تمتد المسافة...
يتمدد الهواء، الشجر، الزمن...
لا زالت تقف، عين علي شئ بالداخل يكاد ينفجر و عين علي الرصد...
السيارات تبتلع الطريق، الطريق يبتلع السيارات...
يقل المشاة هذا الزمن و الشمس تختنق و بقايا ضباب...
تشير الي سيارة، لا تقف...
تقف سيارة أخري. تنطفئ إشارتها و تشتعل...
تتحرك نحوها وئيدة و كأنها لا تريد ان تتحرك...
لكن الثلج يسري، الشمس تختنق و بقايا ضباب...
ماذا قالت للسائق؟ لا ريب انها طلبت ان ينقلها مشوارا محددا لكنها لم تسمع صوتها يتحدث...
يبدو انها لم توافق علي المبلغ الذي طلبه السائق الا انها لم تعرف كم طلب بالتحديد...
ضحك السائق بوقاحة، ثم غمز بعينه و قال و هو يفتعل الظرف : هيا اركبي...
و لم تتحرك. الشمس تختنق. الثلج يسري و بقايا ضباب...
نقطة ثم اتسعت...
نقطة أخري تتسع و أخري...
نقطة داخل نقطة تتسع دوائر الماء تنفجر...
يبدو وسيما. هيا اركبي. تمتطي سحابة، عارية إلا من قطرات الماء تتساقط. تنفرض كحبات عقد علي عريها و تنزلق حتي أخاديد ذلك الكائن النوري المعلق بين الفخذين.
هيا اركبي، تذكرها الأيام الموؤدة...
تتحرك الي الخلف. تحدق نحو الفتي. تتسع ابتسامته. يبدو شاربه كالشوك. فجأة تنكمش أعضاؤها. تتسع ابتسامته. تصطدم بالمظلة علي الرصيف. تشير إليه بأن يتحرك، الا انها لم تر يدها تشير و لم تحسها تتحرك...
تنطلق السيارة و تنطلق من الفتي لفظة بذيئة...
تتغلغل اللفظة داخلها. نقطة داخل نقطة تتسع دوائر الماء. تتغلغل اللفظة داخلها...
أعضاؤها المنكمشة تتفرد. تتنهد بعمق...
كأن قطرات الماء المنفرضة قد سقطت علي صحرائها...
تقف سيارة أخري. تبتدئ لعبة الإشارات البرتقال. تفتح جوعا. تحب البرتقال. يذكرها بيوسف. تمتد يده بالبرتقالة. تقطفها من يده قطفا. تعدو. يعدو خلفها...
يلحقها. تمتد يده، يدا تسابق يدا...
يقعان...
تنعصر البرتقالة بينهما. تنسكب...
البرتقالة تصير عجينا...
نزلت السماء القطيفة و تسيب البرد...
تدخل الإشارات البرتقال دائرة البصر. تلمح السائق بطرف عين. يضع علي رأسه دائرتين سوداوين. يبتسم. تشم رائحة شواء في الخلاء. تتطاحن داخلها صور تتمرد. تتصارع. تمزق بعضها بعضا...
يتودد السائق بلطف شديد. انها تسمع تماما هذه المرة...
لكن يوسف لم يقل وهي لم تطلب شيئا...
كان والدها يخطب في المصلين و يذكرهم – من استطاع الباءة فليتزوج – لكن يوسف لم يطرق الباب بعد. ربما كان أكبر سنا و ربما له اولاد مثله. لكن لم يكن ذلك ليهم أحدا بالطبع سواها.
كان يلتقيان. يمضيان قدحا من الليل سويا أو لا يمضيانه. لكنها لم تكن تطلب شيئا...
ثم إذ هي تتلامس داخلها. تصاحب أفكارا حميمة. تتلاصق. تتكون...
كل شئ بدأ يتخذ طابعا رتيبا كأنه محسوب رغم انهما لم يحسبان شيئا...
