لرائحةِ التبغِ والذكرياتْ: كمال الجزولي.. شوية إرادة لا تهزم البرنجي
03-20-2014 11:49 PM
حوار: آمنة عمر
مُطفأة تنوء فرط الحرائق، وأنامل أنثى تعبث ببقايا الثقاب، ما انتزع اعترافاً مدهشاً من الشاعر الغارق في لذّة لياليه الحمراء، وبعيداً عن الغرف الموصدة على مجون كلماته، صرخ نزار قباني: "امرأة تمتد أصابعها لتعبث ببقايا سجائري، تذبحني من الوريد الى الوريد". وعند (محمد المهدي المجذوب)، السجارة أنثى غنِجة تعرف خباءها جيداً لتندس بين الأصابع والشفاه المُطبقات، علّها تعثر على وشايةٍ تخترق بها صمت الشاعر العميق، وكامرأة نؤوم في الضحى، ظل الشاعر حبيس اللفائف لم يفارق خدرها "وأرتضع السجارة وهي أنثى تأوّه في يديّ وتستديم/ فأنفضها لأوقظها فتكرى كما يكرى من التعب السقيم".
وثمة نساء ضفائرهن مسكونة بخيوط دخان السجائر يخفينها في عشقهن الدائم لرجل يتحدث لغة الأصابع (فينفض) أعقابها على عجلٍ، وخلف عصبيته الزائدة كلما لقيت سجارة حتفها. ونساء أخريات كالقطط تجثو أنوثتهن أمام سجارة، فينشبن أظافرهن كعود ثقاب مشتعل ويلاحقن مزهوات خيوط الدخان."وترحل في آخر الليل عني كنجم كطير مهاجر/ وتتركني ياصديق حياتي لرائحة التبغ والذكريات".
يا أستاذ.. بتدخن برنجي؟
قرب مطفأة مشبعة بأعقاب التبغ تنسل منه أنامل شبقة إلى سجارة تليها أخرى، بينما كان يحرق الحديث فيتصاعد دخانه، الشاعر والكاتب والقانوني المعروف كمال الجزولي الغارق في ثمانية وأربعين عاماً من (ورطة) التدخين، وما يزال، تفوح من حكايته رائحة الخسارة الدائمة، فلم يفلح المحامي (البارع) في ابتداع مرافعة لكبح جماح السجائر رغم صولاته وجولاته الناجحة في أقبية المحاكم، إنها قصة محامٍ يصرع القضايا فيهزمه البرنجي!
يعود بذاكرته إلى 1961م، حين ورطته الأولى مع السيجائر، ويحكي: ورطني في السجارة الأولى أصدقاء في المرحلة الوسطى، وذلك أثناء فُسحات الفطور، لم أستسغها للوهلة الأولى، أخذت نفساً أو نفسين ثم ما لبثت أن ساغت لي بعد يوم أو يومين. أدخن منذ 1961 وبلغ معدل تدخيني أكثر من ثلاثين سجارة في اليوم، ما فاقم ورطتي أنني أن لي عادة غاية في القبح، فعندما لا أفهم ما أقرأ أو ما يقال، أشعل سجارة، وعندما أبدأ في الفهم، أشعل سجارة أخرى، وهكذا يبدو علاجيّ مستحيلاً، وهو أن أتوقف عن القراءة أو المناقشة! لكنه سرعان ما أستل سطوة القانوني مُردفاً: كقانوني تراودني أحياناً فكرة مقاضاة مُصنعي السجائر، وهم سودانيون!
قاطعته بدهشة: يا أستاذ بتدخن برنجي؟! فكانت الحكاية: أنا مدمن برنجي، وبالمناسبة ورغم أنه ليس ثمة فرق بين ضرر السجارة المحلية والأجنبية إلاّ أنني أذكر أن من جعلني أتحول من السجارة الأجنبية إلى المحلية هو صديقي العزيز (علي المك).
أسير سحائب الدخان
لكنه حب متبوع بضجر كما يبدو، مُفارق لطريقة (هواك برضايا ما جبري) يجثم السجائر على حياة الجزولي الذي كثيراً ما يتأفف من سطوة الدخان عليه، فيروي: أشعر أكثر ما أشعر باحتقاري لضعفي تجاه التدخين بهذه الشراهة، في المطارات حيث أضطر لممارسة هذه العادة (الرذيلة) في الغرف المخصصة لذلك، وهي (أوسخ) أماكن في هذه المطارات، كما يزداد حرجي عندما أضطر لذلك في غرف المحامين، أو عندما أجد نفسي وسط مجموعة ليس فيها مدخنون، أو عندما أشارك في ندوة في مكان مغلق.
