علاءالدين الدفينة
في ذكرى حبيبتي تاليا..
كنت أحملها بين زراعي وأجري بها ما بين قسم الاطفال(الذي كان مستشفى) وحوادث مستشفى رفاعة في مسافة لا تقل عن 450مترا ..أعدوا بها بحثا عن ذرة هواء تتنفسه.
تاليا صعدت روحها لبارئها في السادسة صباحا يوم الاربعاء 1/6/2001 بحوادث مستشفى رفاعة العام بعد أن فضحت حجم التردي الذي لحق بمرافق بلادنا الصحية..مضت ولم تبلغ شهرها الثالث لتخلف وراءها قضية طالت وزير الصحة والمعتمد وإدارة مستشفى رفاعة العام..هي حية فينا تذكرنا بضرورة مواصلة الكفاح والنضال ضد هذه القاذروات..مضت مخلفة وراءها ضجة ما أنتهت بعد ولن تنتهي..مضت يومها مع خمسة من رفقائها الصغار صاعدة روحها للسماء لتترك فينا جزوة الثورة التي لن تنتهي إلا بسقوط الطغاة..لم أنعي تاليا حتى الآن لكنني في ذكراها دوما أدندن بالذي كتبته بدموعي ذلك اليوم وهو ما تتابعون أدناه...يومها جعات من تاليا كل أطفال السودان فأجعلوا اليوم من كل أطفال السودان تاليا..فقط حتى لا ننسى ولا تسقط الجريمة.
ثلاثة مرات أحاول الكتابة ..وتهرب الكتابة..وتعلمين حبيبتي بأن حرفتي الكتابة..حروف رسالتي يا حبيبتي وقصيدتي ويا سر أسراري وعبق أنفاسي ومبعث شدوي ولحن نايي يا تغريدة الحديقة ونسمة الاجواء يا لغتي ودلالتي ولكنة لهجتي ودلالة لغتي يا أجمل الالحان وأروع الالوان ويا أأمن الاركان تأبى أن تطاوعني ..فالفكر مشغول بك والقلب مفطور لك..والحبر منحور بنصل مأساتك وكل اوراق القراطيس التي عهدتها متكومة في ذهول ..تكفكف الدموع..فمنذ أن شهدتك تخرجين للوجود..شهدت الوجود..عرفت كيف ترقص الورقاء وشهدت كيف النحل يسعى في الساحات ينتظر الاله ..علمت كيف النمل لا يركن وكيف تمضي الفراشات في المساء تطارد الضياء وكيف تحترق على لظى النيران بحثا عن نور وبارقة وباقة إرتقاء..وكيف تسعى في الغدو الساعية وتهجع ما حل المساء..وعرفت يا لغة النشيد ويا حس القصيد كيف يخضع السجاد في السجود وكيف يخشع السجاد من تحت الساجدين لصانع الوجود..وعرفت غيثارة الحداة أن العدل فلسفة الشريعة وعلمت أن الحقيقة (أن توازي ما علمت بما تمارس من سكون وأن تسير مع الاشياء وأنت تدرك أنها الاشياء وأن تبقى مع الحقيقة حيثما أتجهت لتبقى دليلا للحياة)..وعلمت أن أروع الاحساس أن تدعو الاله وتبدع في الركوع مهابة ..وتجزع في السجود رقابة ...وتصطلي بنار الخوف عل النور يغسلك وعل رجاء النفس يفلق في القلوب عقل التدبر والتنذر والمثول...فما اروع الرحمن.
سلبوك في يوم الفداء حبيبتي..نحروني إذ نحروك..مغروسة أنصال عار العهر في هذا الوطن من الوريد إلى الوريد..وريدك الرافض لأن يطل في يومك المشهود قد عرف الحقيقة وآثر الانزواء..سرقوك يا غابة كبرياء..يا أطنان عشق بل يا كل الرثاء..سلبوك وها هم بجريرتهم قد سلبوا القمر الضياء..سلبوا الكرامة والشهامة وخطوط سير الناظرين ..سلبوا الحقول ترنيمة العشاق ..سلبوا نسائمها وظلال هجير الغيط ..سلبوا المياه معادلات الاكسدة وقد سلبوا النزاهة معنى التجرد وما أستبقوا حياة..ما تركوا للقيمة السمحاء بعضا من حضور ..وترينهم وأدوا الضمير وقاتلوا كل البراءة ..هم خاصموا لغة المشافي بالتشفي وروعوا رفاق أيامك بوخذهم الدنئ..إبرتهم يا تاليا ..ما وخذت وريدك بل فجرت كل الالم ..مغروسة في قلبي وفي اللحم والعظم وفي الدم..إبرتهم أيتها النورية ما عبرت غضك الميمون بل قتلت كرامة أمة وأعلنت موت الضمير...ما قتلوا عينيك إذ قتلوك..بل قتلوا الحقيقة .. وما ذبحوك إذ ذبحوك..بل ذبحوا الضمير.
