لا تعذب القطة يا ابني .."
هكذا تقول معظم أمهات السودان لأطفالهن عندما يلاعبون القطط الصغيرة بنوع من شقاوة الأطفال مثل حمل القطة من ذيلها أو جذبها من فروتها .. !
شعب تمنعه قيمه عن مداعبة قطة بقليل من "خشونة" الطفولة البريئة، هو بالتأكيد شعب لا يعرف ما هو تعذيب البشر! على أن طهارة المجتمعات السودانية من دنس تعذيب البشر لا تعني أنه شعب ضعيف. فهناك فرق بين الرحمة وبين القسوة وانتزاع الرحمة. وفي يقيني أن الرحمة من خصال الأقوياء، والقسوة هي استخدام القوة في غير موضعها فهي من خصال ضعاف النفوس. فالإنسان الرحيم يكون عادة من أصلب البشر وأقواهم في مواقف الحق، فالرسل والأنبياء وخاتمهم الرسول الكريم، الرحمة المهداة، كانوا أكثر الناس رحمة مع البشر سلوكا ومع الحيوان وفي التبليغ بالحسنى بلا فظاظة قلب ينفض عن حولها الناس، وهم أيضا أصلب البشر عودا وموقفا مهما تأذوا.
والشعوب السودانية في مجملها سليلة تراث عريق مزاجه الرحمة والصلابة وسجلوا على صحائف التاريخ ملاحم مشهودة مثل المعركة التي أرّخ لها المؤرخ اليوناني هليودور والتي دارت في القرن السادس قبل الميلاد بين السودانيين بقيادة الملك هيدسبأ أو هود سابا ضد جيوش الفرس التي كانت تحتل مصر بقيادة اورونديت نائب إمبراطور الفرس، والتي انتهت إلى هزيمة قاسية للفرس ولحلفائهم من الليبيين والمصريين، إلى مجالدات السودانيين العسكرية في الشام وفلسطين وإجبارهم أكبر قوة عسكرية آنذاك على الانكفاء. ونقرأ من إرشادات الملك بيي (بعانخي) في القرن الثامن قبل الميلاد إلى جنوده: "وإذا قال لكم (يقصد جيش الخصم) انتظروا المشاة وسلاح المركبات القادمة من مناطق أخري، فتريثوا لحين وصول جيشه ولا تبدأوا المعركة إلا عندما يطلب ذلك، وإذا كان حلفاؤه في مدينة أخري فأصدروا الأوامر بالانتظار حتى يصلوا .. قولوا يا هذا أسرج أفضل ما في إسطبلك من جياد وهيئ نفسك للمعركة" ولأن التاريخ ليست به فجوات، فقد ظلت هذه القيم تتعتق داخل المجتمعات السودانية وتتفاعل مع غيرها من قيم الشعوب. وإلى التاريخ الحديث نقرأ صحائف الثورات ضد الاستعمار التركي البريطاني فالبريطاني إلى معركة كرري التي أبانت عزائم الرجال وعرّت خواء الحكام إلى ميس ثورة أكتوبر الشعبية 1964 إلى ثورة أبريل التي أطاحت حكم مايو العسكري.
واليوم تتجلى شكيمة المجتمعات السودانية في أبلغ صورها في فشل الجماعة الحاكمة في أن "تمكّن" لنفسها وفي عجزها الصراح أن تصبح واقعا مقضيا. إذن لا غضاضة أن يجتمع الرفق والرحمة مع الصلابة في نفس واحدة ليشكلان معا الطبائع العامة للشخصية السودانية، إذ ليس من فراغ مقولة أهل الخليج: السوداني لطيف مثل الكولا، لكن لا ترجّه! والجمع بين الرفق واللطف والصلابة أكثر وضوحا عند فئة الشعراء والمطربين والكتاب السودانيين، وهي فئة من المفترض جدلا أن تتسم بالرقة والفن، لكن بعضهم وقف ويقف بصلابة مع قضايا الشعب مهما كلفه ذلك من مهيرة وبنونه بت المك إلى الشاعر خليل فرح حادي حركة الاستقلال إلى صالح عبد القادر صاحب القصيدة المشهورة "أبا الطيّب اسمِعْني ..." التي ألقاها في حفل أقامه الاستعمار، إلى شعراء وكتّاب وأدباء الحركة الوطنية إلى طائفة من الشعراء والأقلام السودانية المعاصرة وإلى المطربين مثل محمد الأمين ومحمد وردي اللذان حفظا عن ظهر قلب جدران زنازين الحكومات الدكتاتورية فما ارتخى لهم وتر. سخيم العقل وحده من يظن أن اللطف والصبر السوداني دالة ضعف، والأيام حبلى وليكذبني التاريخ في مقبل أيامه.
