وصلت لتقاطع شارع الحرية مع شارع الوحدة في الواحدة من بعد الظهر ، وقد كان الجو مغيماً والسحب الرمادية تتدلى حتى تكاد تلامس العمامة التي إرتديـها في هذه الظهيرة الخريفية النديانة ، أوقفت سيارتي الكونسول بالقرب من أحد الأشجار المطلة على الشارع ، أقفلت محرك السيارة ، وأفرغت محتويات جيوب جلباب التترون ناصع البياض ولم أترك إلا مسبحة بنية أهداني إياها عبد الوهاب جعفر الرباطابي عند مقدمه بعد آداء مناسك الحج السنة الماضية ، ولم أشأ أن أترك علبة البرنجي والكبريت على سطح طبلون السيارة ، خوفاً من تسلل حبيبات الأمطار التي توشك على عزو الفضاوات المتربة والمتعطشة ، فأخذت السجاير والكبريت وزجيت بـهما داخل صندوق خصصه مصنعو الكونسول في سنة 1964 ليفصل بين المقعدين الأماميين للسيارة ، وتركت جهاز الموبايل "سونيأركسون" على يسار مقود السيارة في أحد الجيوب الملحقة بالباب الأيسر الأمامي.
ترجلت من على ظهر السيارة ، وأعدت ترتيب العمة لتأخذ هيئتـها على رأسي توطئة للدخول لبـهو مسجد الأمل بضاحية المخمليين البازخة ، ووصلت إلى منتصف فناء المسجد ، وأبطأت الخطى للإستزادة من هواءات ندية كانت تـهب وكأنـها مبثوثة من مربعات لنجيلة داكنة الخضرة كانت تكسو أرضيات براحات المسجد المستطيلة ، يفصل بينـها ممرات مفروشة بأحجار خرصانية متوسطة الحجم تتخللـها شجيرات الرويال بالم فارعة الطول ، والتي أضفت على براحات المسجد ألقاً على ألق ، ولم تمر لحظات حتى وجدت نفسي على مدخل المسجد حيث إصطفت أحذية المصلين كما إصطفت سياراتـهم خارج أسوار المسجد ما عدا سيارتين ألمانيتين من ذوات الدفع الرباعي "بورش كيان" جاسمتين على مظلتين مصممتين من مادة بيضاء أقرب للفايبر قلاص ، وقد علمت بعدها بأنـهما "السيارتين " تابعتين للوالي الذي حضر خصيصاً لإمامة المصلين في هذه الجمعة المباركة.
وأكملت خلع الحذاء الأيسر بعد أن خلعت الأيمن أولاً ، وعندها قام المؤذن بإشعار المصلين ببداية الشعاير ، فأذن الآذان الثاني بصوت رخيم زاد من طلاوته جهاز منظم الصوت المثبت على الجدران بعناية بين واجهات المسجد الزجاجية الخضراء ، وبصعوبة إتخذت حيزاً في الصفوف الخلفية وجلست بعد إن إعتلى الإمام المنبر الخشبي المصمم على طريقة الأربيسك ذات الطابع الإسلامي ، والتي كثيراً ما نشاهدها في مساجد تركيا وإستنبول ، وقد تم تثبيت المايكرفون أمامه لا طول ولا قِصر.
وبدأ الإمام الوالي خطبته ــ في أجواء معبقة بروائح المسك والعنبر ــ وقد خصصها لصلة الرحم ، وبعد مقدمة قصيرة إستشعر فيـها أهمية صلة الرحم مستدلاً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وأذكر منـها على سبيل المثال ، إستدلاله بقوله تعالى ــ سورة النساء 1 ــ (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم)) وقوله تعالى في ــ سورة الإسراء 23 ، 24 ــ (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما*واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً)) ، وقوله تعالى في ــ سورة لقمان 14 ــ ((ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك )) ، وأفاض الإمام الوالي في شرح الآيات التي إستدل بـها الشي الذي ترك إنطباعاً طيباً لدي المصلين ، والذين أومأوا بالرضا والإستحسان.
