وتبيّن لنا أن لله تبارك وتعالى أفعالاً في قلوب عباده، يعطيها لمستحقها إذا بلغ مرحلة من مراحل القلب، سواء كانت المرحلة رقياً أو دركاً. فالطهارة والتزين والتثبيت والهداية، من خلق الله أو إنشائه في القلوب المترقية، وللدرك أحوال أُخرى، ولا تتفق القلوب على المودة والألفة إلاَّ بالمحبة الخاصة التي وعد الله أهل التقوى أن يؤتيهم كفلين منها.
والإنسان وإن كان يولد بقلب سليم على الفطرة، إلاَّ أنه قابل للانحراف، لا عاصم له من وساوس الجن والأنس، إلاَّ بالتمسك بما يحييه ويرتقي به في مراتب الإيمان. وهو محل الميل والإرادة، فإذا مال إلى الهدى فهذه إرادة الرحمن، وإن مال إلى الضلال فبغية الشيطان، والقلب المريض اتضح لنا أنه لا يخلو من أحوال: كالغل والغلظة والغيظ والإباء، وكلها مراحل كبر أو نفاق أو كفر لا يخرجان عن الملة، وفصّلت القول مستشهداً بقول السلف في هذه الأحوال، متى تكون مرضاً من أمراض القلوب، ومتى تخرج من الملة، وكيفية معالجة هذه الأمراض، مع توضيح لأثر الذنوب على القلوب، مستدلاً على ذلك بنصوص الوحي الكريم.
وحتى أوضح أخر مراحل موت القلب، فصّلت تعريف الموت وأنواعه وأوجه وروده في القرآن الحكيم، مع ذكر الآيات التي تدل إشارة إلى موته، فلا بد من الحيطة، إذ كثير من المشركين أزيحت الغشاوة عن قلبه فآمن، وهذا يعني بالضرورة: أنهم لم يبلغوا المرحلة النهائية من مراحل موت القلب، وتبيّن لنا أن هناك صفات وحالات، تمر على القلب المتهالك في المرض، فتقوده إلى الموت التام، كاللهو والغمر والإنكار والاشمئزاز والإكنان وما تابعهم من صفات، حتى يشرب القلب حب المعاصي، فتقوده إلى الطبع ثم الختم عليه، وكل ذلك راجع إلى ما كسب العبد من الخطايا والرزايا.
وتحدثت عن مقر العقل والفرق بينه وبين الفكر والنظر، وبيّنت أن التعقل عمل من أعمال القلب، وليس هناك عين بذاتها في الإنسان تسمى العقل، مستأنساً بأقوال العلماء في شرح الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، فقادنا هذا إلى أن موضع التمييز والاختيار وإلزام الحجة هو القلب، وحتى يتم التوضيح أكثر عرّفت الفهم ومراتب الناس بالنسبة لتعقل وتعريف العاقل، كل ذلك يقودنا إلى مراتب المعرفة عند الإنسان، سواء كانت معرفة مباشرة أو غير مباشرة للقلب، وظهر لنا أن زيادة أعمال الخير فَتْح من الله تبارك وتعالى، تدل على ترقي الفهم الذي يقود إلى التعقل، ولا يتم ذلك إلاَّ بزيادة الإيمان، أو بخصوصية المشرع للصفوة الطاهرة، برجحان القوة العملية الإرادية أو القوة العملية النظرية.
والمهم أن يكون العلم بتدبر وانتفاع وتصديق وطاعة، حتى يؤدي ذلك إلى تعظيم الله. أما العلم القاصر على الاستمتاع الدنيوي فقط، فهو درك يهوي بصاحبه. وتحدثت عن وسائل المعرفة غير المباشرة للقلب، كالسمع والبصر ووظائف كل منهم، بقدر ما يحتاج إليه البحث مع بيان أهميتها بالنسبة للإنسان.
أما المعرفة المباشرة فهي الرؤى والأحلام، وظهر أنه بقدر الإيمان وبرقيه تزداد المعرفة عن طريق الرؤى، وكذلك الخاطر والإلهام والتحديث، وتقييد كل معرفة بقيود شرعية موافقة لمرضاة الله، مع توضيح مراتب كل معرفة، وما يترتب على ذلك من مخاطبات ومكاشفات، وإسناد ذلك كله على أقوال السلف الطاهر، ثم الفراسة بصفتها نوع من أنواع المعرفة، وختمت أبواب المعرفة بكلام الله لأنبيائه بصفته أعلى أنواع المعارف وأشرفها, وأرقاها، مع تفصيل مستند من الوحي.
وأتمنى على الله تبارك وتعالى، أن يتبع هذه البحث ببحوث متممة تسانده وتوضحه أكثر وأجلى لتتم الاستفادة منه على ما ينبغي، ومن ذلك التوضيح التام لكل حالة تكرر ذكرها في الكتاب والسنة بتفصيل، كالتقوى والطمأنينة والسكينة، وكذلك المعرفة: فهي أنواع، كل نوع تتكون منه رسالة علمية يستفيد منها المسلمون، كالرؤى، فقد كان اهتمام الرسول ? بها كثيراً، فلا بد من وضع قواعد لها مستقاة من الشرع، وكذلك التحديث والإلهام وفراسة المؤمن.
ومن المواضيع التي يحتاجها هذا البحث، معرفة النفس أحوالاً وتفصيلاً، لا دراسة عامة كما هو مشاهد، بل حَوَت من الأحوال والصفات أكثر من ثمانين حالة ما بين حياة ومرض وموت، ومدى ارتباط الحالات بالقلب، مع التركيز على التفريق بين أمراض النفوس وأمراض القلوب. فدراسة فردية يمكن أن تلم بالموضوع أمر من الصعوبة بمكان، فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في فضل نفسه، وأثبت الناس عقلاً أشدّهم اتهاماً لنفسه. نسأل الله جلّت عظمته أن يلهمنا الصواب في القول والعمل.
ومما نختم به، قول الحبيب المصطفى ?: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.