الإشارات البرتقال. انتبهت. هاهو يزيح الدائرتين السوداوين و لا يريد ان يتحرك...
السيارات تمر تباعا تبتلع الطريق يبتلعها الطريق، تبتلع الداخل و يبتلعها الداخل.. يتسلل اليها البرد...
لابد ان تذهب إذن إذا أرادت ان تصل. ستجده منتظرا كعادته و ستقول له بهدوء تام – يوسف، أريد ان أذهب و ليكن ذهابي بلا عودة...
لماذا تنتهي الأشياء الجميلة هكذا بصورة تامة و حزينة؟.. لقد اقتنعت بهذه الفكرة لأنها لم تكن مقتنعة بها من قبل...
كانت تحافظ علي ذكرياتها و الأمكنة. و يشدها الحنان الي الطريق الذي مشت به في الأيام الخوالي و الي الركن الذي جلست به و الي الحلواني الذي تناولت عنده الايس كريم و.. أعواد الثقاب. حتي أعواد الثقاب التي كان يشعل بها سجائره تحتفظ بها في مكان ما داخل صندوق بداخل صندوق. عيدان تحمل بارودا محترقا...
تتآكل داخلها الأيام الذهبية...
أعماقها تهتز، توشك علي البكاء...
أجل لابد ان تعلن عن أشياء كثيرة. لا يهم.. كل شئ عاد لا يهم...
صاحب العصابة يفتح باب السيارة. يغازلها. يدعوها. تتجهم في وجهه و تردد لعنة هي نفسها لم تسمعها. خيل اليها انها تلعن. يغلق باب السيارة و هو يغمز ثم يولي الأدبار...
أوقفت سيارة. فتحت الباب. أعطت السائق العنوان ثم همست: لابد ان اقرر شيئا و لو لمرة واحدة...
سألها السائق: ماذا؟...
شعرت بانها تحدثت بصوت مسموع. ارتفعت يد السائق نحو المرآة. انعكست الصورة...
ستجد يوسف. لم يحدث ان تأخر عن موعد ابدا. و ستقول، طالما كانت تريد ذلك. كل شئ كان يتم بعفوية، بلا حسبان...
وقفت قليلا ثم دخلت. لم تجد أحدا...
اليوم فتحت الصندوق. أخرجت منه صندوقا. فتحته. نظرت الي الثقاب. ألقتها ثم مسحت دموع تجمعت علي عينيها...
يوسف، يوسف...
الشمس تختنق. الثلج يسري. و بقايا ضباب...
تخرج. تقف لحظة بالخارج ثم تخطو خطوة. تقف ثم تخطو خطوتين. تراه في مرمي البصر مقبلا يعدو ناصعا كالأيام الذهبية.. تقف: يوسف، يوسف...
تنطلق مع البرد و النقاط التي تتسع. تتسع دوائر الماء. تنفجر...
عارية إلا من حزنها...
قطرات الماء تتساقط. تنفرض كحبات عقد علي عريها. الشمس تلتهم السحب. تلتهمها السحب. تدور المعركة و تنثقب السماء...
تحس نفسها و قد غدت عملاقة. اتسعت. احتوت كل المسافة حولها ثم ولدت طفلها علي عينيها و تمددت بحجم الأزمنة.
____________________________
هامش: جريدة الهدف. ملحق الهدف الثقافي. اثناء امتلاك جريدة الوطن الكويتية لهذه الجريدة و قبل بيعها لجريدة السياسة الكويتية. 25 ديسمبر 1980م
_________________________
القصة القصيرة هي أيضاً من بين قصص المجموعة القصصية التي صدرت للكاتب بعنوان "إيقاعات الساعة صفر" في الكويت عام 1983م و توجد منها بعض القصص هنا http://sudanese-art.blogspot.com
Copyright
Khalid Osman http://www.hoa-politicalscene.com
--------------------------------