نافع يحسن التآمر،ولكنه ليس من رجال السياسة. يجب تقديم أسامة عبدالله وكمال عبداللطيف للمحاكمة بسبب ثرواتهم المتضخمة.
01-08-2013 05:30 AM
د. عبدالوهاب الأفندي
في الشأن السوداني : إذا كنت آخر من يعلم فلتكن آخر من يتكلم
كما كررنا مراراً، فإن من الأفضل للأخ الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية السوداني أن يعتصم بالصمت ما أمكن، لأن تصديه للحديث والخطابة يضر به وبالنظام أكثر مما ينفعهما. فالرجل قد يكون ممن يحسن التآمر والعمل وراء الكواليس وطعن إخوانه في الظهر، ولكنه ليس من رجال السياسة أو الخطابة، إلا أن المصيبة كما لاحظ بعض قدامى الفلاسفة، هي أن الاعتداد بالرأي الخاطئ مصيبة معظم البشر، حيث يكثر الحسد في كل شيء، إلا في فضل العقل. فكل إنسان، مهما قل شأنه، لا يرى لغيره فضلاً عليه في العقل، ويكون راضياً بنصيبه منه، ويرى أن رأيه هو الأصوب.
خلال الأسبوعين الماضيين، عاد الدكتور نافع إلى الحديث، بل أسرف فيه، فشرق وغرب، وهاجم المعارضة متهماً إياها بالولاء للخارج والسعي لانقلابات مسلحة، ثم دعاها للحوار وتحداها للنزال الانتخابي. وثنى بمهاجمة من وصفهم بالانقلابيين تارة ومدبري العملية التخريبية تارة، وهم من قلب الحركة الإسلامية والجيش، واصفاً إياهم بأنهم أدوات في يد المعارضة، التي هي بدورها أداة للغرب، وأن ما كان يحركهم هو الأطماع الشخصية (التي هو براء منها بالطبع). وأكد نافع أن معظم قيادات المعارضة، إضافة إلى مخابرات عديد من الدول الأجنبية، كانت على علم بالانقلاب وضالعة فيه.
تذكرت وأنا أتابع هذه المساهمات المتفردة للأخ نافع لقاءً جمعني في خريف عام 1995 بقيادي اثيوبي ناقشنا فيه العلاقات بين البلدين، في أعقاب الأزمة التي فجرتها محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا، حيث استوضحني المسؤول عن حقيقة إقالة نافع عن قيادة جهاز الأمن، فأكدت له أن ذلك صحيح بحسب علمي. عندها تساءل قائلاً: فبأي صفة إذن خاطب اجتماع الحركة الإسلامية في الخرطوم يوم الأربعاء الماضي؟
لم تكن عندي إجابة على ذلك السؤال، وعندما وجهته لمسؤول سوداني في وقت لاحق ذلك المساء، لم ينف المعلومة، ولكنه تساءل بدوره: ألا تكفي إقالته من جهاز الأمن حتى يتتبعوا تحركاته؟
هذه الواقعة كشفت عن ثلاثة إشكالات مثلها نافع للنظام. فمن جهة، ظلت ممارسات جهاز الأمن اللاأخلاقية والغبية معاً تشكل عبئاً ثقيلاً، كما ظهر من مغامرة اغتيال مبارك التي كان أدنى قدر من التفكير يظهر خطلها، حتى لو نفذت بذكاء، وهو ما لم يحدث. وبسبب هذا المنهج، فإن الجهاز تحول من أداة لحماية النظام إلى أكبر خطر عليه. وكما ذكرت في كتاب 'الثورة والإصلاح السياسي' الذي كان قد صدر قبيل ذلك اللقاء مع القيادي الاثيوبي، فإن الحكومة بأكملها تحولت إلى جهاز علاقات عامة، و 'درعاً بشرياً' لأجهزة الأمن، تقضي معظم وقتها في الدفاع عن أخطائها وسقطاتها.
الإشكال الثاني تمثل، علاوة على الغباء وسوء الأداء، في أن جهاز الأمن كان مخترقاً بحيث أن اجتماعات الحركة الإسلامية المزعومة وأدق أسرار النظام كانت تصل إلى الخارج أولاً بأول. وقد استغربت وقتها لأن أيا من المسؤولين الذين نقلت إليهم شكوى الاثيوبيين لم يستغرب تسرب معلومات بهذه الدقة والحساسية، ولم يطالب بالتحقيق، أو على أقل تقدير محاسبة الجهات الأمنية المنوط بها حفظ هذه الأسرار.
