وكان حميد آخر الرائعين العابرين بالشعر الحزين عبر محطات الحنين
سافر تربال آخر .. سافر بأشواق الغلابة
سافر مسدار آخر بوتر الربابة ..
سافر آخر سفر من أسفار المسافرين في غنانا ..
سافر آخر عشم وآخر نغم في بوادينا وقرانا
سافر آخر حرف من حروف فرحنا يتم مدن الحزانا
نعم إنه سفر من أسفار الشعر المسافرة في مدن الأحزان والوجدان رحل حميد . . صاحب اللونية الاستثنائية . . الذي أوجد لناصية الشعر الدارجي مكانته وقيمته .. وهو المتعمق والمتجذر بأشعاره والمتفرد بأصالته. هذا الشعر يشعرك بإحساس إنه خارج من بين ثنايا السحاب .. أو إنه متجذر في عمق التراب .. فإن إحساسه ممزوج بنكهة الأرض وعطر الطمي ونداوة الجروف كأن هذا الشعر عنقود علي قمة نخلة يتدلي كالبلح الرطب .. رغم ما يحمله من معاني مع الحزن والغضب .. لأنه كتب ..بروح التربالي المتعمقة في البساطة .. والطيبة العميقة في الحزن .. رافضاً لكل أوجه الظلم والفساد والسيطرة والهيمنة والاستبداد .. فإن لهذا السفر الفريد عجائبه وخصائصه .. سحره وحتي حروفه الشاربة من ضفاف جروفه .. إنها كما البستان .. أو كأنها الوجدان أو كأنها مدن الإنسان .. مسقية من وادي الأحزان .. إنه الفجر الذي خرج من بين ثنايا الحقول المزدهرة شاقاً فجاج النخيل فخرج حميد سنبله أخري من سنابل القمح المفرهد في البيادر .. فكان فجر نوري الوضاح .. فإنها نوري التي تنام علي شاطئ نهر النيل الوادعة المخضرة وهي نوري مسقط رأس الشعراء والأدباء والفنانين حميد والسر عثمان الطيب وغيرهم .. فإن تلك البلاد .. التي أنجبت الشعراء أكتب عنها بعين الذي زارها وعبر مناحيها المخضرة ذات يوم في رحلة مع رفقة مع أهل الإعلام والفن إلي سد مروي .. فرأينا المدن الندية والبلدات المطلة علي النيل .. حيث إنها شكلت لوحة جمالية خالدة ... فيها الكثير من اللمسات الساحرة فبدلت البيئة الصحراوية إلي جنان زاهية .. فرأينا نوري كفتاة شامخة القوام مجدول بنؤابات النخل .. كما رأينا (الباسا) وقنتي ومنصوركتي .. وجزيرة مساوى والقرير وكريمة والبركل وامري الجديدة ومروي وقبلها كانت ( محطات الحنين) وهي الملتقي .. وهي ملتقي ومفترق طرق إلي دنقلا ومروى وعطبرة والدبة وإن محطات ومقاهي الملتقي . هي التي كان يكتب عنها الراحل حميد يا المحطات الحنينة القصرت مشوار سفرنا ... ولعل من غرائب القدر إن حميد مات بالقرب من محطاته .. وألقي نظرة وداعه الأخيرة عليها لأنه متعمق في حبها وحنينها .. وكتب مجمل أشعاره في أسفاره وأغانيه من تلك المحطات وسوف نتناوله لاحقاً بالتفصيل .. إنه صاحب الإنتاج الغزير الشاعر الذي سكب عرقه وآهاته ومعاناته .. فألبسها جرس الجزالة ومازجها بالدم والمداد والدموع فخرجت تضئ ليالي الصحاري والنجوع والأودية .. خرجت كمصابيح السماء الثامنة فكرس لها حياته وإبداعه .. وعصارة جهده .. فعمق التفاصيل اللغوية بالدارجة المحلية المكتسبة من البيئة التي نبعت منها ذات الحروف .. وذات التعابير المدهشة ذات المفردة المحلقة في آفاق الجزالة فكان هذا الشعر إضافة حقيقية للمعاني .. وهذه النصوص المبنية بعمقها المتين وفق هذه المباني ... خلقت نقله وجدانية بمتونها وحواشيها.
