تشهد الأزمة السودانية هذه الأيام تطورات درامية، كلها تشير إلى أن استفتاء تقرير المصير لشعب الجنوب في يناير القادم، سوف يؤدي إلى انفصال دموي وحرب واسعة بين الشمال والجنوب. وتشير أيضاً إلى تعاظم دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، في مجرى السياسة السودانية بشكل أقوى وأوسع. وأبرز هذه التطورات تشمل مؤتمر قمة نيويورك حول السودان، ومفاوضات أديس أبابا بين الشريكين حول مشكلة أب ياي تحت رعاية الإدارة الأمريكية، وزيارة وفد مجلس الأمن الدولي للبلاد التي شملت جوبا والفاشر والخرطوم على التوالي.
ويتركز هذا النشاط الدولي الواسع في حل خلافات الشريكين، وإجراء استفتاء تقرير المصير في موعده وبطريقة سلمية وسلسة. فمؤتمر نيويورك عكس توجهاً دولياً قوياً لإجراء الاستفتاء في موعده، ولقبول دولة الجنوب القادمة، وفي اللقاءات الجانبية، بذلت الإدارة الأمريكية جهوداً كبيرة لدفع الشريكين للاتفاق على قضايا ما بعد الاستفتاء دون جدوى. لذلك انتقلت المفاوضات إلى أديس أبابا، وتركزت حول مشكلة أب ياي. وكان الأمل أن تتوصل إلى اتفاق وسط طرحه المبعوث الأمريكي، ولكن واقع الحال عكس تبايناً وتباعداً في المواقف لا يمكن تجسيره، فالمسيرية ترفض قرار محكمة لاهاي وتتمسك بحدود 1956م وحقها في المشاركة في استفتاء المنطقة. وكذلك المؤتمر الوطني المسيطر على الحكومة المركزية. والدينكا نقوك، ومعها الحركة الشعبية، ومعظم القوى الجنوبية، تتمسك بالقرار الدولي وقانون الاستفتاء الذي منحها سيطرة كاملة على المنطقة. وبذلك وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود. ويبدو أن مشكلة أب ياي سوف تتحول إلى (كعب أخيل) استفتاء تقرير المصير، ودفع البلاد إلى حرب أهلية جديدة. فالحركة والمجتمع الدولي يضغطان لإجراء استفتاء المنطقة مع استفتاء تقرير المصير، ونائب الرئيس، علي عثمان محمد طه، يشير في مؤتمره الصحفي الأخير إلى أن الاستفتاء لن يقوم دون اتفاق الأطراف المعنية حول مشكلة أب ياي.
وشهدت الأيام الأخيرة اتهامات متبادلة متصاعدة، بين الحركة والمؤتمر الوطني، حول حشود عسكرية في حدود الشمال والجنوب, وشهدت تصعيداً في التصريحات العدائية. وفي هذه الأجواء المتوترة، جاءت زيارة مجلس الأمن الدولي للبلاد. والواضح أن الزيارة جاءت لتأكيد اهتمام المجلس باستفتاء تقرير المصير، ومشكلة أب ياي، وأزمة دارفور استناداً إلى قرارات قمة نيويورك والقرارات الدولية المعروفة.
والمهم هنا أن هذا التحرك الدولي الواسع والنشط، يشير إلى تزايد الاهتمام الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، بقضية استفتاء تقرير المصير ويركز على إجرائه في موعده وقبول نتائجه. وهناك إشارات واضحة باستعداد القوى الدولية والإقليمية لقبول (دولة الجنوب) القادمة ومساعدتها. ويرى السيد الصادق المهدي أن مجلس الأمن الدولي يركز على شكليات إجراء الاستفتاء في موعده ولا يهتم بقضاياه الموضوعية الأساسية (صحف 9/10) وهذا صحيح. ولكننا لا يمكن أن نتوقع منهم أكثر من ذلك في ظروف تصاعد خلافات الشريكين، وانعدام الثقة بينهما، وفي غياب الإرادة السياسية السودانية، وضعف حركة قوى المعارضة. ونتيجة لذلك، أصبح المجتمع الدولي والإقليمي في عمومه يركز فقط على أن لا يؤدي الاستفتاء (الانفصال) القادم إلى تهديد استقرار وأمن المنطقة، من خلال جهود متواصلة لدفع الأطراف المعنية للوصول إلى اتفاق حول قضايا ما بعد الانفصال، التي حددها الشريكان في عشر قضايا. ولكن واقع الحال يشير إلى استحالة ذلك في ظل أجواء التصعيد والتصعيد المضاد الجارية الآن، واقتراب موعد الاستفتاء، وعدم استعداد الأطراف المعنية لتقديم التنازلات المطلوبة من أجل إجراء استفتاء حر ونزيه وبطريقة سلمية، وبالتالي قبول نتائجه. فالحركة الشعبية تركز فقط على إجراء الاستفتاء في موعده، وتنظر إلى حق تقرير المصير كـ(حق مقدس وإنجيل) لا يمكن مراجعته أو تعديله. لذلك لا تبدي أي اهتمام بمطلوبات الاستفتاء وقضايا ما بعد الانفصال. ونتيجة لذلك ترفض أي حديث حول تأجيل الاستفتاء، وتنظر إليه كمحاولة شمالية لعدم الوفاء بالعهود والمواثيق. والمؤتمر الوطني يشدّد على (نزاهة وحرية الاستفتاء)، ويتهم الحركة بالإعداد لتزويره من الآن. ويثير غباراً كثيفاً حول عدم قدرة الجنوبيين على إدارة دولتهم القادمة، وحول (مخاطر الانفصال ومزايا الوحدة)، وتكشف تصريحات قياداته وسياساته عن تناقضات وخلافات في أوساطه حول خطابه السياسي تجاه قضايا الوحدة والانفصال، مع غلبة واضحة لتيار التصعيد وتوتير العلاقات مع الحركة الشعبية بشكل خاص، والجنوب بشكل عام. ويبدو أن هذا التيار يشعر بضعف موقفه وعدم قدرته على فرص خيار الوحدة في الاستفتاء القادم. لذلك ظل يركز على تكتيكات التصعيد السياسي والعسكري، وعدم الاستعداد لتقديم أي تنازلات مطلوبة لتهيئة الأجواء لاستفتاء حر ونزيه وسلمي، وذلك تهرباً من تحمل مسؤولية تقسيم السودان، وفي الوقت نفسه، يرفض فتح الباب لمشاركة قوى المعارضة للمساهمة في الخروج من المأزق الراهن، ولكنه يلهث وراء المبادرات الخارجية واجتماعاتها في نيويورك وأديس أبابا وغيرهما. وهو موقف غريب يعكس أن النخبة المسيطرة لا تهتم كثيراً بالمخاطر المحدقة بالبلاد، وإنما تفكر فقط في البقاء في كراسي السلطة، ولو كان ذلك على حساب تمزيق وحدة الوطن وسيادته. وعلى أي حال، الواضح أن مجرى التصعيد والتصعيد المضاد الذي ظل ينتهجه الشريكان طوال السنوات الخمس الماضية، خاصة خلال العامين السابقين، سيقود حتماً إلى انفصال دموي وحرب واسعة بين الشمال والجنوب. لذلك لا يمكن ترك مصير البلاد ليقرر فيه الشريكان وحدهما، ولتفادي هذا السيناريو الكارثة، فلا بديل لطريق الحوار الوطني الواسع بمشاركة كافة القوى السياسية والاجتماعية في الجنوب والشمال على السواء. ويتطلب ذلك، في تقدير كاتب هذه المقالة، الاتفاق على تأجيل استفتاء تقرير المصير واستفتاء منطقة أب ياي، وتمديد الفترة الانتقالية الجارية لمدة عامين. ويتطلب ثانياً، فتح اتفاقية السلام الشامل للمناقشة والمراجعة بمشاركة كافة القوى السياسية والاجتماعية بهدف تجاوز اختلالاتها وعيوبها ومعالجة كافة مطلوبات الاستفتاء (الإجراءات التنظيمية، حدود الشمال والجنوب، مشكلة أب ياي، وأية مشاكل أخرى)، والاتفاق على قضايا ما بعد الاستفتاء في حالة الوحدة (النظام السياسي، مسألة الشريعة الإسلامية، إعادة هيكلة الدولة، وضعية الجنوب والجيش الشعبي وتعزيز وحدة الكيان السوداني ودوره في محيطه الإقليمي العربي والأفريقي)، وفي حالة الانفصال (قضايا البترول، الجنسية، علاقات الدولتين، الديون الخارجية، أصول الدولة، وضعية الشمال وغيرها)، وذلك إضافة إلى معالجة أزمة دارفور والأزمة المالية والاقتصادية الجارية (...)
ولكي يتم كل ذلك، يجب الاتفاق على حكومة اتحاد وطني موسعة لإدارة البلاد خلال الفترة القادمة (..)، وهذا الاقتراح سيجد، دون شك، مقاومة قوية من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والقوى السياسية الجنوبية الأخرى بمبررات واهية، أهمها ضرورة الالتزام باتفاقية السلام الشامل. لكننا نقول إن شريكي الاتفاقية لم يلتزما طوال الفترة الماضية بنصوص وروح الاتفاقية، وكل منهما ظل يفسرها حسب مصالحه، وإنهما اضطرا لتعديل موعد تنفيذ العديد من بنودها وبعض البنود لم يفكرا في تنفيذها، مثل المصالحة الوطنية، وإعادة هيكلة الدولة، وتوسيع المشاركة في أجهزة الدولة، وقضايا التحول الديمقراطي.