أعتقد جازماً أن لموروثنا الاجتماعي دور كبير في تفشي العنف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فالإنسان في هذه المجتمعات يواجه العنف في جميع مراحل حياته، من المهد إلى اللحد، من العائلة والمدرسة والمجتمع. والغريب أن العنف ضد الأطفال مدعم بمقولات اكتسبت صفة المسلمات التي لا يناقش فيها أحد، مثل قولهم: (امش وراء الذي يبكيك ولا تمش وراء الذي يضحكك). يبدأ العنف من العائلة، فالآباء يضطهدون الأبناء باسم التربية الصالحة وأنه في سبيل مصلحته، والأخ يضطهد الأخت، والأخ الأكبر يضطهد الأخ الأصغر، وفي المدرسة يمارس المعلم حق ضرب التلاميذ بقانون. ومن مقولاتنا الخالدة في هذا الخصوص أنه عندما يأخذ الأب طفله إلى المدرسة لأول مرة، يقول للمعلم (لك اللحم ولي العظم)، أي أدبه بالضرب حتى لو تطلب الأمر أن تهرس لحمه على أن لا تكسر عظامه!! وبعد الدراسة يواجه المواطن في المجتمعات العربية الضرب خلال الخدمة العسكرية. وعندما يخرج إلى الحياة العامة ويصبح رجلاً، تستقبله الحكومة بالضرب إذا ما تجرأ في معارضتها بالانتماء إلى حزب معارض، حيث يتناوله الجلادون في الزنزانات الرهيبة ويمارسون بحقه شتى أنواع التعذيب وبشتى الوسائل الهمجية المهينة.
لا شك أن أي نوع من التعذيب، الجسدي والنفسي للإنسان، بغض النظر عن عمره، مهيناً لكرامته، يسبب له آلاماً نفسية شديدة، ويترك آثاراً مؤلمة لا تمحى مدى الحياة، تخلق له الكثير من العقد النفسية، وينشأ وهو يؤمن في قرارة نفسه أن العنف حق مشروع، يجوز له أن يمارسه بحق الآخرين، طالما مارسه الآخرون بحقه. ولهذا لا نستغرب تفشي العنف في مجتمعاتنا إلى حد أن بلغ مستوى الإرهاب في القتل الجماعي، وأنتج لنا قادة سياسيين عنيفين يماروسون الإبادة الجماعية ضد شعوبهم، من أمثال صدام حسين وبشار الأسد ومعمر القذافي وحسن البشير وغيرهم، وقادة منظمات إرهابية من أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي ومقتدى الصدر وأبو حمزة المصري وأبو الدرع العراقي وغيرهم كثيرون. كما ولن نستغرب أن تواجه الديمقراطية والحداثة هذه المعارضة الشديدة في بلادنا دون بقية الشعوب، وأن يصدر دعم جماهيري واسع لاستخدام الحذاء من قبل صحفي كوسيلة من وسائل التعبير بدلاً من الكلمة، واعتباره من مظهراً من مظاهر الرجولة والشجاعة والوطنية الخالصة يستحق عليها أرقى الأوسمة العربية.
مناسبة هذه المقدمة هي ما أذاعته وكالات الأنباء عن وفاة طفل بريء بسبب الضرب المبرح من قبل معلمه في المدرسة، إذ يقول الخبر وكما نشرته مؤسسة بي بي سي على موقعها يوم 25/12/2008: [قضت محكمة الجنايات بالإسكندرية بسجن المدرس الذي اتهم بالتسبب في وفاة أحد تلاميذه ست سنوات. وكان هيثم نبيل عبد الحميد مدرس الرياضيات البالغ من العمر 23 سنة قد ضرب تلميذه إسلام عمرو بدر الذي كان يبلغ من العمر 11 سنة على مستوى المعدة عقابا له على عدم إنجازه واجبه المدرسي. وقد لفظ التلميذ أنفاسه الأخيرة إثر هبوط في القلب في مستشفى بالإسكندرية، حيث نقل إليها بعد أن فقد الوعي. وذكر أحد الشهود للمحكمة أن الطفل المتوفى كان يعاني من كسر في أربعة من ضلوعه. وأدين المدرس بالقتل غير العمد. وقال المتهم إنه كان يهدف إلى تأديب التلميذ وليس إلى قتله. وقال محامي الدفاع: إن ضرب التلاميذ غير محظور في المدارس، لذا فإن موكلي لم يخرق أي قانون."].