الفضل للأشباح
الشاعر محمد المكي إبراهيم وكما يوقع القصيد في حبائل قافياته المرتعات، أوقع صديقه الجزولي في حبائل التدخين مرة أخرى، بعد أن أقلع عنه مجبراً لا بطل، فلنستمع إلى القصة: أتيحت لي مرة واحدة فقط، فرصة أن أقلع عن التدخين، إنها سبعة أشهر قضيتها بأحد بيوت الأشباح، وبالفعل نسيت التدخين، لكن في أول يوم بعد خروجي جاءني صديقي محمد المكي إبراهيم برفقته أسرته، لعبنا الطاولة بعد غياب، وكان هو وقتها مدخناً شرهاً، وكالعادة عرض علىيّ سجارة، ولما اعتذرت أخذ يلح فجاملته، وللعجب تكرر نفس الأمر الذي حدث لي مع السجارة الأولى، ولكنني بعد سجارتين أو ثلاث عدت أتذوقها من جديد.
أنسى التدخين في المحاكم
يقول الجزولي: أثناء المُرافعات أمام المحاكم لا أشعر إطلاقاً أنني بحاجة إلى التدخين، ولكنني ما إن أغادر قاعة المحكمة فإن أول شيء أفعله، أدخن.
أذكر أنني كُنت مُسافراً على متنِ قطارٍ من (براغ) إلى (كِييف)، وكان مخزوني من علب السجائر وافراً، لكن ما إن تحرك القطار حتى اكتشفت أنه ليس بحوزتي ولاعة أو حتى عود ثقاب، فطفقت أبحثت في (كابينات) القطار، فلم أجد مدخناً واحداً، فانخرطت في حالة من الضيق والكدر، حتى بلغت المحطة الثانية، لكنني وجدت كل المحلات مُغلقة في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ولم ينجدني غير (سكران بائس)، عثرت عليه في آخر لحظة، والقطار على وشك التحرك، فتأمل.
عودة الواعظ
عن نُدماءِ السجارة، يحكي الجزولي: من أصدقائي الذين يشاركونني التدخين الدكتور (أمين مكي مدني)، لكنه أقلع عنه بعد أن أصبح يستمع إلى نصائح الأطباء، بجانب صديقي الحبيب فاروق كدودة، وكنا نجد متاعب في التدخين عندما أزوره في البيت لأن زوجته اختصاصية الصدر (أسماء السُنيِّ) كانت تفرض علينا قيوداً صارمة بحكم تخصصها. أما من أصدقائي السياسيين فإن الراحل (محمد إبراهيم نُقد) يعد من المُدخنين الشرهين ثم أقلع عنه مرة لمدة أشهر تحول خلاله إلى (واعظ)، كان يقول لي في كل مرة: خلي عندك شوية إرادة، وأجيبه قائلاً: أنا عندي أصلاً شوية إرادة، ولكنني أدخرها لأشياء أهم من مقاومة التدخين، ولما عاد نقد إلى التدخين أرتحت من وعظه.
جنازة مرتقبة
أذكر في العام 1981م، إنني استيقظت في منتصف الليل، وأنا لا أستطيع التنفس، وظللت على تلك الحالة حتى الصباح الباكر، عندها اتصلت زوجتي بصديقيّ فاروق أبو عيسى والمرحوم عابدين إسماعيل، فجاءا على عجل وأخذاني إلى صديقهما (عابدين شرف) عليه رحمة الله، الذي بادرني بإسعافات عامة، وتركني وراء الستار، بينما استغرق مع عابدين وفاروق في (ونسة) طويلة، وبعد أن استيقظت كتب لي (أدوية)، وقال لي: بصراحة إنت لو دخنت سجارة واحدة تاني فإن أسرتك ستتصل بفاروق وعابدين للحاق بالجنازة، وليس للإسعاف، وكنت أستمع إلى نصائحه وتعليماته الطبية، لكنني لم أكن مقتنعاً بها، لسبب بسيط أنه كان يتكلم معي وأمامه أربع علب كبيرة من السجائر، التزمت بتعليماته لمدة لم تزد عن أسبوع، ذقت خلالها الأمرين من (الخرم) ثم ما لبثت أن عدت إلى التدخين