رانيا مأمون
ما حدث لأخي وأختي وأنا ليس نشازاً، إنه حدثٌ يتناغم جيداً مع سياسة هذه الدولة ومنهجيتها في إدارتها البلاد وإخضاع العباد. أمرٌ ظلَّ يحدث لما يقرب ربع قرن، قُتل خلاله أناس، اختفى أناسٌ، وتشرَّد آخرون، ومرض الكثيرون أمراضاً عضوية ونفسية وعقلية لا حصر لها، ومازال مصير البقية مجهولاً.
لقرابة ربع القرن يُعتقل السودانيون يُنتهكوا ويعذبوا ويقتلوا بدمٍ درجة حرارته صفر، دون طرفة عين أو رجفة قلب. من منكم لم يسمع ببيوت الأشباح وما يحدث فيها من انتهاكات فظيعة تستبيح الجسد وتتجذر في الروح وتنبش بمخالبها كرامة الإنسان، لتسيل قطرات حمراء طازجة وحزينة على أرضية تلك المعتقلات وجدرانها.
كم من دموع انهمرت، ليس خوفاً أو فزعاً أو انهيار إرادة، لكنها دموع الذل والمهانة التي يكابدها المرء هناك. كم من مآسي وعذابات أغرقت الصغير والكبير، المرأة والرجل، وكل من وقع بين براثن هؤلاء، أجهزة الدولة الإسلامية الشمولية الرسمية منها كجهاز الأمن والمخابرات والشرطة، وغير الرسمية في الكتائب والفصائل التي تُدرب وتُعبأ بكراهية الشعب ومعاداته، والمتأمل في هؤلاء الأفراد الذين ينفذون أوامر السلطة وتوجيهاتها جلُّهم في الأساس ينتمون لشرائح اجتماعية معينة في المجتمع، ومعظمهم غير متعلمين أو ذويي تعليم شحيح، ومن أسر انهكتها الأوضاع الاقتصادية فاستقرت في حضن الفقر لأجيال، من شرائح مظلومة ويؤلمها هذا الظلم رغم استسلامها له، يجُند أفراد منها ويتم استغلال شعورهم الدفين بالظلم فيحُقنوا بالكره والعداوة والحقد، وتُغسل عقولهم وتحُشى بما تريده هذه السُّلطة غير الرشيدة، ومن ثم تدريبهم على العنف والاستعداد للقتل، ويُطلقوا بعدها للتنفيس عمّا بداخلهم من ظلم اقترفته السلطة في حقهم، ولكن بدلاً عن توجيهه نحوها، تتوجه طاقة الغضب هذه نحو الشعب وتخرج الأحقاد التي شربوها على مرِّ الأيام.
هذا الغضب والحقد والتشفي هو تماماً ما خرج على جسد أخي وأختي وجسدي، ضرب وحشي، نابع من نفوس متوحشة ضارية تستمتع بتعذيب الآخر كأنها نزهة في حديقة بهيجة. لا يمكنني أن أصف ما حدث بأنه ضرب، أو ضرب متوحش، أو أي صفة؛ لأن ما عشته متجاوز لأي توصيف، لا يمكن لأيٍ كان الشعور به تماماً إلا من عايشه، الآلام لا توصف وإنما تُعاش.
وأنا داخل الزنزانة لاحقاً فكرتُ فيمن مرَّوا بهذه التجربة، وأكبرتهم وشعرت بعظمتهم وقوتهم، لكن قبلها شعرت بآلامهم وتوحَّدتُ معها، كما توحدَّتُ مع ألم شقيقي النازف دون معالجة أو حتى السعي فيها، وتوحدتُ مع ألم شقيقتي النفسي وهي المصابة بمرض السكر لدخولها في تجربة مريرة كهذه.
