توفى ليلة أمس فضيلة الشيخ محمد سيد حاج - من أبرز علماء السودان - و هو فى طريقه
من العاصمة الخرطوم الى أحدى مدن شرق السودان فى رحلة دعوية - نسأل الله أن يتقبله القبول الحسن و يعلى درجته مع الصديقين و الشهداء و الصالحين .
و أنقل لكم أدناه كلمة صنوه و رفيق دربه فضيلة الشيخ الدكتور : عبدالحى يوسف الأستاذ بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم بعد أن بلغه نبأ وفاة الشيخ رحمه الله .
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وله الآخرة والدنيا، (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) والصلاة والسلام على من علَّمنا الصبر على نوائب الدهر، وعلى آله وصحبه أولى النهى، وعلى من تبعهم بإحسان في الآخرة والأولى، أما بعد.
فإنني أكتب هذه الكلمات معزِّياً نفسي وإخواني المسلمين في السودان والمشارق والمغارب في فقيد العلم والدين أخي الحبيب الشيخ الأستاذ العالم/ أبي جعفر محمد سيد حاج، الذي قضى عمراً طيباً مباركاً أفناه في الدعوة إلى الله والدلالة عليه ونشر العلم وتبليغ الهدى ـ أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله ـ محمد سيد حاج اسم إذا ذُكر تذَّكر الناس علو الهمة ومضاء العزيمة وشجاعة النفس وطيب المحيا وكمال الأدب وحسن الخلق وسلامة الصدر، تذكره المساجد والمنابر وساحات الدعوة وحلق العلم، يذكره المؤمنون المحبون للعلم في العاصمة والولايات بوجهه البشوش وصدره الواسع وحلمه البالغ وطرفته الذكية.
إن في الله عز وجل عوضاً من كل هالك، وخلفاً من كل تالف، ولكن حق للمسلمين في السودان أن يحزنوا لموت أحد علمائه الأفذاذ وفقهائه النجباء، من جاب البلاد ينشر الهدى والنور، وساح في الأرض يدعو ويجاهد، حتى كانت منيته في ساحة أحبها، وطريق يألفه؛ وإني لأرجو له أن يكون الله قد كتب له الشهادة وحسن الخاتمة برحمته؛ وإذا كان الموت قدراً مقدوراً لا مفر منه؛ فما أطيبه حين يكون موتاً شريفاً في غاية شريفة، وهو ما نحسب أن الله تعالى قد اختاره لأخينا أبي جعفر؛ فإنه مات في طريق الدعوة وفي سبيل الله، خلَّف من ورائه ذرية ضعافاً، ووالدين شيخين كبيرين، وخرج يدعو إليه ويبشر بجنته ويرغب الناس في دينه؛ فاللهم ارحمه برحمتك التي وسعت كل شيء، وشفِّع فيه عمله الصالح، وتقبَّل منه صبره وجهاده، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واجمعنا به في جنات النعيم.
إنني حين أكتب هذه الكلمات بعد ساعة من وصول خبر وفاته ـ رحمه الله ورضي عنه ـ لحقٌ عليَّ أن أذكر بعض ما عرفت عنه من مكارم الأخلاق وجميل الصفات وطيب الخصال:
أولاً: أول ما لفت انتباهي في حياة الشيخ رحمه الله التوفيق الذي صحبه؛ حين اختار طريق الطلب للعلم الشريف؛ رغم كونه قد درس في المدارس النظامية التي يدرس فيها أغلب الناس؛ ثم التوفيق الذي لازمه وهو يستظهر النصوص ويورد الأقوال ويحسن العرض؛ فيقرِّب البعيد ويسهِّل الصعب، ويحرِّك المشاعر ويوقظ النفوس
ثانياً: ما رزقه الله ـ على حداثة سنه ـ من سرعة بديهة وحدة ذهن وتوقد قريحة، مع دعابة وطرفة جعلت الناس يحبونه ويسعون إلى مسجده في كل جمعة، ويتحلقون في دروسه حيث كانت؛ لسلاسة أسلوبه وعذوبة عرضه وحلاوة منطقه
ثالثاً: الشيخ ـ رحمه الله وأعلى مقامه في الجنة ـ كان مبذولاً للناس كافة، أو قل: كان عالم عامة، فما كانت محاضراته ودروسه لخاصة الناس ولا لطبقة دون أخرى، بل كان للناس جميعاً، من دعاه أجابه، ومن سأله أفتاه، وأذكر حين قامت إذاعة طيبة كان من أوائل الأصوات التي سمعها الناس، ثم حين قامت القناة كان من أوائل الوجوه التي طلعت على الناس كالشمس في ضحاها؛ فكان رحمه الله كالغيث حيثما وقع نفع.