هذا الشاعر الذي أدمنت قوافيه الأحزان .. وهزت قلب كل إنسان فخرج شعره بنبرة الأسي والنحيب والشجن .. لقد رسم خطوط السواد والنواح والجراح علي لوحاته الشعرية .. فرسم بالجراح الجراح فكان صداها كصوت الصدى الصداح .. إنه كتب قوافي الليل .. والدموع والصحراء .. فرثي الوطن .. وكتب عن الهجرة .. وعن الظلم .. كتب بلسان حال الغلابة والفقراء والفقارة .. كتب عن القدر والموت وتفاصيل الحياة كتب عن الخبز وعن الجسارة .. وعن البلد البسيطة والتراب كتب عن التراث الشعبي وعن الشعوب وعن العلاقة الوجدانية والحميمية والكرم .. كتب عن طبائع الشعب السوداني بإحساسه المرهف (أغني لشعبي ومن يمنعني) كتب عن حال العمال وعن رأس المال .. جمل الحياة بموروثاتها وتفاصيلها وطبقاتها .. في صراع قديم منذ الأزل صراع الكادحين والإقطاعيين .. كتب عن الحبيبة نورا .. ونوري وعن المرأة السرة بت عوض الكريم وست الدار .. وأمونة وأم الرحوم .. وكتب عن حال عبد الرحيم والحاج ود عجبنا .. وغيرهم .. كتب عن المسادير والمغاوير والطنابير .. إنهم شعراء الصحراء الذين خرجوا من جوفها وحرها وهجيرها .. كما قال نزار قباني ولقد فرخت الصحراء آلاف الشعراء .. خرج من الصحراء الشاعر أبو الطيب المتنبي الذي قال: الليل والبيداء تعرفني والسيف والقرطاس والقلم .. فإنها الصحراء التي خرج منها النابغة الذبياني وامرؤ القيس وعنترة بن شداد والزير سالم ( المهلل بن ليلي) وغيرهم .. فهي البيئة الصحراوية بقساوتها وشدتها وبؤسها .. التي خرج منها (حميد) فألهمته بجغرافيتها وصقلته بتضاريسها .. فولدت من رحم المعاناة الإبداع والموهبة الفطرية .. والتي تقاسمتها معه طبيعة المنطقة الأخري المطلة علي النيل حيث الخضرة والنخيل والمياه وحياة الريف النقية .. فكانت هي قاسمه المشترك بين أرض الجفاف والضفاف .. لذلك قد خرجت أشعاره دافئة حيناً وباردة حيناً آخر .. استطاع بقدرته العالية للتصاوير أن يستدعي ( اللهجة الدارجة) وأن يضعها في قالبها ويصيغها بكامل هيئتها وتراكيبها .. وجعل حروفها المنطوقة كحروفها ( المكتوبة) بوزنها وتوازنها واستطاع أن يكسبها لونية أخري من عامية البيئة ) ولسان حال المنطقة التي ولد فيها ويمزجها حيناً بعامية مختلفة تكاد تتقارب مع بعضها البعض .. ويصنع تلك التراكيب بتصرف مدهش فيجعل من تلك اللغة احتشاد لعمق القصيدة فيمنحها بعداً آخر حيث أنه خلق التواجد الشعري للبيئة فشكل وجدانها وإحساسها ونقل نبضها وحنينها فعمق محاورها بنقله نوعية استمد حروفها من عمق الأرض والزرع .. جعلها بساتين ذات مفردة خاصة.. ألبسها تواشيح مختلفة من ضفة النهر وعطش الصحاري ومن جرح الدياجي البهيمة .. ومن حال الناس العديمة وكتب الجراحات القديمة .. حرر القصيدة من جغرافية المكان .. إلي ساحة أخري حتي يستحسنها المتلقي الآخر .. فربطها عبر الجسر الغنائي الخالد.. فتوزعت علي كل النواحي والآفاق عبر حنجرة الرائع مصطفي سيد أحمد .. فأضاف لها مصطفي ألحانه وموسيقاه ... فانتشرت وترسخت وتعمقت في الأذهان وفي الوجدان فغناها مصطفي بذات اللهجة المنطوقة وأضاف لها ألحان بذات الكلاسيكية ذات الطابع الحزين والمؤثرات العميقة المترعة بأوتار حنينها ومفرداتها التي استطاع مصطفي أن يخرجها من ضيق الطنابير إلي آفاق ورحاب الموسيقي العالمية..دون الإخلال باللحن السائد والنطق بذات اللهجة .. فإن هذا الحضور العميق والأداء المدهش أوجد كمية من التفاصيل المشتركة .. بين اللهجة في تلك البيئة وبيئات أخري .. فكانت محطات الحنين التي يرثي حميد فيها نفسه وسأل عن ذاته بين مقاهي الملتقي .. والتي لقي فيها ( حتفه ) وأصبحت محطات وداعه فكتب تفاصيل اللقيا والوداع
شوك الشوق لي الشوف آخي
ضارب قطن النسج الحي
يا منقاش أحزاني أشرت
يا راحلين عن دغش الليل
ما لا قيتوا جناياً زي ..
تكية لنخل الفجر الجاسر ..
