الصحابي المزعوم في حكومة الخرطوم
محمد عثمان إبراهيم
الطرفة قديمة ولا تبعث على الضحك إذ تحكى كما يلي:
كانت السيدة المتفاخرة تزعج صويحباتها إذا ما التأمن بقصتها المكرورة عن خطوبة مدير شركة (الكافينول) لإبنتها الجميلة، وإن أكثر ما يعيق الزواج الآن هو عدم توفر الوقت الكافي للعريس لإقامة الأفراح! في كل مكان تذهب إليه كانت السيدة المتفاخرة تحكي قصة خطيب بنتها، وتتفاخر بمنصبة الإداري (الرفيع) حتى أوقفتها صديقة لم تعد مستعدة لسماع المزيد من هراء التفاخر هذا، فصدّتها قائلة " هو الكافينول حبتين بتعريفة، كمان عندو مدير؟". في كثير من الأحيان استعيد هذه الطرفة الحكيمة كلما جلست إلى سياسي من ساسة الصفوف الخلفية، لكني لم اشعر أبداً بالحاجة إلى اطلاق هذه الطرفة من صدري إلا الآن. النكتة مهداة بشكل مباشر وحصري للسيدين د.عبدالملك البرير معتمد محلية الخرطوم ومستشاره فضل المولى نعمة الله.
***
كنت إلى وقت قريب أحسب أن المعتمد هو المنصب التنفيذي الدستوري الأول الذي تنطلق منه قاعدة هرم الجهاز التنفيذي الحكومي وهو بهذا المعنى المنصب الأدنى في هرم الحكم الإتحادي. والحال كذلك لم أكن أعتقد أن للمعتمد طاقم من المستشارين الذين يحرقون (البخور) في حضوره وفي غيابه.
كان الأحرى بالدكتور/ عبدالملك البرير مفارقة العمل السياسي ضربة لازب فالرجل بوجهه البهي وحلته الأنيقة ظل حاضراً في وسائل الإعلام –عنوة واقتداراً- طوال العشرين عاماً الماضية وما زلت أتذكر إعلاناته في الصحف منذ عهد نشاطه في اللجان الشعبية وحتى بلوغه منصب المعتمد. الحقيقة أن الرجل لم يحقق كسباً سياسياً يعتد به منذ أن كانت البلاد مليون ميلاً مربعاً، ومن الطبيعي أن فرصه ستتضاءل مع تضاؤل مساحات الأرض واشتداد التنافس الذي بدأت ملامحه تتشكل منذ الآن.
من ناحية ثانية فإن السؤال الذي يمكن توجيهه إلى السيد والي ولاية الخرطوم الدكتور عبدالرحمن الخضر عن مدى حاجته إلى معتمد ظل ناشطاً في الحكم المحلي ضمن حكومة حزب واحد لعقدين من الزمان ثم لم تسعفه تلك التجربة والخبرة و(الحلاقة على رؤوس اليتامى) بالقيام بمهام المعتمد دون مستشار! كم مستشاراً سيحتاج الدكتور البرير إذا حظي بمنصب أرفع؟
***
لا أحد في السودان يهتم لأمر المعتمدين خارج نطاق محلياتهم إلا بالنسبة للدكتور البرير الذي ارتبط حضوره في وسائل الإعلام بحملات المداهمة (الكشات) التي تقوم بها إدارته على باعة الطعام والشراب، الذين ليست لديهم محلات أو ربما تراخيص قانونية. حسناً الباعة الجائلون، وبائعات الكسرة، وبائعو بطاقات شحن الهاتف النقال، وباعة الصحف، وبائعات الشاي والطعام مواطنو شرفاء يكسبون قليلاً من المال في الغالب، ويكدحون تحت شمس الخرطوم الحارقة ليوفروا لأنفسهم رزقاً حلالاً في زمن عز فيه الرزق، وفي وطن ضاق باهله بسبب مطاردات الحكام ومعاونيهم من المسئولين المحليين في الغالب. مَن مِن حاشية المعتمد ومستشاريه من قرأ (بائعة الكسرة) للراحل المجذوب ومن منهم قرأ محمد محي الدين وهو يحتفي منذ ثمانينات القرن الماضي وإلى الأبد بالسودانيين الفقراء ممن لن تتيسر لهم أبداً متعة الجلوس في (أوزون) ووضع الخطط أو إقامة عشاءات العمل في (أمواج) ووضع التدابير.
