المحبوب أحمد الأمين
| موضوع: من السَّيادةِ الوطنيَّةِ إلى الجَّنائيَّةِ الدَّوليَّةِ .. وبالعَكس !! الأحد 26 أكتوبر 2014 - 16:58 | |
|
(المُجابهةُ المتوهَّمةُ بينَ المفهوم والاختصاص)
(1)
مثول الرَّئيس الكيني أهورو كينياتا أمام المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، في الأوَّل من أكتوبر الجاري (2014م)، سدَّد صفعة قويَّة لقرار الاتحاد الأفريقي الرَّافض للتعامل مع هذه المحكمة، بذريعة استهدافها "العنصري" لرؤساء القارَّة وحدهم، والصَّادر من قمَّة أديس أبابا في 12 أكتوبر 2013م، والذي تعضَّد، لاحقاً، في القمَّة الـ 23 بمالابو، بغينيا الاستوائيَّة، أواخر يونيو 2014م، حيث اعتُمد بروتوكول المحكمة الأفريقيَّة لحقوق الإنسان والشُّعوب الذي ينصُّ على "عدم محاكمة الرُّؤساء الأفارقة أثناء مباشرة مهامهم الرِّئاسيَّة"!
وكان كينياتا، ونائبه وليام روتو، مطلوبَيْن للمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، تحت طائلة اتهامهما بتدبير عمليَّات قتل لمواطنين في ملابسات انتخابات 2007م. وعلى حين كان مفترضاً أن يمثل كينياتا أمام المحكمة في 12 نوفمبر 2013م، وتأخَّر مثوله إلى مطلع هذا الشَّهر، فإن روتو مثل أمامها في سبتمبر 2013م. ورغم فشل قمَّة أديس أبابا المار ذكرها في إصدار قرار كان قد أشيع توقعه، وقتها، بالانسحاب الجَّماعي من المحكمة للدُّول الأفريقيَّة الـ 34 الأعضاء فيها، إلا أن القمَّة أصدرت قراراً آخر بتحدِّي الملاحقات القضائيَّة للرُّؤساء الأفارقة أثناء وجودهم في مناصبهم، خصوصاً الرَّئيسين السُّوداني والكيني. لكنها، وهي التي أعلنت عدم اعترافها بالمحكمة، اتخذت، في ذات الوقت، خطوة غاية في الارتباك بمطالبتها مجلس الأمن الدَّولي بـ "تأجيل" محاكمة كينياتا، بموجب المادَّة/16 من نفس نظام روما الأساسي الذي تعمل المحكمة بموجبه، وإلا فسيستخدم الاتحاد "وسائل بديلة للتَّأجيل!"، علماً بأن المادَّة المذكورة لا تلغي المحاكمة، وإنَّما تتيح، فقط، تأجيلها لمدة سنة قابلة للتَّجديد، إذا قرَّر مجلس الأمن وطلب منها ذلك. وعقب الاجتماع صرَّح توادروس أدهانوم، وزير الخارجيَّة الإثيوبي، للصحفيين بأنه "إذا لم يستجب مجلس الأمن للمطالبة فعلى الرَّئيس كينياتا عدم المثول أمام المحكمة"! ومن هنا جاءت الصَّفعة، حيث لا مجلس الأمن الدَّولي "استجاب"، ولا الاتحاد الأفريقي استخدم "وسائل بديلة"، ولا كينياتا "امتنع" عن المثول أمام المحكمة!ّ
(2)
حُجَّة الاستهداف "العنصري" للرُّؤساء الأفارقة عبارة عن وجه آخر لحُجَّة أخرى غالباً ما تثار في باب العداء للمحكمة، وهي رميها بأنها محض معول في يد "الاستكبار الدَّولي"، يستخدمه، متى شاء، وكيف شاء، لانتهاك "السَّيادة الوطنيَّة" للدُّول الصَّغيرة! هذه الحُجَّة تضع الحكومات التي تلثغ بها في بؤرة المجابهة المباشرة، سياسيَّاً وأخلاقيَّاً، مع المجتمع الدَّولي بأسره، خصوصاً مع المستوى الشَّعبي منه! فالمحكمة لم تتأسَّس، في حقيقتها، كمحض عمل تواثقي بين الدُّول التي أنشأتها، أو انضمَّت إليها، فحسب، وإنما، في المقام الأوَّل، كتتويج لحملة شعبيَّة عالميَّة ضارية شارك فيها، على مدى عشرات السَّنوات، ملايين الناس، وآلاف المؤسَّسات السِّياسيَّة، والطوعيَّة، والأكاديميَّة، والثقافيَّة، والصَّحفيَّة، والإعلاميَّة، والاجتماعيَّة، من مختلف المدارس والاتِّجاهات الفكريَّة الدِّيموقراطيَّة. وما تزال هذه الحملة تتصاعد، في الوقت الراهن، بتنسيق من (التَّحالف الدَّولي في سبيل المحكمة الجَّنائيَّة الدوليَّة CICC)، للدفع باتجاه المزيد من الانضمام إلى "نظام روما"، ولخلق المزيد من الوعي بضرورة المحكمة، كمطلب ديموقراطي عالمي، لا كمؤامرة "استكباريَّة" دوليَّة!
