صوت الوتر السادس
------------------------
قمرٌ لبابٍ واحدٍ
ومهاجرٍ بالعشقِ، منقطعٍ لدربٍ قاصدٍ،
القلبُ زكته الخيولُ يوم الرحيل فكان ميلادُ المطر،
هكذا…
سحبٌ، دخان،
برقٌ، رذاذ،
وزفير ماعزتى وراء "التكل"
النار والأبنوس، مدفأتي..
وعصيدة الدخن العتيقة "والكَوَل"
بكاء أخي الصغير،
سروالي الممزق من مطاردة السحالي والورل.
وزجاجة السمن المخبأ في السياج، ولم يزل،
في صدر أمي أميناتٌ أن تسوى قطعة الجاتوه من دخن العصيدة والحليب
وأنا أحدد طاقة الإمكان في كتب الدراسة والحديث،
ومزاعم الحلوى،
وهو هوة الضرائب
والعشى الليلي، ونقص الفايتمين.
سألتُ أمي:
كم توازي قطعة الجاتوه من دخن العصيدة؟
لم تجبني .. ساعةً،
ففتحتُ عيني موقظاً في الجهر زندقة التوقع قائلاً:
"إني أرى شجراً يسير"
أراه في سطر المدى
وأرى المدينة في احتراق جحيمها
وبفوقها عربٌ تدق خيامها بين المطامير، العمارات، الشوارع..
ليس ثمة من سؤالٍ عن مواقيت الرحيل.
وأرى التفاصيل العويصة في اشتعال السوق،
في كيميا التحلل والذبول.
والنوق ترتع، ثم ترجع، ثم تبعر فوق أسفلت الشوارع،
والنعامة تستغيث،
وتدفن رأسها في شنطة البوليس،
وأراك هاربةً من الدكان يا أماه.
أرى...
أرى...
"يا ولد، أمسك لسانك .. يا مشوطن"
أو لا أرى..
وسكت ممتشقاً رؤاى،
أراقب الملكوت، دوران الكواكب
والنواميس العظيمة والوري..
عشرون قصَرِت الخطى
والشمس تطلع، ثم تغرب،
ثم تطلع، ثم تغرب،
ثم تطلع ، ثم تغرب،
ثم تطلع بعد عام..
ويفوت عامٌ آخرُ حتى المساء..
هناك يكبر في دمى نبض الفصول.
الخرطوم (1)
الدرس الأول: التاريخ
المهدى نخاسٌ شهير
"شوله"
عبداللطيف: لم يكن في مسرح الوطن الجميل،
بل كان منهمكاً يخطط لانقلاب عسكريٍ..
كي يعيد إلى أميّةَ أصلها القرشى والنسب النبيل.
عبدالفضيل:
كان نشالاً ولصا موغلا في الاحتراف
"نقطة، سطر جديد"
الخليل:
كان يسكن فيّلا،
ويبيع أغنية تزيف طعم البلاد،
ويقاسم السلطان قعدته الخليعة، واحتمالٌ أن يكون مجنداً في الأمن..
احتمال!!
ومهيرة:
بائعة المريسة،
أول سلطة للغيب تمتهن الغناء المستغيث دعارةً،
وتمارس التعريص في الليل البهيم،
ونكون أولاد الحرام!
طوبى لنا!
فالله في هذي المدينة ضابطٌ في الجيش،
وبطانة الشعراء من جنس الطحالب والكلاب
ولا تثق بالجامعة
واللافتات اللامعة
والوزن والشعر المقفي والصدور القانعة
إرفق بنفسك من غباء اليافعين
ومن تفاصيل التدحرج للوراء،
إن الوراء مقسمٌ بين القيامةِ والعدم،
بين الترقب والذهول..
والليلُ أوغل حين طال لكي يطول.
الدرس الثاني: السلطان
بأي أشكال العبارة انتهينا سيدي،
تجد انبهارك في الخضوع..
لك القيام
لك الجلوس
لك التهجد والصيام.
لك الفطور
لك الغداء.. لك العشاءُ وما تبقى من فتات
وكل ما فينا من التبجيل ..
ما يوازي خوفنا الأبدي منك.
تربَتْ يداك..
تربت يداك..
أنا صبيّ،
أعشق الكتب الأناقة والجلوس على الرصيف.
وتجاوز الوجع المعلب في الجرائدِ، كلهم مثلى:
يحبون التغاضي عن إجابات التساؤل في عيون الشارع المسكون بالحمى
ورائحة العرق.
تربت يداك بجهلهن، بجهلنا، بطفيلة هيفاء تنضح بالندى
بشقائق النعمان ترفل، أو تبدل حليها تبعاً لمرسوم النهار وتنجلي في الليل،
تربت يداك بزندها والمعصمِ.
فأرسم لنا
خطاً رقيقاً، أو صراطاً نحو أفقك!
