ البقاء في القاع وكل مـــن حوليَ ســــــــقْـــطُ
أم تراني سأحبو إلى العلياء في أنــاة وتعتثرني الحـــــياة وأخــــــــطُ
نجحت في السنة الثانية في جميع المواد وانتقلت للسنة الثالثة وعندها كان شقيقي الأصغر قد أحرز نسبة عالية في امتحان الشهادة السودانية وكانت 88.9% وتم ترشيحه للقبول بكلية القانون أيضا وكان اسمه قد ظهر في قائمة القبول بكلية القانون في المرتبة الأولى بلا منازع , للقارئة والقارئ الكريمين أن يتخيلا معي أنه مرّ بنفس المسلسل التراجيدي الذي مررت به في القبول وما اذكره أن مسجّل الكلية آن ذاك عندما ضاق بالأمر انفعل وقال لشقيقي محمد:" انتو ما يعملوا ليكم جامعة براكم, نحن النجيلة بتاعت الجامعة دي مالاقيين قروش نسقيها بيها", سأترك لشقيقي أن يحكي بنفسه قصته مع جامعة الخرطوم فهو يحضّر لنيل درجة الدكتوراه بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية .
على كلٍ تخرجت من الجامعة بمرتبة الشرف وحصلت على درجة الماجستير في القانون من نفس الكلية ثم وبواسطة منحة تشيفيننج التي يديرها المجلس الثقافي البريطاني حلصت على درجة الماجستير في قانون الأعمال الدولي من جامعة مانشيستر بالمملكة المتحدة, في العام 2007 تم احتياري ضمن أحدعشر محامياً أفريقيا لتمثيل القارّة في برنامج( محامون دوليون من أجل أفريقيا) بلندن وقد حصلت على دورات متقدمة من جامعات أوكسفورد وكامبريدج و لندن ومعهد آدم سميث وكنت محظوظاً بأن تدربت في عدد من كبريات شركات المحاماة في لندن.
ما اود الوصول إليه من كل ما سردته أننا محتاجون لأن تصبح مؤسساتنا ومجتمعنا أكثر احتراما لحقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة, وأود أن أعبّر عن احترامي ومحبتي لجامعة الخرطوم (الجميلة ومستحيلة)
ختاماً و(دون مساس بالحقوق) ألا تعتقد إدارة جامعة الخرطوم أنها ملزمة بتقديم إعتذار أدبي تجاهي على الأفعال التي قام بها بعض منسوبيها؟
المثل الشعبي (الله شافوه بالعين ولاّ عرفوه بالعقل) يعني هذا المثل ببساطة أن المعرفة ليست بالضرورة عبر شوف العين واسأل المؤمنين من كافة الأديان السماوية
(من منكم رأى الله؟)....