مع تتابع أيام الشهر الكريم ولياليه أمام المؤمن الصائم أبواب التأمل والتفكر في معاني الصوم ومعطياته , ويتوجه بقلبه وفكره لاستجلاء الدروس الرمضانية التي أودعها الله في هذه العبادة , وليس هناك درس أبلغ من ظاهرة الجوع التي يمر بها الصائم خلال أيام الشهر المبارك فهي تختصر الأفكار والمطلوب من الصائم استيعابها , إذ أن الم الجوع من أشد الأمور إيلاما للأنسان , ولكنه في رمضان دواء وليس عقابا , فهو دواء للنفس المتكالبة على الحياة وكابح لجماح شهواتها التي لا تعرف حدودا في التمادي والتمرد على القيم والأخلاق , وهو كذلك واعز للتفكير الإجتماعي الذي لا يتوقف عند حدود المصلحة الشخصية بل يشمل باهتمامه كافة قطاعات المجتمع , وبالتالي يقف الناس سواسية بوجه المعاناة الشاملة ,وهذه هي الخطوة الأولى في صنع المجتمع المتماسك هذه الأفكار كثرا ما طرحت عند الحديث عن الصوم وفوائده , وليست طرحا جديدا خارجا على ما هو مألوف بين الناس , أما إعادة طرحه في كل عام فلا نضمن فعاليته وتحوله إلى سلوك وعمل , فما هو مطلوب إذن هو أن يصبح الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين دافعا لطرح مشاريع عمل إجتماعية تكافلية توفر للمجتمع الإسلامي إكتفاءه الذاتي وتضع نهاية لاحتياجاته المستمرة للجهات الأخرى غير المسلمة , فالتماسك الداخلي في صفوف الأمو هو أهم شروط الصمود في وجه التحديات السياسية والعسكرية والإقتصادية التي تحدق بالأمة من كل مكان , كما كان الحال في الماضي , فإن الحاضر لا يقل ضغطا على المسلمين وتحديا لهم , والتكافل المطلوب هنا هو ذلك الجهد الذي يستهدف وضع نهاية للأنانية والفردية في التعامل وبطرح الوضع الإجتماعي للأمة أساسا لسلوك الفرد فتصبح سعادة الأمة هي سعادة الفرد وشقاؤها شقاؤه.
والتاريخ الرمضاني يحتوي على هذا الفهم لفريضة الصوم . ولا يجد الباحث صعوبة في فهم وبحث الأحداث المصيرية التي حدثت في الأيام الأولى للأسلام خلال شهر رمضان , فغزوة بدر التي حسمت الموقف السياسي خفي الجزيرة العربية والى الأبد لصالح الإسلام أوضحت انظلاقة الصائم وعزمه على مواجه أعداء الأمة رغم عدم التكافؤ بين موقف الصف الإسلامي وموقف الصف الآخر من حيث العدة والعدد ومن ثم إنتصار المسلمين بشكل حاسم وتقهقر العدو مهزوما , حدث ذلك في شهر رمضان المبارك ليصبح درسا يفهمه المسلمون وتعيه الأجيال على مر العصور , وهذا لا يعني أن المسلمين كانوا بدرجة واحدة من الإصرار والحماس فقد اختلفت الآراء ورأى البعض التخلف عن الركب واللجوء إلى أسلوب المناورة الدبلوماسية مع العدو بينما رأت الأكثرية أثبات قوة الإسلام ميدانيا , فكان لهم ما أرادوا , وأعز الله الإسلام بجهادهم , ولكن سمات ذلك المجتمع (وإن كان صغيرا) أهلته لخوض حرب فاصلة خرج منها منتصرا , فالتكافل الإجتماعي الذي ساد مجتمع المسلمين الصغير منذ أن حدثت الهجرة قبل غزوة بدر بأقل من عامين كان ذا أهمية كبرى في شحذ الهمم ودفع المسلم لساحات القتال , هذا إضافة إلى ايمانهم بعدالة قضيتهم وبالبعد الرباني لها إن الدرس الرمضاني بليغ في أهدافه ولكنه يحتاج لاستيعاب كامل وأن صوم المسلم يبقى ناقصا (من حيث الإستفادة الفعلية من فريضة الصوم ) مالم يتمكن من هضم الآثار الحقيقية للصوم على حياته بكل مجالاتها , إنها عبادة , ولكنها على مستوى الأمة , وإنها إستجابة لأمر الله ولكن من أجل أن تصبح أمة المسلمين على إرتباط دائم بقيادتها الربانية واسلام أمرها لله وعدم الخضوع لأعداء الله والأمة .