التفاهم بين الناس يزيد المحبة بينهم ويقوي أواصر الرابطة , ويعلي من التقارب العاطفي بين أفراد المجتمع , ويظهر نجاح التفاهم بالإنصات والإصغاء إلى كلام الآخرين , وقد قالوا في معني الإنصات : هو حمل نية العمل لما يقال , لك أن تتصور لو أن هذا المعنى انتشر بيننا كأفراد في المجتمع , ماهو أثره على المجتمع والكل فيه يفهم مرامي الكلام وعلى استعداد لتقديم كل عون , وتحويل الكلمات والألفاظ إلى واقع حي , وبث الحياة في الشعارات حتي تتحقق آثارها بين الناس .
بهذا التفاهم تقترب المساحات والمسافات بين أفراد المجتمع , حيث لا فروق بين آباء وأبناء , وأزواج وزوجات, ومدراء وعاملين , وقادة وأتباع , فإذا بالأداء يتحسن وبالعمل يتطور , وبالعلاقات تتجمل , في أبهج حياة وأسعد لحظات .
فلماذا نخرج عن هذه الأجواء النادرة إلى أجواء مشحونة بالتوتر والانفعالات , تصغر الكبير , وتورط الهادئ , وتحول حياتنا إلى حرائق نحن الذين نشعلها , بعدم تفاهمنا وتفهمنا كأفراد لبعضنا بدلاً من الصراع والانشقاقات والتشنجات والانفعالات !! .
فالتفاهم يجعلنا منتبهين ومركزين وواثقين , ويجنبنا الوقوع في سوء الظن أو الفهم الخاطئ أو السيطرة بدون دليل .
فالتفاهم يعني بعد هذا العرض : ( الأجواء الودية الصافية التي يسودها الاحترام والسكينة والتحلي بالصبر وسعة الصدر , والقدرة الجيدة على تجنب محاولات الضغط والسيطرة ليحل محلها التحابب والتقارب المتبادل بين أفراد المجتمع ) .
في كثير من لحظات حياتنا اليومية نشعر بخطأنا في فهم الناس , أو نحس بأننا قد أسأنا فهم مقاصدهم ونواياهم , وبالتالي فقد نسئ تقديرنا واحترامنا لهم , ويتدخل الشيطان لتعميق الفجوة والجفوة معاً , وهو العدو المتربص الذي يؤرقه تفاهم الناس في مجتمعاتهم !! , وعليه كان الواجب علينا أن نبحث في أصول التفاهم لنعمل بها ونمارسها في مجتمعاتنا .
أصول التفاهم
1 – حسن الظن
إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر , وتدعيم روابط الألفة والمحبة والتفاهم بين أبناء المجتمع , فلا تحمل الصدور غلاً ولا حقداً , فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ) .
ومما يعين على حسن الظن الدعاء , وأن تضع نفسك بمنزلة الغير , وأن تحمل الكلام على أحسن الوجوه , وأن تفتح أبواب الأعذار لغيرك , وأن تتجنب الحكم على النيات أو تعامل الناس بحكم مسبق .
والذين يسيئون الظن ويقعون في هذا المستنقع , إما لقلة الايمان أو عدم شعوره بالثقة في نفسه , أو شعوره بالدونية أي أنه أقل من غيره , أو لارتكابه المعاصي فيظن أن الجميع يفعلون ذلك , ومن ثم كانت العواقب خطيرة , حيث يجره سوء الظن إلى المزيد من الذنوب , فتتحول حياته إلى جحيم , حيث يلصق التهم بالأبرياء بلا سند ولا دليل .
ولذلك كان منهج عمر بن الخطاب : لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرا وأنت تجد لها في الخير محملاً , وكان محمد بن سيرين يقول : إذا بلغك عن أخيك شئ فالتمس له عذراً , فإن لم تجد فقل : لعل له عذراً لا أعرفه .
ثانيا : الإنصات
يقول تعالي : ( إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) , فالسماع غير الاستماع , والاستماع غير الإنصات , فالاستماع التفهم لما يقال , والإنصات حمل نية العمل لما فهمت , وهكذا يكون الإنصات طريقاً للتفاهم بين الناس .
ومن فوائد الإنصات الجيد : تعلم شئ جديد والتأكد من المعلومة وإظهار الاهتمام وبناء علاقات , وكل هذه الفوائد هي التفاهم بعينه الذي يتحقق بين الناس , فهل فعلاً نحن نجيد فن الإنصات ؟ .