حدث هذا يوم الاثنين 23 سبتمبر 2013، حوالي الخامسة وخمس وأربعين دقيقة مساء، بودمدني، اُعتقلنا من تظاهرة سلمية في حيٍّ مجاور، تنديداً بقرار رفع الدعم عن المحروقات والذي ينهك الحالة الاقتصادية المنهكة أصلاً، ضُرب أخي الشيخ وشجَّ رأسه في ثلاثة مواضع حسب التقرير الطبي، الجرح الأول بطول 6 سم والثاني بطول 2 سم والأخير 1 سم، وكسرت الترقوة وكدمات متفرقة في الجسد النحيل، ورغم هذا لم يُسمح لنا بالذهاب إلى المستشفى لإيقاف النزف وتطهير الجراح، بل كانت دماؤه تسيل طيلة المساء والليل إلى أن غاب عن الوعي.
أما أنا فقد ضربني عدد كبير من الجنود الذين تكاثروا كالذباب، بتوحش ورغبة عارمة في الإيذاء، ضربوني بعدد من الخراطيش لا يمكنني حصرها، لكن يمكن تتبع آثارها التي خلَّفتها على كافة أنحاء جسدي، جروني على الأرض، ونعتوني بأقذع الألفاظ ونابيها وهُددت بالاغتصاب الجماعي، وتحرش بي أحدهم، تخيلَّوا!
مع استمرار الضرب وصلتُ لمرحلة من الألم لم أشعر بالضربات التي تلتها، تخدَّر أو تيبَّس أو تبلَّد جسدي أو تحوَّل إلى جوال قطن، أصبح يتلقى الضربات العنيفة دون مبالاة أو أدنى حسّ، فأن تتألم حتى يتخدر جسدك لهي مرحلة بالغة من الألم والعذاب. حسب التقرير الطبي كدمات متفرقة في الجسم وضربة على الكتف اليمنى وجرح في الذراع اليمنى، وكدمات في الرأس، نزيف تحت الجلد في الجفن العلوي والسفلي للعين اليسرى ونزيف تحت الملتحمة مع تورم واحمرار.
أما أختي عرفة توجد كدمة على الرأس، وكدمة على الجبهة وكدمات على المرفق الأيسر حيث جروها على الأرض.
قضينا حوالي الساعة في القسم الجنوبي كُلبش شقيقي وأُجبر على الجلوس على الأرض وتعرضنا لاستفزاز متواصل من قبل أفراد الشرطة، ومرة أخرى هُددت بالاغتصاب داخل قسم الشرطة أمام معتقلين آخرين وأخي وبعض أفراد الشرطة! تعرضنا لعنفٍ لفظي ومعاملة غير إنسانية، ولهجة ترهيبية وتهديدية، وضُرب أخي عدة مرات بأحذية الجنود، بعدها تمَّ ترحيلنا جميعاً إلى القسم الأوسط.
إذن هذا ما يحدث في مراكز الدولة الأمنية!
بعد ترحيلنا نحن الثمانية امرأتان وست رجال، وضعنا في زنازين وفتحت بلاغات ضدنا تحت المادة 163، الشغب، طالبنا بأرونيك 8 للذهاب إلى المستشفى ولكن ماطلونا بحجة أنه لا توجد سيارة لتنقلنا فكل السيارات في مواقع الأحداث، وكذبوا علينا أن الأُرونيك جاهز فقط ننتظر مجيء سيارة، وهذا ما لم يحدث إلى أن أطلق سراحنا بعد ما يقرب من أربعة وعشرين ساعة، وأخي سابح في بركة دمه.
في الزنزانة قضينا ليلة عجيبة صحبة الجراد والجندب و(أبو الدقيق) وحشرات صغيرة سوداء تتسلل داخل ثنايا الجسم، وهي أسلوب تعذيبي لئيم وخبيث، صرنا نُخرج جرادة من ملابسنا ليدخل جندب، نخرج الجندب لنشعر بدبيب حشرة ملساء تقرص أينما وجدت نفسها. الزنزانة مظلمة مع وجود كشافة ضوئية في أعلى الحوش المسقوف بشبكة من السيخ، مكتب البلاغات مظلم وتقع خلفه الزنزانة يفصلها حوش صغير، مئات من الحشرات تتجمع في هذه الشبكة الحديدة والأرض وداخل الزنزانة وفينا. أرضية جرداء، وسقف وباب حديدي، جلسنا وتعبنا، رقدنا وقمنا، غفينا وصحينا على تلك الأرضية الصلبة الممتلئة بالحشرات، أخبرت الجندي أن أختي مصابة بالسكري وعليهم مراعاة هذا خاصة وأنها لم تأكل طيلة النهار والليل، قال لي ببرود واستهزاء: الله يشفيها، ومضى!