***
السودان أحد أفقر بلدان العالم وهو يحتل مكاناً متدنياً في قوائم الأمم المتحدة للتنمية البشرية. صحيح أن البترول أثر إيجابياً على الناس، وصحيح أن هناك تقدماً وتطوراً لا تخطئه العين في مستويات خدمات التعليم، والصحة، والمواصلات، والإتصالات، والتقانة، وقدرات الطبقة الوسطى، لكنه لم يصل إلى مرحلة الأسواق الخالية من الباعة الجائلين والمتسولين والفقراء الراجلين على الأقدام. لماذا يريد المعتمد اسواقاً خالية من بائعات الشاي والكسرة وقد فرض وجودهن قانون العرض والطلب وليس شيئاً آخراً. هناك بائعات شاي لأن هناك من يرغب في شراب الشاي منهن ممن ليس بوسعه الجلوس في الكافتريات الأنيقة! كتب محم محي الدين:
...عُمَّالُ المجاري/ بائعاتُ الكسرةِ / الشَّمَّاسةُ / النِّسوَةُ /أربابُ المعاشاتِ / اشتروا ظِلاً جديداً لانتظارِ السَّفرِ/ البَصَّاتُ .../ ملَّت جسد الأسفلت/ ألْقت .../راكبيها وتخلَّتْ ../ عن مواعيدَ لعُشَّاقٍ /يعيشونَ الجوى فيها /كراسي الخشب المكسورةِ الأيدي /زماناً في مقاهي السوقِ / تشتاقُ لِروَّادٍ يُضيئونَ الزوايا /و الدراويشُ إستفادوا/ من نشيجِ الرَّعشةِ الأُولى/ على إيقاعِ بوب مارلي إستفادوا/ لحظةً أُخرى /من الظِّل الذي /جاورَ جدران المراحيضِ العموميّةِ / و النِّسوةُ يدْخُلنَ تباعاً /و الضريحُ إنفتحتْ /منه الشبابيكُ /يُلًمْلِمنَ الزُّواراتِ / و أردافُ التّجار المرحليينَ /على أبواب المديريةِ تهتَزُّ...
هذه القائمة بالذات هي من يعانون الأمرين في مواجهة المعتمدين وجندهم إذ يطئونهم دون حساب. أبلغني أحد القراء مرة أن معتمداً كان يقوم بمهمة (كشة) أمر رجال الشرطة المرافقين قائلاً: بالله زح (العواليق) ديل كلهم من هنا. (العواليق) كانوا بعض أفراد الشعب السيء الحظ من باعة ومشترين ومثقفين وسابلة وعابري سبيل وغيرهم ممن شاء الله ابتلاءهم بلقاء اليد المعتمد.
***
يهتم الإعلام بأنشطة الدكتور البرير التي يضر فيها بالفقراء لكنه(أي البرير) لا يبالي. أمامي الآن عدة مقالات في عدة صحف مختلفة التوجهات تدعوه كلها للترفق واتقاء دعاء الغلابة لكنه لا يحفل بأي منها. لم أكن أدرك سبب عدم خوفه من دعوات الغلابة حتى كشف مستشاره السر لنا جميعاً إذ قال " إن محلية الخرطوم هي عاصمة العواصم أكرمها الله بصحابي من زمن الصحابة" وقال " تبرع رجال الأعمال بسبعة مليارات عشان تعود نمرة (2) لأيام زمان لعلم سيادتكم كل الإنجازات التي قامت بها تبرع بها أصحابه ومستشاروه لم يأخذ من مال الدولة أي مليم . ألم أقل لك دا صحابي ! إنها كلمة صادقة تقال في حقه أنه مهموم بشئون المواطن تجده في السابعة صباحاً بمكتبه ويمر على الأسواق حتى الساعة (2) صباحاً مركب مكنة (7) معتمدين . أنه مهموم بشئون المحلية أنه زاهد ومتقشف ومتصوف رغم النعمة ظل عصياً على مغريات المناصب وعايباً على كافة مظاهر الحياة وزيادة للتعفف عن الحياة ومتاعها . أنه زاهد في هذه الفانية أنه يعمل بدون أجر وكذلك مستشاريه لم يكلفوا الدولة أي مليم (كلو لله وللوطن)"
وقّع على تلك العبارات السوقية المبتذلة السيد المستشار فضل المولى نعمة الله وجافى الحقيقة حين قال " عرف عنه عدم حبه للأضواء والإعلام إنه العملاق الباسق فمثله ثروة يتفاخر بها الآخرون فهنيئاً لعمر والنائب بهذا الصحابي".