فوق في المتره – عدا جن ضي
أرعاة العرب الرحل
ما لا قاكن في مطراني
في كاويق الجرف الأمحل .. ما أديتو (شوي) بي حرجل
ويسأل أرطانة الليلن ليل ما لا قاكن في ونساتكن
ويسأل عن ذاته في وجوه الحاضرين .. ويسأل عن حس في إحساسهم الذي وافق حدثه
في محطات الملتقي .. جينا ليك والشوق دفرنا
يا المراسي النحتويبا
لما ينشعوت بحرنا .. يا جذرنا وقيف عمرنا
يا نشوق روحنا ودمرنا يا المحطات الحنين القصرت مشوار سفرنا .. !!
نعم إنه سفر الأحزان المسافرة .. فرثي حميد نفسه في محطات سفره و في ثنايا وداعه .. احتفي بالموت .. وكتب عن القطر وعن موت عبد الرحيم والقدر .. كما احتفي صلاح أحمد إبراهيم بالردي .. يا زكي العود بالمطرقة الصماء بلسان قد تشظي .. فيا منايا حوي حول الحمي واصطفي .. كان بسام العشيات الوفي الكريم الحفي بكفه جودا وعطايا..
فادمعت عيون الشعر .. عندما بكي حميد بإحساس الوداع في الشاشة البلورية مودعاً أهل أرض نورا .. وعبد الرحيم والسرة بت عوض الكريم .. مودعاً كل المحاور في القيمة الرسالة ولغة الخطاب المرسل بين ست الدار .. وبين الزين ود حامد وهذه المشاهد التي جسدها حميد وصراع الحياة والكادحين .. وسرقة الآثار ومصاصي دماء العمال الغلابة وزيت العامل ياهو البطلع ..
كتب القيم المدهشة في تراجيديا الصراع والأحزان .. فرحانا بك يا أحزان فرح النار بلوح الزان .. وبلور آهاته في رثاء صديقه مصطفي سيد أحمد .. يقال عندما حضر إلي ود سلفاب للعزاء في روح الراحل مصطفي سيد أحمد إنه ذهب إلي قبر رفيق دربه .. ورابط فيه حيناً من الزمن وكتب الرثاء علي أعتاب شاهد قبره .. فخرجت مصابيح السماء الثامن وطشيش..
فسكب حميد آهاته وتفاصيل الوداع .. فصلها في جملة واحدة كان لها وقعها في بيت شعر وقفت عنده كثيراً أوجد فيها حميد كمية من الرثاء والبكاء علي الأطلال والراحلين من ديارها .. فأبلغ ما كتب في هذا السفر بعيداً عن قداسة الأشخاص إنه قال لحبيبه المسافر والمفارق .. رغم رحيلك ومهابة فقدك إلا أنو الحياة من بعدك ما وقفت .. إلا إنو في ناس بيغنوا عشان تخضر الأرض النشفت ...
هكذا رحل وهكذا كتب بقلمه عن ألمه وآلام الناس هكذا نظم شعره ليبري به جرحه وكل الجراح .. هكذا أوجد فريضة ليبقي قيمة ضافية في عيون الشعر .. لتبقي هذه القوافي هي الخضرة التي تمنح الصحراء ألقها .. وتعيد البسمة للمنافي ولكل الفيافي .. فسوف يبقي شعره هو زاد المسافرين في البوادي .. وهو الخبز لشفع العرب الفتاري في الصحاري .. وهي إحساس الأمان من جور الزمان هي ملاذ للحياري .. سافر حميد بأشواق الغلابة .. وهو الذي يكتب بحروف الصلابة .. ولو تتدلي سحابة سحابة ... ذات الريح الحرق الغابة فرتق فرحك ليلة (الحنة) .. وسافر حميد و(محطات الوداع) ضجت وراك .. فلا أدري كيف تواجدت هذه المحطات في أشعار حميد وفي غناء مصطفي سيد أحمد ... لماذا اختاروا لغة الوداع .. فمن يبحث مع القدال في رائعته يا وليدات الفريق .. ويا بلد ليلك غريق والفرج باقي لي ضيق والصحاح العندي مرضوا .. شوفوا لي حميد وأرضو .. ونادي حميد في البير هوى هوى عاد ما سمع ..
وفي آخر الملتقي والوداع .. جانا الشدر الأخدر منو ... ونار الشدر الأخدر جاتو .. فات شقيش أب قولاً واحد .. وليش ما يرجع من غرباتو .. طول طول ما طلّ علينا وقاطع مننا جواباتو الغابات جات تنشد منو والعربان راجين جياتو
ألف شليل يا نورة يفوقو عشان ما يجيك (حميدك) ذاتو ..
ويا حميد ياك من بشر صحي الموت سلام .. ما يغشاك شر
و (حتي الملتقي ) في سفر آخر ...