سقوط البراءة في زمان الحديد – الحضارة
( محاولة لفهم قصيدة " التجوّل بين المزامير و الموت في حديقة الذّهول " لمحمد محيي الدين باعتبارها " وحدة إضاءة " ).
بقلم:
أبراهيم جعفر
***
لم ألتقي بالشاعر السوداني الشاب المجدد حقاً محمد محيي الدين آن كتابة هذا المقال و لكنني تعرفت على إنتاجه الشعري من خلال ملف نشره الشاعر السوداني محمد نجيب محمد علي في صفحة " المساحة الأدبية " بمجلة الإذاعة و التلفزيون و المسرح لرابطة الجزيرة للآداب و الفنون فهو من شبابها, ثمّ ثانياً من خلال الملف الذي نشره د. خالد المبارك في ملحق صحيفة " الصحافة " السودانية الثقافي لذات الرابطة, و أخيراً عبر مجلة " الثقافة السودانية " التي نشرت القصيدة مادة هذا النقد في عدد أغسطس 1980.
لا أدّعي هنا بأني أول من كتب شيئاً عن محمد محيي الدين فقد سبقني إلى ذلكَ رفيقي في " جمعية الصّحو
الأدبية " أسامة الخوّاض الذي خصّصَ جانباً من مقاله ( محمد محيي الدين – أو الحبُّ في زمن الفقر ) المنشور بملحق " الصحافة " الثقافي مؤخراً للحديث عن الخصائص الفنية لشعر الشاعر. أنا هنا لا أتناول هذا الجانب في هذه القصيدة ( التجوُّل بين المزامير و الموت .... الخ ) بل تركيزي هو على فهم هذه المحاولة بوصفها " وحدة إضاءة " لشيءٍ مما يجري في الواقع الاجتماعي اليومي, فكلُّ قصيدة - كما عرّفها النقد السايكو – سوسيولوجي خصوصاً – هي " وحدة إضاءة " لشيءٍ داخل الذات أو في علاقتها بمجتمعها و " الآخرين " .. على هذا الفهم تتأسّس خاطرتي في هذا المقال.
المقطع الأوّل :-
في بدء القصيدة يفجؤنا الشاعر ببطاقةِ تعريفٍ لمناخه النّفسيِّ الدّاخليِّ و لسباق الآخرين اللاّمبالين حيثُ سلطة
" سيف علي الكرّار " أو السعي من أجل الرزق و حيثُ السلطة ل" القبضة الماردة ".
يُضَمّن المقطع شيئاً من الواقع اليومي الرتيب و الفاجع أيضاً, فالمذياع يأتي مستنسخاً ذلكَ ببرودٍ و لا اهتمامٍ كما كلّ يوم :- " المدافع تثقب أثداء كلِّ نساءِ العرب, إنّ بيروت عاريةٌ بالدّماء تستحمُّ, و قنبُلةٌ شطرت خِصرَ إفريقيا ........ و " جمّاع " مات .. الخ .. ". و من هذا المقطع يُنْتَقَلُ بنا إلى وصفِ الرّعب و الزّلزلة التي أيقظها ذلك النبأ " جمّاعُ مات " في ذاتِ الشاعر, فرعبُهُ كان مفاجأة بينما ( الشّوارع عادية ), فهي لا زالت في لامبالاتها القاسية – أي ظلّت جموع ( سبل كسب العيش ) في لامبالاتها القاسية رغم النّبأ العظيم المذهل.. ثمّ من هناكَ إلى تأكيد سقوط الثقافة و التنوير وسط السّاعين وراءَ اللقمة حيثُ يُكرّر الشاعر صرخة مصطفى سند* في " بحره القديم " ضدّ " اللاّثقافة " المتحكِّمة فينا إدارياً و سياسياً و اجتماعياً في جملةٍ واضحة الإشارة :- " يسقط إعلان معرض سوق الكتاب, من الحائط الأصفر الوجنات ". و إزاءَ لا مبالاة " الآخر " بسؤاله عن ذلكَ الذّاهل
" جمّاع ", عن ذاكَ الشاعر المتنقّل الرومانسي, عن ذاكَ الذي كان – عبر خياله الخلاّق – سفينةً للتنقُّل البديع و مُقابلته بعيونٍ ( ذابلة ) ردّاً على ما سأل عنه, يُدين الشاعر هذا الموت في الشعور ( تلكَ الغفلة الروحية, إذا استعرنا تعبيراً صوفياً ) على أنه دلالة على انتصار العقل النّفعي على فعل العشق أو العلاقة العاطفية الغنية مع الحياة. في زمنٍ كهذا, يقولُ الشاعر, إنّ جمّاع كان من غنّى للعشق و لم تستوعبهُ الهيئةُ المغريةُ لامتلاك " القبضة الماردة ", كما ولم يُدْمجُ في عصرٍ فيه ( الحديدُ جسارة و البنوك – النقود حضارة ). فقد مثّل أنشودة صفاءٍ في زمنٍ من ترابٍ و دونيّةٍ, أي :- " باباً جديداً, لمنسربِ الضوء/ حيثُ الظّلام تسربل بالموت/ غطّى عيون البيوت/ بأرديةٍ من تراب ". على حين تواطأ الآخرون مع سلطةِ القبضة ( الطّوابق الصاحية التي تتسلّح ) و مع تعهُّر المدينة و زيفها و ادّعاءاتها الأخلاقيّة الفارغة من أيِّ محتوىً إنسانيٍّ إيجابيٍّ :-
باسم إرجاع صوتك
كانت تُوزّعُ بعضَ الدّفاتر للمحسنين ..