لقد نشأت المحكمة، كهيئة عدليَّة دائمة، في سياق تاريخي متَّصل لتشابكات القانون والسِّياسة، حيث تطوَّرت القاعدة القانونيَّة الدَّوليَّة من الاقتصار على صون حقوق الدُّول في الماضي، إلى الاهتمام بصون حقوق الأفراد والشُّعوب في العصر الحديث، اتِّساقاً مع خط تطـوُّر رئيس يكشـف عن غـلبة الاتِّجـاه الدَّولي، منذ أواخر القرن 19، لإعادة تنظيم قوانين وأعراف الحرب، وتسييجها بأصول إنسانيَّة تستتبع مخالفتها المساءلة الجَّنائيَّة كجريمة دوليَّة.
وبعد نهاية الحرب الأولى، دفعت الجرائم المرتكبة، خلالها، من جانب العسكريتاريا الألمانيَّة، لإقرار أسس العدالة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة كشرط لازم لإقرار أسس السَّلام العالمي؛ فكان أن أُبرمت "معاهدة فرساي 1919م" التي عيَّنت "مفهوم جرائم الحرب"، ومسئوليَّة القادة والرُّؤساء عنها، و"ميثاق عصبة الأمم" الذي حظر اللجوء إلى الحرب قبل استنفاد الوسائل السِّلميَّة لفضِّ النزاعات، ونصَّ على عقوبات لمن يخالف ذلك، فضلاً عن "بروتوكول جنيف لسنة 1924م" الذي جعل اللجوء إلى الوسائل السِّلميَّة إجباريَّاً، وما إلى ذلك. لكن لم تتم محاكمة المجرمين، رغم هدير المطالبات التي ارتفعت بذلك، من شتى البلدان والشُّعوب؛ والمحاولة الوحيدة التي جرت لمحاكمة أمير بروسيا كمجرم حرب أجهضت لسببين: أولهما هروبه إلى بولندا، وثانيهما معارضة الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وعرقلتها لتلك المحاولة!
ثم ما لبثت أن وقعت الحرب الثانية لترتِّب لجرائم أبشع، فارتفعت، بصورة أقوى، مطالبات الشعوب بملاحقة ومعاقبة الجُّناة، مِمَّا دفع الحلفاء، هذه المرَّة، لإنشاء (محكمتي نورمبرج وطوكيو 1945م ـ 1946م)، كمحكمتين مؤقتتين ad hoc tribunals لمحاكمة قادة النازي في أوربا، ومجرمي الحرب في الشَّرق الأقصى. ورغم أن المحكمتين شكلتا مرحلة فاصلة في تطوُّر القانون الجَّنائي الدَّولي، مِمَّا أنعش الآمال بأن "ذلك لن يتكرر مرَّة أخرى"، على حد تعبير كوفي أنان، الأمين العام السابق للمنظمة الدولية، فإن العالم سرعان ما ألفى نفسه متوحِّلاً في زهاء الـ 250 نزاعاً مسلحاً، داخليَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً، حيث أهدرت أرواح عشرات الملايين من المدنيين، بسبب عدم التزام الحكومات بتطوير خبرة ومبادئ نورمبرج وطوكيو، وميلها لمقايضة المسئوليَّة الجَّنائيَّة بالتَّرضيات الدِّبلوماسيَّة المتبادلة، الأمر الذي فتح الأبواب على مصاريعها لممارسة شتى أساليب الإفلات من العقاب impunity!