***
ما الفرق بين عبد الملك البرير (في إزار الصحابي المزعوم هذا) وبين صاحب الفخامة الرئيس تيودورو أوبيانغ نغوما مبساغو، رئيس جمهورية غينيا الإستوائية التي أعلن احد مستشاريه للشعب ذات ظهيرة عبر الإذاعة الرسمية أن فخامته " يستطيع أن يقتل أي شخص دون أن يخضع للحساب و دون أن يتعرض لدخول جهنم لأنه هو نفسه ( إله )، ولأنه علي إتصال مباشر بالله سبحانه و تعالي".
***
من هم هؤلاء المتبرعون بمبلغ السبعة مليارات (دون تمييز حتى لا يدري احد أهي بالجنيه السوداني أم بالليرة الإيطالية)؟ ولماذا يتبرعون لمحلية الخرطوم؟ أليس في الأمر هنا رائحة تسبب الزكام؟
***
لماذا يهنيء المستشار عمراً (يقصد الرئيس المشير عمر البشير) ونائبه (الأستاذ علي عثمان محمد طه) بهذا المعتمد؟ المعتمد لا يعمل لدى أي منهما ولولا برنامج زيارات الراعي والرعية، لما حق له التواصل مع أي منهما -بصورة رسمية - مطلقاً. المعتمد يعمل لدى والي ولاية الخرطوم هناك حيث يتم تعيينه، وحيث يؤدي القسم العظيم، وحيث يخطر عبر مكالمة هاتفية عاجلة ومزعجة تأمره بالحضور لأخذ متعلقاته من المكتب وتسليم السيارة والعهدة التي بحوزته!
***
هل حقيقة أن السيد المعتمد عبدالملك البرير يعمل دون أجر؟ لماذا يكلف نفسه كل هذا الجهد؟ أداء العمل مجاناً مجلبة للطعن في الذمة إذ يصعب تفهم أن يعمل رجل بطاقة سبعة معتمدين من الساعة صباحاً وحتى الثانية من صباح اليوم التالي دون أجر. الشعب السوداني فقير لكنه قادر على دفع أجر المعتمد حتى يصبح قادراً على محاسبته. الشعب السوداني بحاجة إلى أموال كثيرة من أجل التنمية والتطور والتقدم والعمران، لكنه ليس لدرجة الحاجة إلى راتب السيد المعتمد. على ولاية الخرطوم أن توضح لجماهير المحلية الحقيقة فإذا كان المعتمد يعمل دون أجر فليؤتى أجره، وإن كان يعمل بأجر يتقاضاه عن كل شهر فقد كذب المستشار، فما حاجة الوالي إلى معتمدين يعينون مستشاريهم من الكذبة؟
ثم كتب المستشار حديثاً يصلح لتشكيل لجنة تحقيق تحاكم الشخص المعني، أو تحاسب المستشار لئلا تكون ذمم الناس عرضة للسباب في صحفنا دون مسوغات ودون أسانيد. شهد كاتب هذه المقالة حديثاً وجه فيه أحد الإعلاميين إتهاماً للوزير عوض أحمد الجاز اتهمه فيه بالفساد واستغلال النفوذ وبناء الإستثمارات العقارية، فرد عليه الجاز فوراً بما شابه " أنا مستعد ألف معاك الخرطوم دي وتوريني فيها عماراتي وممتلكاتي ولو ما وريتني ما حأخليك وحأوديك المحكمة" وبالطبع تراجع الزميل الإعلامي. حديث المستشار فضل المولى نعمة الله الذي نشر في الزميلة (الرأي العام 31 اكتوبر 2010) جاء كالآتي: "معتمد محلية سابق احتفل مع أصدقائه والمقربين منه بوصوله لمبلغ المليار الرابع. الحفل كان بهيجاً مع ذكريات أيام المعتمدية. فشل الحضور في إثبات إنجاز واحد لسيادته أيام المعتمدية فقط الإنجاز الوحيد كان شارع أسفلت وحيد يمر أمام منزله. كان أحسن معتمد لأنه يقوم بصرف المرتبات ويقسم الظروف .(ديل المعتمدين ولا بلاش)". هذه عبارات واضحة وشديدة الدقة فإن سكت عليها المعتمد المعني فهو لا محالة فاسد يتخفى، وإن سكتت عليها الحكومة فهي لا محالة حكومة فاسدة ترعى الفساد، وتقتات منه، وتحمي مرتكبيه، وتسكت عن الإتهامات الموجهة علناً نحو منسوبيها.
