ليلٌ وخمرٌ وشفاه نموذجاً.. محاولات (تطهير) الأغنية من الخدش!!
الأربعاء, 02 يناير 2013 14:29
بقلم: موسى حامد
كاتب وصحفى
الحادثةُ كثيفة التداول، كانت تقولُ بأنّ عضواً بلجنة النُصوص بالتلفزيون، بدايات التسعينيات، أوقف بث أغنية تقول كلماتها (نتلاقى.. نتلاقى)، كان السبب غاية في الطَرافة والمُفارقة وهو أنّ المنع كان بسبب أنّ المغني لم يُتبع قوله (نتلاقى.. نتلاقى) بعبارة: (إنْ شاء الله)!
مقصلة التطهير
وفيما يحكيه د. منصور خالد أنّ مسؤولاً بداية التسعينيات، يوم أنْ كان الإنقاذ (إنقاذاً)، (اقتحم دار الإذاعة السودانية لـ(تطهيرها) من كل أثرٍ مسموعٍ يتغنى فيه أهل الوجد بالحُسن والمُدام). معلناً بأنّ هذا العام سيكون (عام تطهير الأغنية السودانية)!
؛؛؛
الشاهدُ أنّ فترة التسعينيات شهدتْ اختناق الأغنية السودانية بفعل النظرة الدينية (الضيِّقة)، ودفعتْ أثماناً بالغة لدرجة منع أي أغنيةٍ تُشير للمُدام أو الغرام
؛؛؛الشاهدُ في المثالين السابقين، وأكثر منهما، أنّ فترة التسعينيات شهدتْ اختناق الأغنية السودانية بفعل النظرة الدينية (الضيِّقة) لها، ودفعتْ أثماناً بالغة جراء ذلك. حدَّاً بلغ درجة منع أي أغنيةٍ ترِد بين كلماتها أيُّ لفظةٍ تُشير حساً أو لفظاً للمُدام أو الغرام!!
ونتيجة ذلك فقد وقعتْ في مقصلة (التطهير) هذه عدد لا بأس من الأغنيات السودانية (الكبيرة) نأخذُ منها مثالاً: (خمرة العُشّاق) لـ عثمان حسين، (أجراس المعبد) لـ عبدالعزيز محمد داؤود، (الجمعة في شمبات) لـ إبراهيم الكاشف، و(ليلٌ وخمرٌ وشفاه) لـ سيد خليفة التي سنأخذها مثالاً على (التطهير).
تشويهٌ أم تأصيل؟
بالصدفة المحضة، استمعتُ قبل أيامٍ لأغنية (ليلٌ وخمرٌ وشفاه) للفنان الراحل سيد خليفة، وهي من كلمات الشاعر الراحل حسين عثمان منصور، ومن ألحان الموسيقار برعي دفع الله. الأغنية كانت تؤدى بصوت الفنان الشاب ياسر عبدالوهاب.
لكن لفت انتباهي وأنا أستمع إلى الأغنية بأنّ الكثير من كلماتها قد تم تغييره!! وما دريتُ وقتها، إنْ كان هذا التغيير في كلمات الأغنية تمّ من قِبَل الفنان الشاب ياسر عبدالوهاب، أم مِنْ قِبل الأستاذ حسين خوجلي، باعتباره مقدّماً للبرنامج، ومنتجٌاً لحلقات (تواشيح النهر الخالد)، وهو البرنامج الذي بُثّتْ خلاله الأغنية.
قانون الملكية الفكرية، الذي عبره يُنظر للخلاف الناشئ في حقول النصوص الأدبية يقطعُ بشكلٍ أساسي وباتر بأنّه لا يحق لأحد تعديل الأغنية.
تطهير جسد الغناء
وعلى هذا الأساس لا المغني الأصيل للأغنية وهو الراحل سيد خليفة، ولا الأستاذ حسين خوجلي، باعتباره منتجاً للحلقة، ولا ياسر عبدالوهاب باعتباره مؤدياً للأغنية من حقهم جميعاً أنْ يُحدثوا في نص الأغنية وكلماتها أي تعديل إلا بموافقته.
أما وقد ذهب الشاعر (إلى رحاب الله)، فليس لأحدٍ الحق في التغيير مطلقاً.
؛؛؛
قانون الملكية الفكرية الذي عبره يُنظر للخلاف في النصوص الأدبية يقطعُ بشكلٍ أساسي بأنّه ما من حق أحد تعديل نص الأغنية
؛؛؛
التعديلات التي حدثتْ للأغنية كانت في تغيير عبارات عديدة أولها في عنوان القصيدة الذي تحوّل من (ليلٌ وخمر وشفاه) إلى (ليل وفجرٌ وصفاء)، وعبارات أخرى مثل: (حطّم الكأس وولى) التي تحولتْ (تطهيراً) لما في الأغنية من خدشٍ إلى: (حطّم النفس وولى).
وبدلاً عن (ما لكأسي ظامئاً أبداً وحيد) أبدلها بـ(ما لقلبي ظامئاً أبداً وحيد). وبدلاً عن قول شاعر القصيدة: (ياسُقاة الكأس من عهد الرشيد). قال: (يا رواة الشعر من عهد الرشيد). هذا إلى العديد من عمليات (التطهير) الأخرى التي حدثتْ في جسد نص الأغنية!!
حوادث مشابهة
الشاعر الغنائي، والكاتب الصحفي، الأستاذ سعدالدين إبراهيم، يُؤكد في حديثنا معه إلى أنّ هناك العديد من الحوادث المشابهة، وليستْ (ليلٌ وخمرٌ وشفاهٌ) لوحدها.