رفضنا الأكل، وطالبنا بالذهاب إلى المستشفى أولاً، لكن من يسمع؟ من يقف ليسمعك وهو يزدريك؟ معاملة قاسية ومتجردة من الحسِّ الإنساني.
الحمامات مشتركة بين الرجال والنساء، مظلمة وبدون قفل داخلي! في الحوش المخصص لزنازين الرجال، رقد على الأرض حوالي 56 أو 57 معتقل أُحضروا بعد منتصف الليل، وقبلهم أُحضر آخرون في مجموعات قليلة العدد، عند الرابعة فجراً كان أربعة ممن تكدسوا في الحوش يجلسون مستيقظين بعد أن عاندهم النوم أو عاندوه.
جلستُ في عمق الزنزانة حيث مكان أقل إضاءة بعد أن تعبتُ من إبعاد الحشرات، خنقني الحرُّ تعرَّقتُ بشدة وشعرت بالوهن، حبوتُ لأني لم أستطع الوقوف، وفضلت الحشرات على الحرِّ والاختناق، اقتربت من باب الزنزانة ذي الشبكة الحديدية ومكثت.
الخامسة فجراً تأملتُ سرب الجراد والجنادب الذي يحط على الشبكة الحديدية في الحوش، شكلت الحشرات والشبكة الحديدة لوحة تشكيلية جميلة، انعكست ظلالها عل الأرض والحائط، تأملته لجزء من السهر، وتعجبتُ لقدرة الجمال على التواجد في مكان بهذا القبح. أبعدتُ أحد الجنادب التي كانت تداهمنا أفراداً وجماعات وخشينا من دخولها في آذاننا، أبعدته بيدي فانقلب على ظهره، تابعت بعين متعبة مراحل مكافحته كي يعدِّل من وضعه، حركته وحركة قدميه التي تنشط ثم تصاب بالكسل، ربما هي استراتيجيته لتجنب الإنهاك، أو للحفاظ على القوة أو استعادتها، حتى هذه الحشرات بما فيها من وهنٍ وهزال وأنظمة حيوية بسيطة ليست بالمعقدة التي لدى الإنسان، حتى هذه الحشرات تملك إرادة وتناضل من أجل الحرية والوقوف على القدمين مرفوعة الرأس، طوبى للحُرية، طوبى للأحرار.
في اليوم التالي بعد اطلاق سراحنا لم يرغبوا في إعطائنا أورينك 8، أصررنا عليه وطلبوا منا مقابلة مدير القسم، قالبناه ووجدنا معه عدد من الصحفيين، أمر لنا بالأرونيك، رغم أنه كان قد رأى حالة شقيقي قبلها ولم يحرك ساكناً! تماطلوا وتباطأوا قدر ما استطاعوا، وفي النهاية حصلنا عليه وتوجهنا إلى المستشفى.
من التجارب ما يقويك، ومنها ما يكسرك، لكن، تجربة أن تضرب بتشفي وتهان كرامتك وتستباح سلامتك وتصادر حريتك، تجربة لا تحتمل سوى خيار واحد، أن تواصل ما بدأته وما بدأه غيرك، لا رجوع، إنما المضي قدماً، وهذا ما لا يعرفه هؤلاء.
يا هذا، ضربك وتعذيبك لن يخيفني ولن يكسرني ولن يجبرني على التراجع، إنما يقويني ويلهمني، تسألني: ألم تخافي؟ أجيبك: بل ازددتُ صلابة.