سأنبئك اليقين يا تاليا...سأبوح بالسر الاخير...
روحي تأبى أن تلين وترفض فك الارتباط..وتتوقق للقياك الوعد..بحثت في الارجاء عن إجابة فلم أجد سوى عار الزمن في هذا الوطن الذي أوله دماء..وآخره دماء..وكل أشكال النفاق ووضاعة الجبناء..وكل إسفاف الاحن..
قبيل إعلان الخبر بساعات قليلة سألني الهطال(شقيقها) وتعلمين عشقه الفريد لك..(بابا...بتجيبوا تاليا متين؟) فأجبته (بكره)..ولم أكمل الاجابة...ستأتيكم جنازة...
إنتحب الهطال..فلتعلمي الحقيقة..ومثله القسام(شقيقها) قد أدى الضريبة..وصولة(شقيقتها) المشاغبة ..فارقها الالق..وأضرمت نار النحيب..يجاوبها النحيب..وغابت ضحكة الوشاح..فذات الوشاح(شقيقتها) يغلبها الوجوم.
وأمك الحبيبة..لا تكاد تصدق الحقيقة..وإن سمعت بكاء خديج أو خلت بنفسها تدندن بالقصيد..تغلق بالوسادة مسامعها وتروح في عالم غريب..ما برحت دموع فراقك مآقيها..مآقي الكون كل الكون..ودموع الحزن ترسلها..وترسل الزفرات..لكنها موحدة.
عشاقك ما بخلوا عليك بالرثاء والدموع والبكاء..لكنه رثاء ودموع وبكاء..
ورفاعة التي تعلمين هي رفاعة التي تعلمين..
والسودان الذي تركتين هو السودان الذي تركتين..
وقد أنكر طبيبك الاهمال ونقص الاجهزة..وأقسم بالعناية وكل الاكسدة ..وأنكرت إيمان _طبيبتك_ مرورك المأساة بها...وأنكر القانون عدالة القضية..ولم يشهد الشاهد بالحقيقة..ودفعوا القبور لشهادة الزور..وما أعتمد المعتمد عار الرزيلة..وأستوزر
الوزير بسور الجريرة..ولم يفهم الوالي الغبي ولايته الرشيدة..وهل تنطق الاصنام يا أجمل قصيدة بأن دفاعهم في لاهاي عن جرم البشير أعظم عندهم من تاليا البريئة...إعلمي حبيبتي تلك هي الحقيقة..فسهام عينيك طلقة ..وصرختك الحزينة أعظم عندهم من كل البنادق والمشانق..هي عندهم كل الجريمة.
سأنبئك اليقين يا تاليا:
سأنبئك اليقين يا تاليا...
ضج الكون بإسمك صرخة...تاليا..تاليا...تاليا...وكان بصدرك بعض دماء وحليب ودواء..وطبيبة تحاول أن تنقذك..وحشود رفاقك بالعنبر..وقفت تدعوا الله كي يغفر...فمن هذا العنبر عبرت أكفان نحو القبر..وكانت أكثر...من هذا العنبر خرجت جثث صغار توأم ..وكنت أراقب في الاكفان..وتنام القطة كنوم الجثة بنفس العنبر..كانت كل الصورة تقول الموت..أمك تصرخ وأخرى تولول ورجل يسأل وآخر يسعل..وكنت أصلي هناك... بل أكثر...حينا أصغر وحينا أكبر..وقلت الحمد لك يا ربي..حمدا أعظم ..حمدا أكبر..سبلت عيناك الناعستنان ..وعين الله محال أن تغفل...وهمدت رجلاك عن الدوران..وقلبك الموجوع كف عن الخفقان...
فوضعتك على سريرهم القذر...وطلب أمك الأخير إتكاءة بصدرها النضير...وقد ضمتك بشئ لا يوصف...وكان هذا آخر الاحضان...فمن هناك كان حضنك القبر الذي تتوسدين.