و كانوا يلُمُّونَ باسمِ ذهولِكَ باسمِ جنونِكَ
أحذيةً و نقوداً و أدويةً
للمجانين و الشعراء
تُوَزِّعها في المصحّاتِ –
تنشُرُها في الشوارع
عاهرةٌ – مدّت الكأس – للعائدين من القبر
بعد رحيلك ..
" العائدون ", في هذه القصيدة, يشتكون من انهيار القيم و موت البراءة, فالسّماء " الجَّمَّاعِيَّة " التي
" استعصمت " ببعدها, بنقائها و خلوصها عن ( عالم الكون و الفساد ), قد غدت منها العمارات أقوى و لحقها رُكامُ التّلوُّث الأرضيّ ( بيئياً و روحياً ) ففقدت بكارتها بفعلِ عدوانيّةِ العصرِ الخُسْرِ و " جسارة " الحديد.
المقطع الثّاني :-
الرفاق القُدامى يتكلمون هنا عن الفن و الذهول ( عن حالةِ جَمَّاع ) فيفتُونَ أنَّ خلا ص الفنان إما في الفنِّ ذاته
( في روعةِ الفنِّ الأصيلِ الذي يُحيلُ العفنَ الجّاري مناراتٍ, قمم ", كما عند شاعرنا النور عثمان أبّكر *؛ أو في " التجوّل بين المزامير و اللون ", كما عند محمد محيي الدين ).
أو في الذِّهول :- و هو ردّ فعل اللاوعي ضدَّ العالم القاسي. فكما آمنَ من قبل " لافكرافت " بأشباحه و أوهامه و أحلامه و أصرَّ على أنّها حقيقة, رغم ملامسة الواقع الحادة في برودتها, آمنَ جمّاع بذهوله, بانتصار الحُلُمِ الذي هو ( بنفسجةٌ في جحيمِ المكان ) على زمانِ سقوط الشُّعراء أصحاب الكلمة التي هي ( شرف الرب ), كما يقول هاشم صدّيق*, و سقوط الغناء الطَّلاقة حيثُ النقود – الحجارة تنمو و الحديدُ حضارة.
المقطع الثالث :-
في هذا المقطع نشهد موت المحبة – الطهر و سطوة عالم فيه المحبة ليست" حلماً طفلاً " بل عقداً يتمُّ عبر البنوك و عبر الصِّكوك إذ أنَّ المواقيت هي ( مواقيت عرض البذاءة ) التي يندحر فيها الخيال الفنّي " الخلاصيُّ " و يبقى زبدُ الاستهلاكِ العابر الزّائل.
تُختَمُ القصيدةُ – في " خرجةٍ " منسجمةٍ مع ما تقدّم – بالدّعاء عسى أن تُفتح لنا نافذةُ الخلق التي تهبنا حرية ً خالصةً ( و ‘ن كانت آنيّة ) من الذهول ( الضياع النّفسي ) أو الموت ( تلكَ الأُرجوحة المُلغِزة ). ذلكَ لأنَّ لحظةَ الخلق هي وحدها الكفيلة بإيقاظنا و مدِّنا بنبعِ حياةٍ ثرٍّ بالأحاسيسِ, الجّمالاتِ و الألوان. قد يقولُ بعضُ مُرْهَفِيْنَا أنَّ الخلقَ, رُغم ما به من تجاوزٍ لليوميِّ ( أو العاديّ ), هو أيضاً مُنْطَوٍ على مُعاناةٍ و كَبَدٍ مثَلَهُ في ذلكَ مَثَلُ أيِّ فعلٍ معاشيٍّ آخرٍ. لكن شاعرنا يرد على ذلكَ بأنَّ " الانتحار ", الذي هو عنصرٌ في الخلق, يختلف عن أيِّ انتحارٍ آخرٍ أو معاناةٍ أُخرى في كونه ( انتحاراً جميلاً ), و في أنّهُ خاصٌّ و فريدٌ و عانس للشاعرِ– الخالقِ وحده دونَ الآخرين اللاّمُبالين أو ( العاقلين فحسب ). فالأخيرُ – و ليسَ غيرُهُ – هو من يُثمِرُ ( انتحارُهُ ) أو ( كَبَدُهُ ) إبداعاً سمحاً و ةعطاءاً لا غرضِيّةَ فيه :-
فيا لحظةَ الخلقِ عودي
تعالَى
إلى النّبضِ عودي
تعالَى
إلى النّبعِ في داخلي
مزِّقيني
فوحدي, انطلقتُ
انقسمتُ
ارتفعتُ
احترقتُ
فلا تهجُرِيْنِي
و ختامهُ يكونُ الدُّعاءُ ألاّ تهجُرِيْنا يا قدرةَ البوحِ الجّميل.
31 أغسطس 1980.
إبراهيم جعفر.
• شعراء سودانيّون منمازون.
• من مسودّة كتابي الموسوم استبصارات (مجموعة رؤى وتأملات نقدية كُتب غالبُها فيما بين عامي 1978 و1985).
______________________________________
http://www.sudan-forall.org/forum/viewtopic.php?t=2780andsid=b2d5cc42e79ef253547e5639874193f0http://www.sudan-forall.org/forum/viewtopic.php?t=2780andsid=b2d5cc42e79ef253547e5639874193f0
URL