وبعدها عرج الأمام الوالي لمناقشة أمر الوحدة ، كقضية جوهرية أمن على أن نوليـها إهتماماً لجعلـها جاذبة في الأيام القليلة القادمة التي تسبق الإستفتاء في يناير 2011م ، كما تناول ــ بشي من الإقتضاب ــ محادثات سلام دارفور متمنياً أن تكلل جهود المجتمعين في الدوحة بالنجاح ، داعياً الشقيقة ليبيا بعدم إيواء الدكتور خليل إبراهيم ، وفي السياق توعد الامام الوالي ــ مدع المحكمة الجنائية الدولية ــ لويس مورينو أوكامبو بالويل والثبور ، وذلك بسبب إستهدافه لرئيس الدولة المنتخب ، وفي الشئون الداخلية فقد ساق بعض المبررات للقرار الصادر بإيقاف جريدة الانتباهة ، وأمن على الحذر لتفويت الفرصة على المتربصين بالبلاد ، أما في الشأن الاجتماعي ، فقد أثار الامام الوالي مسألة إنتشار الشقق المفروشة في العاصمة ، وما تبع ذلك من ظواهر ، وشدد على الأجهزة المعنية بضرورة التأكد من وجود قسيمة الزواج بالنسبة لأي رجل وإمرأة يرتادان أي من تلك الشقق ، كما شدد على عدم السماح بعمل أي تصوير لأي مناسبة داخل هذه الشقق منعاً للفتن والمجون على حد قوله " وفهمت لاحقاً بأن الأمر يعود لإنتشار ظاهرة تصوير عروض الأزياء النسائية والرجالية بالشقق المفروشة".
وختم الإمام الوالي خطبته بقوله ((...أسأل الله تبارك وتعالى أن يبصر أمتنا بغايتها وطريقها وأن يفتح لها فتحاً مبيناً ويهديها صراطاً مستقيماً، وينصرها نصراً عزيزاً، اللهم آمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وعم المكان صمت رهيب قطعه الإمام الوالي بقوله (( الحمد لله، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين، أما بعد،،، فقد ورد أن في يوم الجمعة ساعة إجابة لا يصادفها عبد مسلم يدعو الله بخير إلا استجاب له ولعلها تكون هذه الساعة.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وفي أهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم اجعل يومنا خيراً من أمسنا، واجعل غدنا خيراً من يومنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة، اللهم اجمع كلمة هذه الأمة على الهدى وقلوبها على التقى، ونفوسها على المحبة وعزائمها على عمل الخير وخير العمل، ونياتـها على الجهاد في سبيلك.
اللهم افتح لإخواننا في فلسطين، اللهم افتح لإخواننا في العراق، اللهم افتح لإخواننا في أفغانستان ، وطاجكستان ، وقرغيزيستان ، والشيشان ، اللهم افتح لإخواننا في سائر أرض الإسلام، اللهم افتح لهم فتحاً مبيناً واهدهم صراطاً مستقيماً وانصرهم نصراً عزيزاً، وأتم عليهم نعمتك وأنزل في قلوبـهم سكينتك، وأنزل عليهم فضلك ورحمتك، اللهم احرسهم بعينك التي لا تنام، واكلأهم في كنفك الذي لا يضام، اللهم عليك بالمعتدين على أمتنا من أمثال أوكامبو والانفصاليين ، ومن الصهاينة والأمريكان والبريطانيين ، والأسبان ، والاورجوانيين ، والهولنديين والألمان ، والإيطالين ، والفرنسيين ، وكل من حالفهم وشد أزرهم في كأس عالمـهم التي تنادوا إليـها هذه الأيام في جنوب إفريقيا ، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم نكس أعلامهم وزلزل أقدامهم، اللهم رد عنا كيدهم وفل حدهم وأذهب ريحهم وأزل دولتهم وأزل عن أرضك سلطانـهم ولا تدع لهم سبيلاً على أحد من عبادك المؤمنين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك اللهم أرنا فيهم بطشك وقوتك يا رب العالمين ويا أمان الخائفين ويا غوث المستغيثين ويا قاسم الجبارين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تـهلكنا بما فعل السفهاء منا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
عباد الله، يقول الله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ، فإصطف المصلون وإتخذت حيزاً بالقرب من الجانب المطل على شارع الوحدة ، وقد أتاح لي زجاج مسجد المخمليين فرصة طيبة لمتابعة أرتال السيارات الكورية التي تتسابق في إنتظام بشارع الوحدة والحرية جيئة وذهابا ، إلى أن سمعت دوي السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته من على مكبر الصوت ، وحينما سلمت إلتفت إلى رجل أربعيني وسألني " إنت بتتلفت مالك ياخوي رايحة ليك عربية ولا شنو ؟؟
تأسفت للرجل ، ومن حينه لم أدخل أي مسجد زجاجي حتى تاريخ هذا اليوم ، مكتفياً بالصلاة داخل مساجد الطوب والحجارة ، لا شيشان لا شقق.