كان القصد من هذا (التعديل) أو التغيير في كلمات نص الأغنية (إزالة) الألفاظ المُحتمل (خدشها) للحياء، أو تُخالف الذوق العام. ويضرب المثل بالفنان عبدالكريم الكابلي الذي لجأ إلى (تعديل) بعض الألفاظ في أغنية (سعاد) من كلمات الشاعر الراحل عمر الدوش.
لكنّه يقطع بأنّ أي أغنية هي بالأساس (وثيقة تاريخية)، لا يجوز فيها التعديل، أو التغيير، أو حتى (التأصيل)، بأي حُجةٍ كانت.
؛؛؛
محاكمة النصوص الفنية والأدبية تتم بشكلٍ عام وفق السياقات الفنية، وليس وفق المحاكمات الأخلاقية والدينية
؛؛؛مع التنبيه (الصارم) إلى وجوب محاكمة النصوص الفنية بشكلٍ عام وفق السياقات الفنية، وليس وفق المحاكمات الأخلاقية والدينية.
ومع إشارته إلى أنّ نص أغنيته (نختلف أو نتفق) التي غنّاها الراحل محمد وردي حدث فيها بعض التعديل، ولكن لضرورةٍ فنيةٍ بحتة، إلا أنّ سعد الدين يشير إلى أنّ التعديل يجب أنْ يكون باستشارة وموافقة مؤلف النص، باعتباره صاحب الحق الحصري والأوحد في ذلك.
وثيقة تاريخية
ويُلمح إبراهيم إلى أنّ كل هذه التعديلات التي أحدثها (المتزمتون) كانت بسبب نظرة متأخرة وغريبة وسطحية للنصوص الغنائية. وتساءل عن قصائد د. أمين حسن عمر (الخمرية).
وعن الشيخ قريب الله الذي قال بأنّ كلٌ يغني لمحبوبه وهو يستمع بإعجاب إلى أغنية: (ياليل أبقالي شاهد، على نار شوقي وجنوني) لشاعر الحقيبة صالح عبدالسيد (أبوصلاح).
؛؛؛
الشاعر والكاتب الصحفي محمد نجيب محمد علي أقرَّ مبدأ أنّ الأغنية وثيقة تاريخية/ ثقافية/ اجتماعية واجب الحفاظ عليها
؛؛؛ما ذكره سعدالدين يوافقه فيه إلى حدَّ التطابق الشاعر والكاتب الصحفي محمد نجيب محمد علي الذي أقر مبدأ أنّ الأغنية وثيقة تاريخية/ ثقافية/ اجتماعية واجب الحفاظ عليها، ثم أشار إلى أنّ أغنية (ليل وخمر وشفاه) من الأغنيات التي طالتها يد الإيقاف أول عهد الإنقاذ لأسباب (عقدية) بحتة وليستْ فنية!!
لكنه تشدد في وجوب محاكمة من يُعدّل أو يُبدّل في كلمات الأغنية محاكمة جنائية، وذلك لتجنيه على تاريخ الشعب السوداني الفني والثقافي وعلى تاريخه باعتبار أنّ الأغنية تاريخاً فنياً واجتماعياً ملكٌ للشعب السوداني.
ليس من طريقٍ ثالثٍ
التاريخ يقول إنّ محاولات (تطهير) جسد الأغنية السودانية من الألفاظ الخادشة للحياء، و(المسيئة) للذوق العام كان لها إرهاصات فردية قبل الإنقاذ، لكنّها استحكمتْ لدى الإنقاذ.
وعليه فقد قامتْ بالتغيير أو التبديل أو بالإعدام إنْ لم تجد العمليتين الأوليَيْن لأي أغنية ترى فيها ذلك. فقامتْ على كلمات هذه الأغنيات تغييراً وحجباً وحذفاً وتعديلاً.
؛؛؛
التاريخ يقول إنّ محاولات (تطهير) جسد الأغنية السودانية من الألفاظ الخادشة للحياء، و(المسيئة) للذوق العام كان لها إرهاصات فردية قبل الإنقاذ، لكنّها استحكمتْ لدى الإنقاذ
؛؛؛نحن هنا نتحدّث من منظورٍ فني (بحت)، وليس له أدنى علاقة بالسياسة، ولا حتى بمنعرجاتها ونظراتها للمخالفين والمؤيدين.
ولكن باختصار هذه النصوص الغنائية وإنْ فيها ما فيها من ألفاظ تُعتبر عند البعض (خادشة للحياء) أو (مسيئة للذوق العام) ربما مَنْ كتبها لم يقصد بها هذه المعاني الحسية الظاهرة والتي رآها من قالوا إنّها خادشةٌ للحياء..
ففي الشعر براحٌ للمعاني كما يعلم العارفون بدقائق وظواهر الشعر وخوافيه من جناس وطباقٍ وتورية وحُسنِ تعليل وخلافه.
وأخيراً، فإمّا أنْ يُغني المغني هذه الأغنيات بكل مافيها من مفردات لم تُعجبه، أو يتركها كلها، وليس من خيارٍ ثالثٍ في هذا الأمر. فالأغنية جزء من تراثنا وتاريخنا، ويجبْ أنْ يتم التعامل معها على هذا الأساس. فهل يستطيع كائنٌ مَنْ كان أن ينظر لتماثيل حضاراتنا السودانية مثلاً باعتبارها (أصناماً) أم (تاريخاً) و(آثاراً)؟
شبكة الشروق