(3)
بالنتيجة، شهد العالم تجدُّد نفس المآسي، خلال النِّصف الأوَّل من تسعينات القرن المنصرم، في مناطق كالبوسنة ورواندا وغيرها. على أن مجلس الأمن عاد، مجدَّداً، يشكِّل ذات المحاكم المؤقَّتة ad hoc، كمحكمتي "يوغسلافيا السَّابقة" بلاهاي، و"رواندا" بأروشا. لكن، ولأن مثل هذه المعالجات لم تعُد مقنعة، فقد ارتفعت بقوَّة أكثر مطالبة الشُّعوب باجتراح آليَّة دائمة للعدالة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة. هكذا، وتحت الضُّغوط الدِّيموقراطيَّة الكثيفة انعقد المؤتمر الدِّبلوماسي الدَّولي بروما، صيف 1998م، وأصدر "النظام" الذي تأسست، بموجبه، المحكمة، وبدأ نفاذها في الأوَّل من يوليو 2002م، كمحكمة تنعقد لها الولاية والاختصاص بمحاكمة أشدِّ الجَّرائم خطورة في موضع الاهتمام الدَّولي the Most Dangerous Crimes of International Concern، ضمن ما قد يقع خلال الحروب والمواجهات المسلحة الدَّوليَّة، أو الإقليميَّة، أو الدَّاخليَّة، من جرائم حرب War Crimes، وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة Crimes Against Humanity، بالإضافة إلى جريمة الإبادة الجَّماعيَّة Genocide، وذلك، فقط، عندما يثبت أن الدَّولة المعيَّنة إما "غير راغبة" في، أو "غير قادرة" على، ملاحقة مرتكبي هذه الجَّرائم، ومحاكمتهم، أو ما يُعرف، في "نظام روما"، بمبدأ "التكامليَّة Complementarity". من تتبُّع ذلك المسار الطويل نستطيع أن نرى، بوضوح، أن المحكمة ما تأسَّست إلا من فوق مطالبات وضُّغوط شَّعبيَّة عالميَّة صارمة، مثلما نستطيع أن نرى بوضوح، أيضاً، خطل اتهامها من بعض الأنظمة الأفريقيَّة، وغيرها، بأنَّها مجرَّد صنيعة لـ "الاستكبار الدَّولي"!
(4)
مع ذلك ، فحُجَّة الدِّفاع عن "السَّيادة Sovereignty" التي ما تنفكُّ تثيرها في مواجهة المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة بعض الدُّول الأفريقيَّة وغير الأفريقيَّة، وإن بدت، للوهلة الأولى، جاذبة، وذات بريق أخَّاذ، إلا أنها، في حقيقة الأمر، مقلوبة على رأسها، تماماً، وخليقة، من ثمَّ، باستعدالها معرفيَّاً، من النَّاحيتين الإجرائيَّة والموضوعيَّة. فمن الناحية الأولى: يُعتبر نظام روما عهداً دوليَّاً ملزماً لأعضائه فقط، وبالتالي لا يجوز لأيِّ دولة عضو في المحكمة التَّنصُّل عن التزاماتها التَّواثقيَّة حيالها. لكن ميثاق الأمم المتحدة ملزم لجميع أعضاء المنظمة الدوليَّة. وانعقاد الاختصاص للمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة بموجب المادَّة/13/ب من نظام روما يستند، مباشرة، إلى سلطات مجلس الأمن الدَّولي بموجب الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدَّوليَّة، فالأساس هنا هو ميثاق الأمم المتحدة، فلا يعود ثمَّة مجال للاحتجاج بعدم العضويَّة في المحكمة بالنسبة للدَّولة التي يحيل المجلس حالة منها إلى المحكمة بموجب المادَّة/13/ب من "النظام" مقروءة في ضوء الفصل السَّابع من الميثاق. بعبارة أخرى، وبما أن جميع دول القارَّة أعضاء في المنظمة الدَّوليَّة، فليس ثمَّة وجه، إذن، لاتِّخاذ أي موقف رافض، تنفيذيَّاً، لصلاحيَّات واختصاصات مجلس الأمن تحت الفصل السَّابع. إصلاح الأمم المتحدة وميثاقها ضرورة، لكن ليس بالتَّمرُّد، والخروج عليهما، وقلع اليد الفردي!
