كسودانيين ماذا تبقي لنا ....
لنجعل من الانفصال مهرا للخلاص من طغمة الإنقاذ الفاشية
د. عزا لدين سليمان - فيلادلفيا/الولايات المتحدة الأمريكية
izzeldin_bakhit@yahoo.com
التاسع من يناير على الأبواب, انه الموعد مع الاستفتاء و كل قرائن الأحوال تشير إلى أن انفصال الجنوب أصبح حتميا. و هذه هي بضاعة الجبهة الإسلامية/الإنقاذ ردت إليها. ما نقصده هنا باختصار هو أن انفصال الجنوب و تمزيق الوطن ليس فقط مردودا للممارسة السياسية و إنما هي نتاج للمنهج الفكري المتكامل لجماعة الإخوان المسلمين, انه نتاج لفكرة الإسلام الحركي الأحادية منذ المودودى و حسن البنا و سيد قطب و من بعدهم حسن الترابي و من ثم تطبيقاتها في السودان. فقد قاسى السودانيون تماما مثلهم ومثل فئران التجارب من تطبيق فكرة الإسلام السياسي هذه على واقعهم العملي. فالكل على قناعة بأنه حتى أخلاق السودانيين قد تغيرت و معظمنا يعرف بأنها أخلاق الأزمة¬ – و ليست أزمة أخلاق– فالأزمة هي أزمة نظام يتبنى ساحات الفداء و الجهاد و الموت و المحرقة كايدولوجيا في التسعينيات ثم سقوط مشروعه الحضاري و ادعاء التعددية و السودان الواحد الموحد ثم لبس العاج و الريش من اجل المحافظة على السلطة و البترول في 2010
تنظر جموع السودانيين للمشهد و تترقب الأمر بمشاعر ممزوجة بالحزن، الألم و الحسرة و في نفس الوقت بانشداهه عظيمة، و إلى حد كبير بفقدان للاتجاه و أيد مشلولة. انه الإحساس بقلة الحيلة تجاه حدث عظيم، مثل رؤيتهم لوطنهم وهو يتمزق أمام ناظريهم بأيدي عصابة صغيرة الحجم، سامتهم العذاب لأكثر من عقدين من الزمان. فأمر انفصال الجنوب أصبح واقعا حتميا. إذا ماذا في وسعنا و ماذا تبقى لنفعله؟
باعتقادي أن مسألة تحميل مسؤولية الانفصال و بوادر تمزيق السودان للجبهة الإسلامية ،من ترابيها إلى بشيرها و كل من والاها، لهو بالأمر الأساسي و الخطوة الأولى في التصدي لهذه الطغمة و للحفاظ على ما تبقى من الوطن .
فالكل يعلم أن المهدد الأساسي لوحدة السودان طيلة السنوات الفائتة كما و في المستقبل يتمثل في وجود الإنقاذ في السلطة و بدونها لما أصبح انفصال الجنوب حقيقة واقعة. و بالمثل فأن الطرف الآخر من المعادلة ينبئنا بأن استمرار الإنقاذ في الحكم سيؤدى حتما للتمزق الكامل و اختفاء الوطن تماما من خارطة العالم.
إن الإنقاذ الآن و كيما تبرر استمرار وجودها في السلطة فأنها تحاول و بكل السبل التنصل من مسؤوليتها التاريخية عن انفصال الجنوب, فتارة تصفه بأنه مؤامرة إسرائيلية و تارة أمريكية، ومرة تلقى باللائمة على المجتمع الدولي ، وأحيانا أخرى تحاول تصوير الأمر وكأن القوى السياسية الأخرى تتحمل معها وزر الانفصال.