منابت العنف
اتخذنا من مشهد الأم السودانية التي تسمّي ملاعبة طفلها للقطة تعذيبا دالّه على عدم تفشي العنف السياسي والاجتماعي داخل المجتمعات السودانية. لكن هذه الصورة تقابلها صور مغايرة لدى شعوب أخرى أوشك العنف والقسوة أن تصبحا من سماتها الغالبة. ولنأخذ على سبيل المثال الشعوب في المنطقتين العربية والأفريقية بحكم القرب. فالتاريخ يحدثنا عن بعض طرائق عمليات الإعدام التي كانت سائدة في المناطق الممتدة من الشام إلى العراق وإيران حتى تخوم آسيا مثل الإعدام بالتوسيط بالسيف، أي قطع الشخص بالسيف من وسطه إلى نصفين وهو حي، أو التجليس على الخازوق، والخازوق لمن لا يعرفه هو عبارة عن ساق أو فرع شجرة مبري الرأس مثل قلم الرصاص يتم نصبه وتثبيته عموديا ثم إجلاس المحكوم عليه على الجزء الحاد فيموت الشخص موتا بطيئا ومؤلما. أو القتل الجماعي بالحرق " قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ" وفي التاريخ القريب كان سحل الخصوم مثل سحل نوري السعيد في العراق، وفي أيامنا القريبة كنتم تتابعون عمليات الإبادات الجماعية التي طالت مئات آلاف المدنيين في الجزائر على يد الجماعات الإسلاموية، ومشاهد الفجيعة عندما تقتحم الجماعات الإسلاموية الجزائرية المدارس وتبيد الأطفال داخل الفصول ورياض الأطفال بالأسلحة الرشاشة. واليوم في العراق لا يمضي شهر دون مشاهد تفجيرات السيارات المفخخة في الأسواق العامة حيث يزدرد الموت بصعوبة اللقم البشرية الكبيرة فلا تمر اللقمة من مريء الموت إلا بجرعات كبيرة من الدم البشري القراح. بل سمعنا لأول مرة بتفخيخ الأطفال والدواب، وفي إيران كان للشاه مقابر كاملة، وبعد الشاه لم تتوقف مطاحن الدقيق البشري، وإلى أفغانستان يكفي أن تقول "طالبان" حتى يفرك الموت كفّيه وفي لبنان كانت "مدرسة" التفخيخ" وإبادة أسر كاملة بأطفالها على الهوية الدينية. وفي أفريقيا مذابح الهوتو والتوتسي في رواندا حيث تعب الموت شبعا وشاب الوالدان وأذهلت كل مرضعة بساطور ووضعت كل ذات حمل حملها بنصل حاد وترى الناس سكارى برائحة الموت .. همجية من الموت المجاني للمدنيين لا تدانيها إلا فظائع الجماعة الاسلاموية الحاكمة اليوم للسودان "جهادا" في الجنوب وقتلا مجانيا لآلاف الأبرياء في دارفور، إلى بيوت التعذيب الرسمية. عنف هذه الجماعة هو مقصدنا من السياق .. من أين جاء وإلى أين يتجه ..
بالتأكيد لسنا في وضع مفاضلة بين مجتمعات وأخرى، ولا نزعم أن المجتمعات السودانية مثالية طوباوية، لكنها المقارنة بين سمات تتفاوت بين المجتمعات وداخل المجتمع الواحد حسب حركة التاريخ والظرف السياسي والاجتماعي. فقد نهضت مجتمعات السودان وحضاراته بفضل التنوع على التعايش السلمي وقبول الآخر والمشاركة. بالمقابل فقد تفاقم العنف قبل مئات السنين في بعض المجتمعات العربية والآسيوية بسبب سلطة الفرد (الأباطرة) واستغلال الأديان والأعراق وبالتالي ساد فيها عدم الاعتراف بآدمية المجتمعات الأخرى وكل من يعارض سلطة الفرد، فيتم قمعهم تعذيبا وإبادتهم زرافات. ثم تفاقمت الحالة في المناطق العربية والآسيوية التي ذكرنا بعد انتشار الحركات الباطنية الإسلاموية التي تبنّت العنف وطورته واتخذته، إلى اليوم، أقصر الطرق لفرض هيمنتها مستعيضة بالعنف عن قلة عددها بغية إرهاب المجتمعات وإخضاعها. فقد مضت الدويلات الاسلاموية التي نشأت في الشام وبلاد ما بين النهرين وفارس على نفس منهج القمع والعنف الذي طال آلاف الضحايا وأئمة عظام، وكربلاء مركوزة في تلك النواحي.