ومن الناحية الأخرى: فإن ممارسة الدَّولة لوظائف خارجيَّة أفضت، منذ القرن السَّابع عشر، إلى نشأة القانون الدَّولي المعاصر كجماع قواعد دوليَّة تتحدَّد وفق مستوى تطوُّر "الدَّولة القوميَّة"، والاقتصاد السِّياسي لعلاقاتها الخارجيَّة. وفي السِّياق نشأ المفهوم الكلاسيكي لـ "السَّيادة الوطنيَّة"، حيث احتاجت كلُّ دولة لاعتراف الدُّول الأخرى بحقها المطلق في التَّصرُّف بكامل إقليمها وما عليه، بما في ذلك الشَّعب، دون تدخُّل من أيِّ جهة خارجيَّة. وقد كرست "معاهدة وستفاليا لسنة 1648م" ذلك المفهوم لـ "السَّيادة"، وإن أسَّست، في ذات الوقت، للتنظيم الدَّولي الذي سوف يؤثر عليه لاحقاً. هكذا اعتبر آباء القانون الدَّولي المؤسِّسون الدَّولة الحديثة ذات "السَّيادة"، داخليَّاً وخارجيَّاً، بمثابة الشَّخصيَّة الأساسيَّة للقانون الدَّولي، كما اعتبروا الاتفاقيَّات والمعاهدات بين الدُّول بمثابة المصدر الرَّئيس للقاعدة القانونيَّة الدَّوليَّة.
ذلكم هو نفس الفقه التقليدي الذي تأسَّست عليه المنظمة الدَّوليَّة، وقام عليه ميثاقها، بعد الحرب الثانية. فباستثناء تدابير الفصل السَّابع، تمنع المادة/7/2 من هذا الميثاق تدخُّل المنظمة الدَّوليَّة في الشُّئون الدَّاخليَّة للدُّول. وتمنع المادة/4/2 الدُّول نفسها من استخدام القوَّة في علاقاتها الدَّوليَّة. كما يحظر "إعلان مبادئ القانون الدَّولي الخاص بالعلاقات الوديَّة والتعاون بين الدُّول لسنة 1970م" تدخُّل الدُّول في شئون بعضها البعض الدَّاخليَّة. ومع أن ذلك كله يندرج ضمن مبادئ "السَّيادة" بمفهومها التقليدي المطلق، إلا أن ثمَّة حالات تخفِّف من صرامته، حتى في ذلك الإطار، حين يجرى، مثلاً، التنازل عن "السَّيادة" بموجب اتفاقيَّة ما، فيحظر سحب هذا التنازل بإرادة منفردة، إذ أن التنازل نفسه عمل من أعمال "السَّيادة"؛ فلا يجوز الادِّعاء، مثلاً، بعدم مشروعيَّة التَّدخُّل الأجنبي إذا استند إلى نصِّ اتِّفاقيَّة دوليَّة.
(5)
الاتجاه الغالب، في العصر الحديث، نحو ضرورة الارتقاء بعلاقات السِّياسة الدَّاخليَّة إلى آفاق أكثر ديموقراطيَّة وإنسانيَّة، فتح العلاقات الدَّوليَّة، ومن ثمَّ القانون الدَّولي، على مصالح الأفراد والشُّعوب، واحترام القانون الدَّولي الإنساني، وحقوق الإنسان، والدِّيموقراطيَّة، والحكم الرَّاشد، والاهتمام بقضايا الهجرة، واللاجئين، والشَّفافيَّة، والتنمية، وحماية البيئة، ومحاربة الفقر، والفساد، والمخدِّرات، والإيدز، وغسيل الأموال، والاتجار بالبشر، أو ما يُعرف بـقضايا "السِّياسات الدُّنيا"، بنفس درجة الاهتمام بقضايا "السِّياسات العليا"، كالحرب، والسَّلام، والإرهاب، وامتلاك أسلحة الدَّمار الشَّامل، وما إليها.