إن ما حاق بالوطن لهو من صنع أيديهم وحدهم منذ انقلابهم المشئوم على النظام الديمقراطي و نكرانهم لهويتهم (أذهب أنت للقصر و سأذهب أنا للأسر) و أكاذيبهم المهولة لعقد من الزمان و بناء سلطتهم حول محور الحرب الأهلية و إعطائها بعدا جهاديا دينيا. فنظامهم الفاشي بنيت هياكله و أكنست لحما، وتشكلت أعاصيره على هيكلية الحرب الأهلية بلجانه الشعبية و قوات الدفاع الشعبي و الدبابين – أضف إلى ذلك ماكينة الدعاية الضخمة و أبواق الحرب من ساحات الفداء إلى أخوات نسيبة و جمع العتاد و الأموال للجهاد، الطوارئ، نغص أمن الجيران، تغييب صوت العقل و عسكرة الحياة بأدق تفاصيلها و لخمسة عشر عاما; ثم استبعاد كل القوى السياسية من اتفاق السلام الشامل و المضي غير آبهين بمصير الوطن عبر انتخابات شكلية للاستئثار بالسلطة و حتى الاستفتاء المعروفة نتيجته سلفا. و ليس بخاف على أحد أن الإنقاذ تساوم على وحدة السودان و مصيره مقابل حذفها من قوائم الدول الراعية للإرهاب و إلغاء أمر القبض الصادر من المحكمة الجنائية الدولية على رئيسها. إن ألإنقاذ تتحمل و هي على سدة الحكم مسؤولية انفصال الجنوب تماما مثل ما يتحمل رودولف هتلر انفصال ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. إنها وصمة التاريخ وعار الأبد.
ثم ماذا بعد . . . ما يلي هو أنه لو اقتنعنا بذلك فإنما يستوجب علينا ذلك العمل الجاد و الانطلاق للإطاحة بهذا النظام و تخليص البلاد من هذه الطغمة الفاشية و يفرض ذلك على كل سوداني غيور فرض العين. و لربما نحتاج هنا أن نفهم كيف تفكر الإنقاذ لتلافى هذا الوضع المذهل و الإستثنائى في تاريخ السودان. قد يكون النظر لشاشة التلفزيون السوداني مفيدا في هذا الصدد. ففي حين تمتلئ شاشات القنوات التلفزيونية و برامج المحطات الإذاعية في كل العالم بموضوع السودان و قضايا الاستفتاء و ما بعده و زلزال الانفصال القادم , فإنك ترى في القنوات السودانية برامج عن دورة دودة القز و تشجيع الاستثمار بولاية الخرطوم , إنها محاولة لتمرير المياه من تحت الجسر. و في أحسن الأحوال فإنك ترى برامج تعكس تعددية المجتمعات السودانية و بشكل مفتعل و مثير للضجر و القرف، وكأنما الإنقاذ قد اكتشفت فجأة أن السودان متعدد الثقافات و الأديان والأعراق ولإعطاء الانطباع وكأنه ما تزال هناك الفرصة للوحدة. ولكن ... لنتأهب: إن الإنقاذ تعمل في الظلام بجدّ لأعداد سيناريوهات ما بعد الانفصال، لتثبيت أركان سلطتها وفق المتغيرات الجديدة، وسيكون ذلك على حساب كل شيء في هذا الكون, فهل نحن السودانيون على قدر هذى التحدي؟ لعمري والله نعم، و لا يتسع المجال هنا للإسهاب في ذلك و لكن أسلحتنا مجربة و التأريخ القريب يشهد بذلك. على الرغم من أن الإنقاذ تختلف نوعيا عن نظام عبود و نميرى و ستكون أكثر شراسة و دموية، لكنها ليست أكبر من قوانين التاريخ, فكلما كان الخلاص دمويا كلما كان التغيير أكثر جذرية. إن زلزال الانفصال سيوقظ هذا المارد من سباته العميق و سيتجاوز المارد المنتفض أحزابه و كافة قواه السياسية الكسيحة مثلما حدث في الانتفاضات السابقة ليطيح بالإنقاذ مهما أوغلت في دمويتها.