رابعاً: وضوح منهجه واستقامة فكره؛ فما كان رحمه الله متقلباً متردداً، بل كانت المسائل في ذهنه واضحة والطريق بيِّناً، وإني لأذكر كلماته في آخر ندوة رأيته فيها ـ ندوة الانتخابات بساحة المولد ـ حين قال: إن العلماء مستقلون لكنهم غير محايدين! يعني أنهم ما يستطيعون الحياد بين من يقول: ربي الله، ومن يقول: لا إله والحياة مادة، بين من يحب شرع الله ودينه، ومن يعادي الله ورسوله، وكذلك حين زاغ بعض الشباب وحملوا على أهل العلم حملة شعواء، واختاروا طريقاً مبايناً أفضى بهم إلى مسالك وعرة؛ كانت نهايتها غياهب السجن؛ فأراد أولو الأمر أن يبذل الدعاة طاقتهم في محاورة أولئك الشباب؛ فرشحت لهم ـ في ثلة من أهل العلم والفضل ـ أخانا الحبيب الشيخ/ محمد سيد؛ فكان ـ والله شاهد ـ ابن بَجْدَتِها وأبا عُذْرتِها ـ يجيب على الشبهات إجابة الواثق ويزيل عن الشباب ما بأعينهم من غشاوة، مع أبوة حانية وأخوة صادقة ووجه باسم، وكانت تلك المحاورات ـ بحق ـ مدرسة فكرية وجامعة علمية استفاد منها الجميع شباباً وشيوخاً
خامساً: كان الشيخ وصولاً للناس في أفراحهم وأتراحهم، ساعياً بينهم بالإصلاح والخير، ولا زلت أذكر حين عرض عليَّ خبر فتاة بينها وبين أهلها خلاف في شأن زواج تحرص عليه، وأهلها لا يريدون لاعتراضهم على الرجل الذي تقدم لها، فاعتذرت إليه بأنني لا أدخل في هذه الأمور، ولم يزل ـ رحمه الله وغفر له وجزاه خيراً ـ يلح عليَّ ويفتل لي في الذورة والغارب حتى ذهبت معه إلى بيت أهلها، ومكثنا معهم حيناً من الليل نحاورهم ومعهم فتاتهم؛ ثم بعد ذلك ما زلت أسأله عن أخبارها كلما لقيته فيحكي لي ما حدث من أمرها، مما يدل على أنه تابع واستقصى وما ملَّ ولا كلَّ
وأخيراً: ماذا عساي أن أقول في رجل بكت عليه الأعين، ونطقت بفضله الألسن، ورثته القلوب قبل الكلمات؟ ماذا أقول عمن أحبه الناس فأعاروه قلوبهم، وأصغت إلى كلماته أسماعهم؟ إنني أعزي ـ وأنا خارج السودان ـ العم الكريم/ سيد وزوجه الفضلى، وأقول: يا ليتني كنت معكم، أقف إلى جانبكم لأمسح دموعكم، وأداوي جروحكم، وأواسيكم في مصابكم، لكن لا إله إلا الله، إن العين تدمع، والقلب يحزن، وإنا لفراقك يا أبا جعفر لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا (إنا لله وإنا إليه راجعون)
منقول