وكان لا بُدَّ أن تنسحب تلك التطوُّرات على المفهوم التقليدي لـ "السَّيادة الوطنيَّة" الذي ارتقى، بدوره، إلى طور أعلى، تبعاً لنشأة وتطوُّر تلك المفاهيم والقضايا، ووسائط الاتِّصال الحديثة، والأدوار الأكبر للقوى والمنظمات الدِّيموقراطيَّة، وجماعات الضَّغط المدنيَّة؛ فلم تعُد "السَّيادة" تعني ذلك الحقُّ المطلق للدَّولة على مصائر شعبها، كما كان الأمر في السَّابق، بل أضحت علاقة الدَّولة بمواطنيها تكفُّ عن أن تكون محض شأن داخلي في ذات اللحظة التي تغمط فيها حقوقهم، خصوصاً إذا امتدَّ أثر ذلك إلى دول أخرى. هكذا تراجع المفهوم التقليدي "المقدَّس" لـ "السَّيادة المطلقة"، وانفتح ليشمل حقوق الأفراد، بمراقبة دوليَّة. باختصار، أضحت الدَّولة ملزمة بحماية حقوق مواطنيها، فإن فشلت، تحتَّم على المجتمع الدَّولي إجبارها على ذلك. وأصبح التَّدخُّل الدَّولي لأسباب إنسانيَّة، بصرف النظر عن استناده أو عدم استناده إلى اتفاق مخصوص، يكتسب مشروعيَّته من أن احترام حقوق الإنسان بات التزاماً دوليَّاً راسخاً، بموجب العهود والمواثيق والعُرف، مِمَّا يكسبه صفة القواعد الآمرة Jus Cogens. وإذن، لم تعُد الدَّولة الحديثة تملك حقَّ التَّصرُّف المطلق في حقوق مواطنيها، وإنما صار لزاماً عليها الموازنة بين حقوقها وحقوقهم، مِمَّا عبَّر عنه د. بطرس غالي، السكرتير العام الأسبق للأمم المتَّحدة، بقوله إن زمان "السَّيادة المطلقة" قد ولى، مما يحتِّم التَّوازن بين ضرورات الحكم الرَّاشد ومتطلبات عالم يُعزِّز من الاعتماد المتبادل. كما قال أيضاً، في كلمته الافتتاحيَّة أمام "المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان ـ فيينا 1993م"، إن المجتمع الدَّولي يوكل إلى الدَّولة حماية الأفراد، فإن فشلت لزمه أن يحلَّ محلها.
وقبل أن نختم هذه المقالة، يجدر بنا أن نؤكد، مع كلِّ ذلك، على أنه ليست لدينا أيُّ أوهام حول ما يمكن أن يتيحه اختلال ميزان القوَّة الدَّولي من إساءة استخدام الدَّلالة الحديثة لمفهوم "السَّيادة" بغرض تحقيق أجندات خاصَّة بالهيمنة الدَّوليَّة. سوى أن ذلك لا يعدو كونه "أثراً جانبيَّاً" تنبغي مقاومته دون إهدار لقيمة المبدأ ذاته. وهذه المقاومة لا تكون بالنشوز عمَّا استقرَّت عليه العلاقات الدَّوليَّة من مبادئ حسنة، بل بتعديل ميزان القوَّة نفسه عن طريق نضالات الشُّعوب والقوى الدِّيموقراطيَّة العالميَّة باتِّجاه قطع الطريق أمام أيِّ إساءة لاستخدام هذه المبادئ. على أن ذلك أمر آخر.