إن أغلب مشاكلنا تبدأ من سوء التفاهم , وسوء التفاهم منشأه من قصور في تلقي الرسالة ! , وهذا القصور يرجع بدوره لسبب واحد : أن أحدنا لا يجيد فن الإنصات !! , فيقاطع ولا يتفهم وجهة النظر , ويفسر الكلام على هواه , وينشغل بالرد على المتحدث دون تركيز على الرأي المطروح , وكما قيل في ذلك : ( التعب الذي يأتيك من متابعة الإنصات خير بألف مرة من سوء التفاهم !! .
ولكي نصل إلى إنصات جيد وفعال يوصينا خبراء التربية بالتالي :
- لا تقاطع أحداً أثناء حديثه
- ركز على الأفكار الأساسية
- تجنب التعبير عن الضيق بملامح وجهك
- انتبه إلى تعبيرات من يحدثك
- تجنب الانصراف عن الحديث
- انتبه إلى الاحتفاظ بهدوئك
- ركز فهمك للاشياء المقصودة
- لا تتكلم أثناء كلام الآخر
- فكر في تعبيرك قبل حديثك
- لا تنفعل بمجرد سماع النقد والاعتراض
- اظهر ترحيبك بالاعتراض والنقد
فما أجمل أن تتحقق فينا الآية الكريمة , في قوله تعالى :
( وتعيها أذن واعية )
حيث نحتضن الغضب والغاضبين , ونمتص الألم ونحتوي المتألمين , ونعبر عن ذلك كله بالعين قبل الأذن , فالإنصات بالعين كما بالأذن .
ولذلك الناس تلجأ دائماً للمنصت لهم لأنه المغناطيس الذي يلجئون إليه لتفريغ همومهم وأحزانهم وأفراحهم .
ثالثاً : المصلحة المشتركة
لو حرص كل منا على مصلحة الآخر قبل مصلحته , لصدق وتحقق التفاهم بين أبناء المجتمع , والإسلام يعلم أبناءه أن أي تعارض بين مصلحة الفرد والمجتمع فعليهم أن يقدموا على الفور مصلحة المجتمع , لأنها المصلحة العامة , فالرسول صلي الله عليه وسلم حينما رفض المال والسلطة والجاه والمكانة كان في الأصل يرفض المصلحة الشخصية التي قدمت بين يديه , فهو كصاحب رسالة غلب وقدم مصلحة الأمة العامة , لتكون قاعدة كل من يعمل في المجتمع .
ومن ثم كانت القاعدة الاسلامية : ( لا ضرر ولا ضرار ) بمعني أن أحكام الاسلام ليست موجبة للضرر بل كلها نفع , ثم إن الإسلام لا يسمح بضرر الإنسان للآخر , وحتي ضرره على نفسه , كما أنه لا يسمح بمطلق الضرر حتي على الحيوانات والطبيعة .
ومن ثم فأي تنطيم للمجتمع بوضع قانون يلجأ إليه أفراده , لابد أن يقوم على هذه القاعدة فلا يسيطر عليه الأهواء والمصالح الشخصية , فتضر أكثر مما تنفع .
رابعاً : التفاوض الهادف
إذا كان معني التفاوض : ( أنه عملية اتصال بين شخصين أو أكثر يدرسون فيها البدائل للتوصل لحلول معقولة لديهم أو بلوغ أهداف مرضية لهم ) , فإنه لابد له من هدف واضح : وهو الوصول إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف , وبهذا نقول : إن التفاوض الهادف هو الطريق إلى التفاهم بين أفراد المجتمع , حيث التعاون لا التصارع , وإلا كانت العواقب وخيمة حينما يتصور البعض أن هدف التفاوض هو الانتصار على خصمه وهزيمته وتحقيق الفوز عليه بأي ثمن .
ومن أجل تفاوض هادف لابد من أن تكون المعلومات متوفرة وأكثر دقة من الطرفين , للوصول إلى إحداث توازن يشجع على التوصل إلى حل وسط , يحقق فوز الاثنين معاً , بعيداً عن أي ضغوط خارجية لا تؤدي إلا إلى تفكك أواصر المجتمع , ومحو المحبة بين أفراده , أو بمعني آخر : إحداث حاجز يحول بين تفاهم الناس , وبالتالي لا يحظي المجتمع بأي أمن واستقرار .