المراقب للمشهد الآن يدرك سريعا أن الإنقاذ ضاقت خياراتها و شحت مواردها في مواجهة زمن ما بعد الانفصال, ويبدو لنا أن هذه الخيارات لم تعد تتجاوز الاحتمالين أو الثلاثة, فالحقيقة الأساسية هي أن الإنقاذ و طوال تاريخها، ومن طبيعة تركيبتها فإنها فاقدة للقدرة على التحول الديمقراطي, وتحديدا في الفترة القادمة، فقضايا محورية مثل الاحتقان السياسي، أزمة دارفور، مسألة أبيي، الأزمة الاقتصادية، انهيار البنية الإنتاجية و من ضمنها مشروع الجزيرة، الخ. فليس للإنقاذ القدرة على التعاطي معها لحلها، لأن جعبتها خالية الوفاض من أن تقدم أي حل لقضايا الوطن. والقارئ الجيد للواقع السياسي في السودان يدرك أن واقع الحال بعد الانفصال لا يتيح للإنقاذ أن تستمر بنفس النهج أو التركيبة أو الطاقم, فالسيناريو الأول إعتدالى و هو أن تغير الإنقاذ من واجهتها و شكلها و تدفع في الفترة الأولى بوجوه جديدة تدعى العقلانية و القابلية و الاعتدال و هذا السيناريو يتطلب و بشكل قاطع إطاحة البشير وإقصاءه من أجل البقاء في السلطة و إطالة عمر النظام.
السيناريو الثاني هو أن تخلق الإنقاذ حالة استثنائية بإعمال آلية الحرب مرة أخرى في أجزاء متعددة مما تبقى من الوطن ابتداء بإطلاق يد مليشياتها الفالتة في تقتيل ما تبقى من الجنوبيين في الشمال و توسيع رقعة العداءات الاثنية حتى يتفرق دم السودان بين القبائل لتجد الإنقاذ لنفسها مخرجا من العقاب التاريخي . وسيكون اى من هذين السيناريوهين مؤمنا بسيناريو الانقلاب الأبيض. ففي حالة التعثر و الفشل يخرج علينا الصف الخامس من طابور الإنقاذ بمن لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر أن يحسبهم من بطون الإنقاذ و قواتها المسلحة بدعوى حقن الدماء و الحفاظ على الوحدة الوطنية . وهنا يجب أن لا ننسى ما ستفعله الإنقاذ الجديدة بنا بعد أن تغير جلدها للمرة العاشرة.
إن السودان اليوم على مفترق طرق: فإما أن نكون أو لا نكون. لقد آن الأوان للسودانيين أن ينفضوا عنهم غبار الانتظار وان يكوّنوا فرق المقاومة في الأحياء وأماكن العمل. إن الخلاص من الإنقاذ سيكون ذا مهر غال يساوى انفصال جنوب البلاد، ودمويا ترخص في سبيله أرواح عزيزة. ولكنه ليس مستحيلا، فدرس شاوسيسكو رومانيا ليس بالبعيد عن الأذهان. والويل للإنقاذ وسندتها من غضبه هذا الشعب.
حاول د. الطيب زين العابدين احد أساطين الإخوان تجميل وجه الحركة – والفكرة – الإسلامية بفصلها عن الإنقاذ وانه يمكنها التعايش داخل السودان الواحد. يا لبؤس الفكرة واستعلائها. انظر للمقتبس أدناه من مقالته بعنوان الحركة الإسلامية ووحدة السودان المنشورة بسودانايل 3 أغسطس 2010
"كانت بداية التفكير الجاد لدى الحركة الإسلامية في قضية الجنوب في عام 1979م عقب "المصالحة" مع نظام نميري حين صاغت بعد مناقشات مطوَّلة داخل المكتب التنفيذي «إستراتيجية الجنوب» التي تحدِّد أهداف ووسائل التعامل مع قضية جنوب السودان بصفتها عقبة متوقعة في وجه إقامة الدولة الإسلامية بالسودان. تقوم الإستراتيجية على أساس إمكانية قيام الدولة الإسلامية في السودان المُوحَّد، بالرغم من التبايُن الديني والعرقي والثقافي بين الشمال والجنوب، وذلك بهدف:-
(1) رعاية الوجود الإسلامي في الجنوب والنفاذ منه إلى وسط وشرق إفريقيا.
(2) الحفاظ على مصالح الشمال الحيوية في الجنوب.
(3) ضناً بالجنوب أن يُسلَّم لقمة سائغة للمسيحية العالمية.
(4) وأملاً في أن تقوم دولة الإسلام في العصر الحديث وهي تضم أقليَّات غير مسلمة كما قامت دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الأولى في المدينة".
و هذا شأن ذو شجون أخري..