لكن المفارقة الحقيقيَّة تكمن، بالمقابل، في أن الأنظمة القمعيَّة، بحكم مصلحتها في الارتداد إلى مفهوم "السَّيادة" التقليدي الذي يضع الشُّعوب والأفراد تحت رحمة الأنظمة، غالباً ما تستخدم هذا "الأثر الجَّانبي" كفزَّاعة، باسم الوطنيَّة، فتستغل عواطف البسطاء في حشد العداء ضدَّ الدَّلالة الحديثة للمفهوم، والتي ما تحققت، تاريخيَّاً، إلا بتضحيات مئات الملايين حول العالم. ولعلَّ مِمَّا يفضح هذه الوضعيَّة المقلوبة أن النظام الذي يعجزه صون أراضي بلاده، وحظر تهميش مواطنيه، والمحافظة على الوحدة، ودرء التَّدخُّلات الأجنبيَّة، بما فيها العسكريَّة في غير القليل من الحالات، هو نفسه الذي يكاد لا يتذكَّر "السَّيادة الوطنيَّة" إلا عندما يجري تذكيره باستحقاقات "العدالة"، و"حقوق الإنسان"، و"المساواة أمام القانون"، ومحاربة "الإفلات من العقاب"، و .. "المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة"!
"السَّيادة الوطنيَّة" لا تتحقَّق بالديماغوغيا، واستغفال البسطاء، وخداعهم بالخطب الحماسيَّة، والشِّعارات الجَّوفاء، وإنما بمحاربة التَّهميش، ورفع ظلامات المهمَّشين، وتكريس حقوق الإنسان والشعوب المضطهدة، وإرساء دعائم السَّلام، والوحدة، والدِّيموقراطيَّة، وخلق المناخ الملائم لتأمين جبهة داخليَّة متماسكة، بما في ذلك إفشاء أسس "العدالة"، وتطبيق مبادئ "المساواة أمام القانون"، والحدِّ من فرص "الإفلات من العقاب"، إضافة لإقامة علاقات خارجيَّة متوازنة، وإغلاق كل الثَّغرات التي تتسرَّب منها التَّدخُّلات الأجنبيَّة. بهذا وحده لن تجد المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة نفسها مضطرَّة لممارسة أيِّ ولاية أو اختصاص تكاملي Complementary على أيِّ دولة، لكن، بالعدم، فإن هذه المحكمة تمثل ضرورة لا غنى عنها!
كمال الجزولي / سودانايل
المراجع:
(1) محمود شريف بسيوني ؛ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة (مدخل لدراسة أحكام وآليات الانفاذ الوطني للنظام الأساسي) ، ط 1، دار الشروق، القاهرة 2004م (2) محمود شريف بسيوني؛ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، نادي القضاة، القاهرة 2001م (3) فتح الرحمن عبد الله الشيخ ؛ مشروعيَّة العقوبات الدوليَّة والتدخل الدولي ، ط 1 ، مركز الدراسات السودانيَّة ، القاهرة 1998م (4) ف. إ. ليسوفسكي ؛ القانون الدولي (بالروسيَّة) ، دار فيشايا شكولا ، موسكو 1970م (5) سعيد عبد اللطيف حسن؛ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة، ط 1، دار النهضة العربيَّة، 2000م (6) وليد عبد الناصر ؛ "مفهوم حق التدخل الانساني: في انتظار تكييف قانوني ذي قيمة إلزاميَّة"، الحياة، ع/1214 بتاريخ 22/5/1996م (7) ميثاق الأمم المتحدة لسنة 1945م ( نظام روما لسنة 1998م (9) وكالة رويترز؛ 13 أكتوبر 2013م (10) وكالة الأناضول؛ 11 يوليو 2014م (11) Wolfgang Friedmann; The Changing Structure of International Law, Stevens & Sons Limited, London 1964 (12) P. Hassner, Violence and Peace: From the Atomic Bomb to Ethnic Cleansing, 1995 (13) Trials of War Criminals Before the Nuremberg Military Tribunals Under Control of Council Law No. 10, Vol. III (Washington D. C., U. S. Printing Office, 1951 (14) Robert H. Jackson; “Forward: The Nuremberg Trial Becomes a Historic Precedent”, Temple Law Quarterly, XX (1946-1947) (15) Joroslav Zurek; “The Nuremberg Principles as a decisive Stage in the Development of International Law”, Review of Contemprary Law, No. 2, December 1961 (16) Henry L. Stimson; “the Nuremberg Trial: Landmark in Law”, Foreign Affairs, XXV, January 1947 (17) the Kenyan Daily Nation, September 22, 2014 (18) the Kenyan Daily Nation, October 1, 2014 (19) the Kenyan Star, October 1,2014 (20) the Kenyan Standard, October 1, 2014
| |
|