***
إن كاتب هذه المقالة يملك الجرأة للتجديف في الذات المعتمدية! ويعلن من هنا أن الدكتور عبدالملك البرير ليس صحابياً، ولا زاهداً، ولا متقشفاً، ولا يعمل بطاقة سبعة معتمدين، وإنما هو معتمد قد خلا منه المعتمدون، فقط لا غير!
***
سيتحتم على الحكومة المركزية عقب ترتيبات ما بعد الإستفتاء المقبلة أن تعيد النظر في واحد من أكثر القوانين تاثيراً على حياة المواطنين وهو قانون الحكم اللامركزي الذي تم بموجبه منح الولايات كإقطاعيات للولاة يتصرفون فيها وكأنهم ورثوها عن أسلافهم دون خوف من محاسبة أو مساءلة.
خلال التجربة الماضية (أو التي ستصبح ماضية عما قريب) نقلت وسائل الإعلام عن ثلاثة ولاة على الأقل تصريحات علنية يقولون فيها أنهم لا يخشون الخرطوم وأنهم منتخبون من الشعب! وهذا الأمر وإن كان صحيح من الوجهة النظرية إلا أنه قد فشل في تحقيق تقدم يذكر في حياة المواطنين بسبب عجز آليات المحاسبة الداخلية. غالبية الولاة لا يهتمون لما تقوله الخرطوم، والخرطوم ظلت منهكة طوال الأعوام الخمس الماضية من جراء معركة سياسية دامية مع حلفائها وخصومها على حد سواء.
إن الغاء قانون الحكم اللامركزي الحالي أصبح ضرورة وطنية هامة، فقد أثبتت وسائل المحاسبة المركزية والولائية عن عجزهما امام سلطات الولاة الهائلة. الجهاز الوحيد الذي لديه بعض القدرة على المحاسبة هو حزب المؤتمر الوطني الذي ينتمي له جميع الولاة باستثناء السيد/ مالك عقار، والي النيل الأزرق، لكن الولاة تحسبوا لهذا جيداً فشكلوا مراكز قوى قبلية نافذة داخل الحزب ظلت توفر لهم حتى الآن السند والقوة.
على الحكومة المركزية أن تدرك أن السند القبلي الذي يتمتع به غالبية الولاة في شمال السودان سندٌ هشٌّ ومبني على وجود هؤلاء في السلطة، وأي تغيير في علاقتهم بها (أي بالسلطة) سيترتب عليه تحول السند القبلي الذي ستمتعون به حالياً إلى اشخاص آخرين.
إن إعادة نظر مخلصة في أمر الولاة وأنظمة حكمهم وأساليب إدارتهم لمصالح العباد خلال السنوات الماضية سيفرز نتائج قاسية على الكثيرين، لكن هذه ستكون جراحة ضرورية من أجل عافية الجسد كله، وإلا فإن الخطر على وحدة ما سيتبقى من شمال السودان ستكون من جانب الحكومة وليس من جانب المعارضة.
***
يعلم جميع الولاة في شمال السودان أن هناك (أخ أكبر) يراقبهم بدقة ويسجل لهم أحاديثهم الهاتفية ويأخذ صوراً من المستندات التي يوقعون عليها بأقلامهم النافذة، إلا أنهم لا يخشون هذا الأخ لأنهم يدركون أنه الآن منهك ومشغول، لكنه لن يكون مشغولاً إلى الأبد.
(السوداني 11/11/2010)