وقفة تعريفيّة بغفران أبي العلاء المعرّي
كتاب أو رسالة الغفران قد أملاها أبو العلاء في المعرّة حوالي سنة 424هـ، وهي تأخذ صورة رسالة إخوانيّة من الرّسائل الطّوال التّي تجري مجرى الكتب المصنّفة، لكنّها تُستهلّ بمقدّمة غير مألوفة، يستطرد فيها أبو العلاء في رحلة خياليّة في العالم الآخر، ويقود إليها ابن القارح، ويوجّه فيها خُطاه بين الجنّة والجحيم، ويلقّنه ما يقول ويفعل.
والكتاب يقع في ثلاثمئة من الصّفحات المتوسّطة الحجم، ممّا يناهز الواحدة والسّتين ألفاً من الكلمات. وقد كتبها أبو العلاء وهو رهين المحبسين، يردّ بها على رسالة رجلٍ اسمه أبو الحسن، عليّ بن منصور القارح الحلبيّ، وكان طلعة، ماكراً، يتوسّل بمراسلة عظيم المعرّة إلى الشّهرة، والاستفادة (1).
"وفي الرّسالة طرائف أدبيّة، ومقاييس أدبيّة ونقديّة، ولغويّة، وفنيّة، تدلّ على عمق الكاتب، وسعة ثقافيّة [ثقافته] وخياله" (2).
والرّسالة من أهمّ أثار أبي العلاء وأغناها، وقد رأى فيها القدماء دليلاً على تمكّن أبي العلاء من الأدب واطّلاعه حتّى أولئك الذّين تحاملوا على أبي العلاء، ورموه بسوء المعتقد ورأوا فيها صورة من مزدكة، لم يكتموا إعجابهم بما تومئ إليه من مقدرة أبي العلاء الأدبيّة.
يقول الذّهبيّ، وهو من أولئك المتحاملين: "وله رسالة الغفران في مجلّدٍ، قد احتوت على مزدكةٍ واستخفاف، وفيها أدبٌ كثير" (3).
وقد نالت الغفران شهرة كبيرة، وعُدّت رائدة، ومعلماً في درب النّثر العربي، "وحسبنا أن نقرّر أنّ هذه الرّسالة هي أوّل قصّة خياليّة عند العرب" (4)، مع أنّ بعض النّقاد قد غبنها حقّها. فطه حسين يقول: "لم يخترع أبو العلاء في هذه الرّسالة شيئاً كثيراً، وإنّما وردت أقاصيص الوعّاظ بأكثر ما فيها" (5).
وقد رَفَدَ أبو العلاء المعرّي رسالته بروافد عدّة منها: "الأساطير العربيّة عن الذّين استهواهم الجنّ، وأساطير العرب عن الغيلان (6) وحكاياتهم على ألسن الحيوان، والقرآن الكريم، وقصص الإسراء والمعراج، ومجموعة الأخبار الحديثيّة التّي تدور حول الجنّة والنّار، والقصص المترجمة مثل كليلة ودمنة، وأسمار الجهشياريّ، ورسائل الجاحظ التّي لعلّها أمدّته بعنصر السّخرية اللاّذعة.
لا يخفى على المتبصر الواعي أن التفاعل بين ثقافات الأمم والشعوب هو مؤشر صحيح لبناء الحضارات الإنسانية … فلا يمكن لأية أمة من الأمم أن تبني حضارتها بمعزل عن حضارات الأمم الأخرى فالإنسانية جمعاء قد تتلاقى في بعض أفكار وتختلف في أخرى …
تتأثر وتؤثر ومن خلال عملية التلاقح الفكري يمكن أن تولد إبداعات عظيمة تسخر من أجل خدمة الإنسانية.
ومن يرصد جهود الدارسين في الأدب المقارن يلحظ هذا التأثر ويستطيع أن يفرز أوجه التلاقي وأوجه الاختلاف في أعمال إبداعية كبيرة من أهمها رسالة الغفران للمعري والكوميديا الإلهية لدانتي فأول صيحة أطلقت بهذا الخصوص كانت للمستشرق الإسباني الكاهن( ميجيل آسين بالاثيوس) عام 1919 الذي أكد فيها أثر رسالة الغفران بالكوميديا الإلهية ومنذ ذلك الوقت والأقلام تنبري إما لتأييد هذه الدعوة أو بالأحرى الصيحة أو لتعريها من الصحة ولعل من أشهر الأصوات التي أيدت بالاثيوس في دعواه محمد كرد علي الذي قال :" أعمى المعرة كان معلماً لنابغة إيطالية في الشعر والخيال " وكذلك الياس أبو شبكة الذي قال :" إن الشاعر الفلورنسي قد نسخ خطة المهزلة الإلهية عن رسالة الغفران ، واستعان بالشاعر فرجيل في طوافه مناطق العقاب والثواب"… وهناك عدد من الإيطاليين الذين وافقوا الكاهن بالاثيوس أيضاً وأقروا بتأثر دانتي برسالة الغفران وبعض المصادر الإسلامية وأهمهم المستشرق "انريكو تشيرولي" والمستشرق"كارلونللينو"
والسؤال الذي يطرح ما هي أوجه التشابه أو الالتقاء وما هي أيضاً أوجه الاختلاف ما بين العملين الإبداعيين …. وإن كان هناك التقاء فهل يمكن إعادة ذلك إلى التشابه في أفكار ومعتقدات الشعوب؟ أولاً لا بد من القول إن رسالة الغفران هي رحلة إلى العالم الآخر ، وكذلك كوميديا دانتي هي رحلة إلى العالم الآخر … ويؤكد عيسى الناعوري في كتابه (أدباء من الشرق والغرب " من الأدب المقارن ") أن في رسالة الغفران حديث مع أهل العالم الآخر ، وفي الكوميديا الإلهية حديث مع سكان العالم … لكن عند هذا الحد تقف أهم نقاط التلاقي بين العملين الأدبيين ثم يختلف كل شيء بعدها اختلافاً كبيراً في العقلية والعقيدة والمضمون والأهداف والغايات والمشاهد والأساليب والتخيلات.