إسلام عمرو بدر فارق الحياة متأثرا بهبوط حاد في الدورة الدموية وتوقف القلب
هذه الجريمة المأساة لم تأت من فراغ، بل هي نتاج الثقافة والقوانين السارية، إذ كما قال محامي الدفاع أن " موكله لم يخرق أي قانون." إذنْ، ووفق هذه القوانين والتقاليد، يجب أن يتوقع الآباء قتل أبنائهم في المدارس بسبب الضرب، لأن ضرب الأطفال من قبل مدرسيهم لا يتعارض مع القانون!! لذا فيمكن أن أتصور أن المعلم الجاني هو الآخر ضحية لهذه التربية، ولا أشك أنه هو أيضاً كان قد تعرض للضرب من قبل مدرسيه عندما كان طفلاً، فمثله كمثل الشاذين جنسياً (paedophiles) الذين يعتدون على الأطفال، إذ تؤكد البحوث في هذا الخصوص أن معظم الذين يعتدون على الأطفال جنسياً، هم أنفسهم كانوا ضحايا هذا النوع من العدوان في طفولتهم.
وبعد كل هذه الكوارث التي نزلت ومازالت تنزل على مجتمعاتنا العربية، علينا أن نسأل: أما آن الأوان لنعيد النظر في الكثير من المفاهيم والقوانين التي نعتبرها من المسلمات؟ ألا يجب أن نعمل معاً لوضع حد لهذه التربية المدمرة؟
وجوابي هو، أنه من واجب التربويين والإعلاميين والمثقفين شن حملة ثقافية واسعة ضد هذه الممارسات اللا أخلاقية واللا إنسانية بحق الطفولة، والعمل على منعها فوراً. فهل كان من الضروري أن يموت التلميذ (إسلام عمرو بدر) وربما غيره في المستقبل، لكي يقتنع التربويون وغيرهم من المسؤولين عن تربية أطفالنا، أن الضرب وبجميع أشكاله ودرجاته مهين لكرامة الإنسان، وخطر إلى حد أنه قد يتسبب في موت الضحية، ومردوده على الضد مما يراد منه؟
لذا أقترح بمطالبة منظمة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، بإصدار قرار يمنع بموجبه ضرب الطفل، سواءً في العائلة أو المدرسة، بمثل ما هناك قوانين تمنع تعذيب الكبار قيد التحقيق في المعتقلات، وإلزام الحكومات والمسؤولين والتربويين في البلاد العربية بإصدار القوانين الصارمة تقضي بمنع الضرب في المدارس وفي جميع مراحل التعليم دون استثناء، وأن تتبني وسائل علمية أخرى في توجيه الطفل بدلاً من الضرب وإلحاق الألم الجسدي والنفسي، تماماً كما هو متبع في الشعوب الغربية المتحضرة حيث منع الضرب في مدارسها قبل أكثر من عشرين عاماً، بل وحتى التعنيف اللفظي الشديد المهين للكرامة.
والجدير بالذكر أني دخلت مرة في نقاش حول تقدم التلميذ مع أحد المدرسين في المدينة التي اسكن فيها، قال بالحرف الواحد: "ليس هناك تلميذ فاشل، بل هناك مدرس فاشل". بمعنى أنه إذا ما قصّر التلميذ في واجباته المدرسية فالسبب هو المدرس لأنه فشل في تشويق الدرس إلى التلميذ وحثه على أداء واجباته. ونظراً لمنع ضرب الطفل وإهانته في الغرب، نرى الطفل الغربي عندما يتحدث في التلفزيون في مناسبات خاصة، يتصرف وكأنه إنسان بالغ ناضج بشكل طبيعي، يعبر عن أفكاره بوضوح وبثقة عالية، بينما نرى الطفل العربي أو الشرقي في هذه الحالات مرعوباً، تلازمه مشاعر الخوف والقلق والتردد وعدم الثقة بالنفس. لا شك إنه نتاج التربية الخاطئة.
وعليه فمن أجل تحقيق السلم الاجتماعي، ونجاح الديمقراطية، يجب أن نبدأ ببناء الإنسان السليم الخالي من العقد النفسية من الأسرة والمدرسة، أي بكسر حلقة العنف المفرغة وذلك بتبني الأساليب العلمية الصحيحة في التربية، واحترام الطفل منع ممارسة العنف ضده. فالإنسان السليم نتاج البيئة السليمة.
كما وأهيب بالبرلمان العراقي أن يصدر قانوناً يمنع بموجبه ضرب الطفل من قبل الآباء و المدرسين، واعتبار العقوبة الجسدية ضد الأطفال جريمة يحاسب عليها بقانون كما هو الحال في البلدان الغربية المتحضرة.
ــــــــــــــــ
تقرير بي بي سي عن الحادث: مصر: الحكم بسجن المدرس المتسبب في وفاة تلميذه
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/middle_east_news/newsid_7799000/7799842.stm