ثالثاً، وهذا بيت القصيد، فإن نافع عندما أقيل من رئاسة جهاز الأمن، عاد من النافذة بعد أن خرج من الباب، وأنشأ بمباركة المسؤولين ما سمي بالوحدة التنظيمية داخل جهاز الأمن أصبح هو رئيسها، وبالتالي أصبح يعطي التعليمات لقيادات الأمن باسم التنظيم. أما من كان يتمرد عليه، كما فعل خلفه قطبي المهدي، وفي وقت لاحق صلاح قوش، فإنه كان يحاصر ثم يقصى. المفارقة هي أن التنظيم المذكور لا وجود له، كما هو معلوم، لأن الجبهة الإسلامية كانت قد حلت بعد الانقلاب. ولكن الوحدات التنظيمية في الوزارات والمؤسسات كانت أداة يستخدمها من بيدهم السلطة، أي الشيخ حسن الترابي ونائبه علي عثمان ومساعداهما، لتسيير الأمور من وراء ظهر المسؤولين الاسميين. وقد انتشرت هذه الوحدات المزعومة في كل المؤسسات، وتحولت إلى مراكز قوى وبؤر صراع، خاصة في الوزارات التي كان على رأسها إسلاميون متنفذون. وقد تحولت هذه الوحدات في كثير من الأحيان إلى أدوات لتصفية الحسابات الشخصية، والوشاية والنميمة وللصراع على السلطة والمكاسب.
ولأن الأجهزة الأمنية كانت، كما أوضحنا أيضاً في الكتاب المذكور، هي الجهة الوحيدة المنظمة القادرة على الحركة، فقد تقمصت هي هيئة التنظيم، وكانت أكثر من استغل 'الوحدات' المذكورة واتخذتها أداة تمكنت عبرها من تقويض المؤسسية في كل نواحي الدولة.
لو كان هناك عقلاء في النظام لكان من الواجب، حتى من منطلق مصلحة النظام لا غير، أن يقصى نافع وغيره من قيادات الأجهزة الأمنية، خاصة بعد أن تكاثرت الكوارث التي تسببوا فيها للنظام، بدءاً من الانتهاكات الصارخة والمتعددة لحقوق الإنسان التي شوهت صورة النظام، مروراً بالتسبب في تفجر النزاعات المسلحة ثم الفشل في حسمها واحتوائها، بل كان يجب أن يعاقبوا مرتين، مرة على جرائمهم ومرة أخرى على تهديد أمن النظام. ولكن الذي حدث هو العكس، لأن هذه المجموعة الامنية اختطفت النظام في الواقع، وأصبح معظم الوزراء والمتنفذين في الدولة هم ضباط أمن سابقين يدينون بالولاء لنافع قبل غيره. وكما حدث في سورية من اختطاف للدولة والحزب من قبل عائلة الأسد وخلصاء طائفته، فإن 'الطائفة الأمنية' في السودان اختطفت الدولة والحزب والنظام، وأصبحت تتخذ من الدولة درعاً تتحصن به من المساءلة، وبقرة حلوباً تستأثر بخيراتها، ودابة تحملها تبعات أخطائها وتقصيرها.