وبسبب تأثير موروثات العنف السياسي الاجتماعي واستمرار حكم الفرد، نجد أن الأحزاب السياسية الحديثة في المناطق التي ذكرنا قد قامت على نفس موروث عنف الحركات الباطنية واتخذت من العنف وسيلة للسيطرة والحكم بما يجعل من هذه الأحزاب مجرد حركات باطنية متسترة. مثلا إذا رفعنا غلالة الشعارات الاشتراكية عن حزب البعث العراقي في عهد صدام حسين سنجد أن الحزب قد نشأ على موروث عنف الحركات الباطنية كغيره من أحزاب المنظومة التي نهضت في هذه الرقعة من خارطة الاجتماعية العربية الآسيوية. فهي أحزاب ظاهرها اشتراكي ومنهجها وجوهرها موروث عنف باطني، إذ لا يقبل العقل جدلا أن تدعو للاشتراكية وتقتل الشعب! لذلك تختلف هذه الأحزاب عن منظومة الأحزاب الشيوعية الغربية في زمن المعسكر الشيوعي بسبب اختلاف المورثات الاجتماعية. فبرغم جنوح الأحزاب الشيوعية "الأصلية" للعنف، إلا أن عنف الأحزاب الشيوعية الغربية كان هدفه تثبيت سلطة البروليتاريا، أي طبقات العمال والمزارعين، بينما عنف أحزاب المنطقة هدفه تثبيت سلطة الفرد الدكتاتور. وكذا الحال في إيران، فقد ذهب الشاه وبقي ميراث العنف والتعذيب وتقتيل الخصوم على مشانق الملالي برغم سماحة الإسلام، حيث تم توظيف الإسلام نفسه كغطاء لإكساب العنف المشروعية الربانية!
ثم ضربت رياح العنف الاجتماعي السياسي أفريقيا في نموذج رواندا لعدة أسباب منها محاولة بناء حكومة أو قطر على هياكل قبلية هشّة، إضافة إلى استنهاض غريزة البقاء بإفناء الآخر ورسم حدود سياسية لا تعتد بالواقع الاجتماعي القبلي وتداخلاته الاجتماعية والمعيشية، ثم التمايز الذي زرعه الاستعمار خاصة الألماني بالإيحاء لكل قبيلة بين القبائل الثلاثة الرئيسية أنها تتحلى بصفات وراثية وعقلية أفضل من الأخريات، وأخيرا تلك الأصابع الخفية التي أدارت روليت الموت الاثني بذكاء. (وأخشى أن يحدث في "جمهورية جنوب السودان" ما حدث في رواندا بسبب محاولة بناء الدولة على هيكل وهيمنة القبيلة، فالحركة الشعبية نفسها قائمة على هيمنة القبيلة ويصعب عليها الخروج عن هذه الفكرة).
العنف بالتأكيد لا يوجد في الجينات الوراثية لدى هذه الشعوب العربية والآسيوية والأفريقية التي ذكرنا بقدرما هو نتاج لظروف وسياسية كالتي أشرت إليها، وهي ظروف بالغة التعقيد عصية عن الحصر الكامل ومفهومة. لكن ما يجعل العنف سمة هو أن هذه الشعوب قد رضخت للعنف السياسي وتعايشت معه فدخل في تفاصيل حياتها اليومية العادية وأصبح من مكونات المجتمع. مثلا في عراق اليوم يلتهم الموت أربعين بريئا في سوق من الأسواق، وبعد بضعة أيام يعمر نفس السوق من جديد! فالتعايش مع العنف أو رفضه يحددان مدى التصاق سمة العنف بمجتمع من المجتمعات. لذلك، وبسبب ديمومة القتل الإجباري المفروض، ركنت شعوب هذه المناطق إلى توظيف الإيمان بالقضاء والقدر كآلية أو "ميكانيزم" دفاع نفسي، وهو إيمان يشبه الحلم الذي أتى بغير اقتدار حتى كاد أن يخرج الإيمان بالقضاء والقدر عن مقاصده. ولذات الأسباب فقد نشأت " القدرية" في هذه المجتمعات حتى صارت مذهبا.
طبعا المجتمعات السودانية ليست وحيدة عصرها لجهة عدم تمدد العنف في السلوك الاجتماعي. ففي الهند قاد المهاتما غاندي "ثورة اللاعنف" التي أحرزت الاستقلال فنهضت في الهند أكبر ديموقراطية في العالم على ميراث اجتماعي عريق برغم حوادث اغتيالات الزعماء بما فيهم غاندي وأنديرا، وهي بالمناسبة ليست ابنة الزعيم غاندي، واغتيال أولادها. وبالمقارنة نجد باكستان مرتعا للعنف والدكتاتوريات والفساد وحكم العسكر لكونها أنشئت أنشاء قسريا على العرق والدين وعلى قرار الفرد منذ أن "قرر" محمد علي جناح الانفصال عن الهند. وفي نموذج الهند وباكستان يتضح التلازم بين الديموقراطية وبين الاستقرار السياسي في الهند، وأيضا التلازم بين الدكتاتورية وحكم الفرد وبين العنف الاجتماعي والفساد كما في باكستان .. وحال باكستان لا يختلف عن حال السودان اليوم، وهكذا الحال في كل مكان في العالم. وفي السياق هناك أيضا العديد من أقطار المنطقة التي تكاد تخلو عن سمات واضحة للعنف الاجتماعي السياسي مثل مصر والمغرب والسنغال وموريتانيا وأقطار أخرى في العالم. وبرغم تعرض بعض هذه البلدان إلى اضطرابات وحالات عنف بسبب الانقلابات العسكرية والفساد السياسي، إلا أن العنف السياسي وجرائم التعذيب ظلت مرفوضة من العقل المجتمعي العام في هذه الأقطار. فالعنف يتحول إلى ظاهرة اجتماعية متى قبله الرأي العام الغالب وتعايش في كنفه.