كي نجيئك عابرين دماءنا
والبحر فليكن الصديد
والجرحُ أغنيةٌ تجددُ في فضاء الذاكرة،
طوبى "لسِّت الشاي"
طوبى لها والموت لي
فأموت منقسماً إلى شيئين:
حنجرتي الصياح، وللولادة في فصول الجنس آلية جديدة.
ليس لي أدنى احتفاء بالرحيل مع انتظارك، فلتكن.
في الأفق.. أو عندي..
ورائي..
ليس لي وجعٌ لأسألك المضامد والدواء،
ليس لي قلبٌ ليدخله الشجن
ليس لي إلا أنا،
وأنا المسافرُ في غدٍ من برزخٍ
وإن غداً حتماً لناظره قريب.
الخرطوم (2)
كان الصباح بهياً كوجه "سلمى"
في أول ساعةٍ تُصبُر فيها شمس أفريقيا..
وأنا..
حذائي مثقلٌ بالطين والوسخ، الشوارع والهروب..
لغتي حوار بالبنادق في زوايا العهر في زمن عجيب..
في تقاسيمي سرابٌ داخليٌ.. مُضغةٌ من انبهار رابضٍ خلف الجدار
وغارقٍ في شبر ماء..
وأكون طاحون الهواء،
ومهبطاً للحابلين، النابلين،
مركّباً من خصلتين تدلتا فوق الجبين،
مرارة الرقص المداري المحاصر بالتصحر،
واستراتيجيا الصراع.
وأدور في فلك الجهات الأربع.
أحتاجُني وطنا جديداً أو إلهاً عادلاً
بين الرصيف وبين هاتيك السماء-
أو سمِّها ذات البروج.
وأريد وجهاً أخراً
لحبيبةٍ تجتاز بي
نهر الضبابات المتاخم للخروج..
أكونها بالحب أول خارجٍ من حبل مشنقة العصور الغاربة.
لأدوزن الوجع المخبأ في غضون الأزمنة، لوناً لعشقٍ غامقٍ..
متشردٍ في ليل أوعية القرون..
أو لا أكون ..
وهكذا .. للشمس في عليائها سفر الدعاء
وضراعة الشجر الحزين إلى النبي..
أنا وطيفكَ في ديالكتيك عشقِ صامتٍ،
ودمى توزع في النهارات الصبية ثم ضاع..
ثم ضاعَ على ملايين الفراسخ من ترانيم الجياع.
وعلى العبارات المسماة انتقاءً بالحدائق، والهوى، والمهرجان..
بيني وبينكَ ريحُ أفق محتوى …
بيني وبينك ألفُ بحرٍ قاصدٍ .. صخبُ.. قصيدُ.. وألف امرأةٍ نشيد.
يا أيها الوطن المحاصر بالعبارات التوابل والوعيد.
من أين يبتدئ انتماؤك للجذور؟
أم ليس للجذر انتماءٌ للتشكل في امتداد الحيز في البصر الحسير؟
إذ كلما صعدت إلى عينيك أغنيةٌ لها معناك-
أسقطك انتماؤك للجذور؟
أم ليس للجذر انتماءٌ للتشكل في امتداد الحيز في البصر الحسير؟
إذ كلما صعدت إلى عينيك أغنيةٌ لها معناك-
أسقطك انتماء في وعاء البرجواز..
وكلما أوجزت ترتيب الحكايات القديمة في المسافة،
احتواك الريح، أو ألقى حذاءك في عميق الارتواز..
فإلى متى..
ستظل رابعة الأثافي موقعاً حتماً لمنطق سيركَ الأزلي؟
وإلى متى…
سيظل صبرك واحتمالك مستبداً بالهوى خلف الشبابيك العصية؟ فليكن..
بيني وبينك ما تبقى من مدادٍ في دمي،
وسموم زندقة العصافير التي ..
شربَتْكَ في زمن الغناء..
أرتاحُ فيك على الفصول القادمة،
وأفوتُ عندك كل يومٍ..
مثقلاً بالهم والحمى..
أراقب طلعة الشمس البهية،
أو أمارسك انسجاماً - حرفة التنجيم في طرف الشوارع - كي أوزع من
ألاقي - خلقك المشحون بالسحنات - في كل المنافي، كي أنام.
وأنامُ في صفٍ طويل..
متوسداً نعلى .. أكونك يا رماد الحب ملتحفاً ترابك حاضناً تلك السماء،
وفاتحاً بابي كبيراً للرياح القادمة.
متوسماً فيك الشفاعة الضراعة
والمواجيد العظيمة والقرِى..
وأشيل سرك راحلاً بين الغيوم،
يا أيها الوطن المحاصر بالهموم..
للشمس في عليائها سفرُ الدعاء،
وضراعة الشجر الحزين إلى النبي
أنا وطيفك في ديالكتيك عشقٍ صامتٍ