وأشتريت لك الكفن...لكن وكيل النيابة الذي يرى ما لا نراه..رأى أن نبش قبرك ضرورة...ورقادك بحاجة لمشورة .. وأوصى ...ليس كفنا واحدا لتاليا....بل كفنان..ووافقته يا تاليا..فإن أقلقوا مضجعك ..فأعلمي هي هذه نهاية الطغيان في كل مكان..إنه يومنا المشهود..ووعدنا المنتظر..قلقك ..جريمة لن تغتفر.
فتحت بلاغا للتقصي...وقالوا دعوى ضد المعتمد!!!..أمر غير محمود وشيئ لا يعتمد...وجريمة عظيمة شكوتي ضد الوزير ...أليس هو ظل البشير؟...وجئت بشرطي شاهد...فخيروه بين الزور أو جحيما في دارفور...فآثر العار وشهد بالانكار...أرايت يا تاليا....هو قانون الارض الذي تركتين...فكيف قانون السماء الذي تدركين؟....هو لن ينهار.
أنا لم أخذلك يوما ولم يخذلك الثوار...فجريمة الصباح في وطني عقابها عند النهار...وفجيعة الظهيرة يا تاليا...فثورتها مساء...وتأتي مهما طال الظلم فأصل الذهب أن يصقل بنار...
فقري عينا بالرجال.
يا تاليا...
سيكون نصر المعتمد في هذه البلاد وأحتفال وزيرها وكل أنشطة الامن بها ورسالة الشرطة وفلسفة السياسة للمؤتمر هو خسارة القضية..وموقف النيابة ’ الدفاع عن العار بالانابة..وستدفع بها النيابة _قضية لاتعتمد_فمجرمها وزير ولسان حالها معتمد..فجريمةُ جر الوزير لدار قضاء..ونكسة قانون عظيمة أن يشهد المعتمد في قاعة الحكم الرشيد بأنه مقصر في الاداء..وأعظم مصيبة قول إدارة المستشفى أن بالاجهزة خلل ونقص..وبالاطباء بعض عجز...وأن الاسًرة فيها العارية بحاجة لكساء ورداء...أولم ينكروا بمعمل الاشعة على يدي عمتك وقفتك الحزينة..وأنه لا صورة لك ولا علاج إلا بعد تغزيتك للخزينة...؟؟؟
صدقيني قد فعلها مديرهم الطبي الهالك (ناجي) وأنكر الوسيلة أنه لم يهملك حينما أهمل الاجهزة..ولم يهملك حينما لم تجدي بعنبر الاطفال طبيبا مناوبا..بل لم تشفع لك عنده رجاءآتي بالاياب متعللا بزمن الدوام وليس في الامر غياب...أبعد هذا ترين في الوسيلة أنه وسيلة؟...ربما للقبر هو أنسب الوسائل والادوات..وقد ينجو( ناجي) بالدنيا ولكن أفمن عدل الله هل من ناج؟.
سأخبرك اليقين يا تاليا..مهما تأخر الاحرار ..سيقدم الثوار...سيأتون...
فيا ثوار بلادي في كل مكان...ويا أحرار بلادي بأي مكان...
إجعلوها آخر الاحزان.
....
إنتهى..
عادت بعد ذلك مستشفى الاطفال برفاعة كمستشفى متخصص للأطفال وذلك في يوم 17/7/2011 وكونت لها إدارة ولجنة منفصلة كما تم حل إدارة مستشفى رفاعة العام..
في هذا العام بدا شباب رفاعة النهضة في تشييد مبنى من ثلاث طوابق بمستشفى الاطفال..
تلقى المستشفى بعدها دعومات متواصلة من الاموال والاجهزة وأغلبها دعومات أهلية..
هذا المستشفى تم بناءه بواسطة بن رفاعة فريد نصر الله وقفا لروح والده ثم دمرته الادارة السابقة تحت أعين وبصر مؤسسات الدولة المعنية حتى صار خرابة ثم عاد لدوره بعد هذه الحادثة.
كانت كل المشكلة ترتبط بمنظم أوكسجين قيمته فقط 250ج راح ضحيته هذا العدد من الاطفال.
سيظل كل أطفال بلادي تاليا حتى نرى نور الفجر الجديد..
فأجعلوا تاليا في عيون كل الاطفال ببلادنا..
وأعلنوها ثورة حتى النصر..فهي كذلك بالنسبة لي من 30/6/1989.