ويشير في دراسته أن الرحلات إلى العالم الآخر هي أقدم من المعري بكثير جداً وسبقه إليها القديس يوحنا في رؤياه ، وكذلك سبقته قصة الإسراء والمعراج وعشرات القصص والحكايات التي تتعلق بالرحلات إلى عالم ما بعد القبر… ولا شك أن دانتي قد اطلع على إلياذة هوميروس وأوديسته وعلى إنياذة معلمه الأكبر وقائده في طرقات الجحيم الشاعر الروماني فرجيل ومما لاشك أيضا أنه اطلع على رؤيا القديس يوحنا خصوصاً أنه رجل كاثوليكي وتلقى تعليمه في دير الفرنسيسكان وهذا يعني أن صاحب الكوميديا ليس بحاجة إلى التقليد لأنه مبدع ونابغة حقيقي فرض أدبه على عصر النهضة الأوروبية كله
والكوميديا الإلهية كما يقول عيسى الناعوري : قصة حب وسياسة ودين في إطار أدبي رفيع وأسلوب فني رائع ، وحين وضع دانتي كتابه ( الحياة الجديدة ) الذي يحتوي على قصة حبه لبياتريشي بورتيناري، وقصائده فيها ، وعد في نهاية الكتاب بأن يقول فيها ما لم يقله محب في حبيبته فقط"
ولأن دانتي نفي إلى الخارج بعد أن تقلب في مناصب عدة وعاش مشرداً ولكي ينتقم من خصومه السياسيين ورجال الدين ويكافئ محبيه وضع الكوميديا في ثلاثة أجزاء هي( الجحيم – والمطهر- والفردوس) وطاف فيها بالعوالم الأخرى بحثاً عن حبيبته بياتريشي ورمى في الجحيم بكل أعدائه وأعداء بلده ووضع في المطهر من كانت ذنوبه خفيفة ورفع إلى الفردوس أحباءه ومحبي بلده.
والناعوري في كتابه المذكور يوضح أن في كل هذه الرحلة لا تلتقي الكوميديا في شيء مع رسالة الغفران وإن يكن في الجحيم بعض المشابهة مع إلياذة هوميروس وأوذيسته… أما الفردوس فكان صورة عن عقيدة دانتي الكاثوليكية الخالصة وقد حاول نقل آراء بعض الكتاب العرب في الرسالة والكوميديا ممن درسوا هذين العملين الإبداعيين دراسة متأنية واعية وهم الدكتور حسن عثمان مترجم جحيم دانتي عن الإيطالية مباشرة الذي يقول : "إن الصلة ضعيفة بين دانتي وأبي العلاء ، لاختلاف الطريقة والمضمون العام في كل منهما وإذا كان في الكوميديا أوجه شبه بما سبق دانتي من الأفكار عن عالم ما بعد الحياة ، فإنها تختلف وتتميز ببنائها وتفصيلاتها ومضمونها وهدفها"
أما مصطفى آل عيال صاحب كتاب ( دانتي ) في سلسلة اقرأ فإنه يقول :" إن الكوميديا الإلهية هي معرض حي للصور الشخصية تبقى منقوشة في مخيلتنا أحسن ما يكون النقش… أما عند المعري فالأمر على العكس تماماً ليس لأشخاصه وجه بالتعيين يستلفت النظر"
أما الدكتورة بنت الشاطئ فقد أكدت في كتابها «الغفران» أن لا تشابه بين العملين سواء من حيث الشخصية أو من حيث الفكرة تقول : " فالرحلات الخيالية إلى العالم الآخر فكرة إنسانية مشتركة … تحدثت بها الأساطير قبل أن يولد أبو العلاء بدهور وعرضتها الأديان عرضاً مفصلاً "
وأضافت تقول: " لقد لمحت في جنة دانتي العالية تصويراً للفكرة المسيحية… لكن شيئاً من ذلك لم يذكرني بالغفران في جنته الحافلة بالملذات المادية"
وأخيراً نقول : إن تأثير دانتي برسالة الغفران أو لم يتأثر فإن هناك نقاطاً تتلاقى فيها أفكار الشعوب لأن الآمال والآلام الإنسانية مشتركة وإن اختلفت الأهداف وهذا الالتقاء يشير إلى أن الأعمال الإبداعية الخالدة إنما اكتسبت خلودها لأنها كانت تصب في خدمة الإنسان أينما كان في الشرق أو الغرب … في الشمال أو الجنوب … فالإنسان هو الإنسان مهما اختلفت معتقداته وأديانه لأنه لا يستطيع أن يتجرد من ذاك الحس الجميل الذي نسميه الإنسانية .
[/font][/font][/font]