وبالعودة إلى تصريحات نافع الأخيرة، فإن هذه التصريحات، لو صدقناها، تمثل إدانة جديدة للمسؤول الأمني والسياسي الأول في النظام. فبحسب نافع، فإن الانقلابيين قد اتصلوا بكل أحزاب المعارضة السودانية، وكل مخابرات العالم، وأبلغوهم خطتهم الانقلابية وساعة الصفر والبرنامج السياسي للانقلاب. ورغم كل هذه الاتصالات، ورغم علم كل قوى المعارضة بساعة الصفر كما يقول نافع، فإن أجهزة الأمن التي يشرف عليها، والحزب الذي يقوده، كانا مثل الزوج، آخر من يعلم. فأي أجهزة أمن هذه التي يجتمع أفراد كثر من داخلها ومن داخل الجيش، ويأتمرون ويتشاورون لأشهر، إن لم يكن لأعوام، ويتبادلون المذكرات، ويتصلون بكل من هب ودب داخل البلد وخارجه، من دون أن يكون لأجهزة الأمن التي تستهلك نصف ميزانية الدولة، أدنى علم بما يخطط داخل أروقتها وفي مكاتب ضباطها؟
أليس أضعف الإيمان في هذه الحالة أن يستقيل نافع وكبار قيادات الحزب والدولة والأمن (ولولا الإيمان لقلنا ان عليهم ان ينتحروا، او ليطلبوا الشهادة العاجلة في ساحات المعارك الكثيرة التي أشعلوها وأرسلوا إليها أبناء غيرهم، بينما أرسلوا أبناءهم إلى المدارس الخاصة والجامعات الأجنبية وصرفوا ببذخ مشين وفاحش على حفلات زواجهم في بلد لا يجد فيه أساتذة الجامعات وضباط الجيش والأطباء، فضلاً عن جيوش الشباب العاطلين، قوت يومهم)؟ متى يتحمل هؤلاء القوم المسؤولية عن أي شيء؟ أيوم القيامة، وقد اقتربت الساعة واقترب للناس حسابهم؟
إن كان نافع وبطانته الأمنية دائماً آخر من يعلم، فليرحمنا ويرحم نفسه، ويكون دائماً آخر من يتكلم. ولكن الإشكالية ليست في نافع، ولكن في بقية أركان الدولة المختطفة. فعندما يرتكب بعض منسوبي الأمن أو غيرهم جريمة، مثل قتل وإغراق طلاب جامعة الجزيرة الشهر الماضي، تكون الدولة بالخيار، إما أن تتحرى عن القتلة وتحاسبهم، فتصبح دولة بحق، وإما أن تتستر عليهم، فتصبح شريكاً في الجريمة، وبالتالي تتحول جريمة الأفراد إلى جريمة نظام. وحتى الآن، ظلت الدولة والنظام ككل تميل إلى الخيار الثاني، وتفضل أن تصبح جزءاً من عصابة.
ولا يحتاج المرء لانتظار نتيجة التحقيق لكي يدرك أن دولة نافع قد اختارت أن تتحول إلى عصابة. فلو كانت الدولة وأنصارها أبرياء من الجريمة، لعلت أصواتهم بالاستنكار. فمن عجب أن بعض المنظمات القريبة من الدولة عقدت مؤتمرات في سويسرا دعماً لضحايا العنف في ميانمار، وسير آخرون الوفود إلى غزة نصرة لمظلوميها. ولكن عندما يقع ضحايا في مدينة لا تبعد عن الخرطوم سوى مئة وخمسين كيلومتراً، لا نسمع الاستنكار أو تجييش قوافل الدعم، بل الإنكار والتقليل من حجم المصيبة. وهكذا يكاد المريب يقول خذوني، وكما قال تعالي: 'ولتعرفنهم في لحن القول'. فلو كانوا حقاً أبرياء لكانوا على الأقل صدموا بما وقع من جرائم.
النظام هذه الأيام يصرح على لسان نافع والرئيس ونائبيه بأنه يريد الحوار مع المعارضة حول دستور جديد، في نفس الوقت الذي يتهم فيه نافع ونائب الرئيس المعارضين بأنهم عملاء للمخابرات الأجنبية، وتقوم أجهزة الأمن بإغلاق الصحف ومراكز الدراسات وتمنع منظمات المجتمع المدني من تسليم مذكرة لمفوضية حقوق الإنسان التي أنشأتها الحكومة لهذا الغرض. وهذا يطرح تساؤلات مهمة حول جدية دعوة الحوار حول دستور جديد في الوقت الذي لا تحترم الحكومة الدستور الحالي الذي لم تستشر المعارضة عند إقراره.
إن علامة جدية الحكومة في الإصلاح تظهر إذا ما تمت إقالة نافع وبقية أقطاب القمع والفساد، وعلى رأسهم أسامة عبدالله وكمال عبداللطيف، وتقديمهم للمحاكمة ومساءلتهم عن مصدر ثرواتهم المتضخمة. عندها فقط نشعر بأن التغيير قد بدأ. أما بخلاف ذلك، فإن الإقالة والمحاكمة لهؤلاء وغيرهم آتية، ولكنهم لن يعانوا من الوحدة في سجن كوبر وقاعات المحاكمة.
' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن