(( بعد أن يؤدي صلاة الفجر كان الزعيم يجلس في مسيده من قبل شروق الشمس لإستقبال المشاكل التي تعوّد على حلها وأصبحت جزءا من حياته طوال بضعة عقود من الزمان، ولأنه كان يتمتع بإحترام كل أهل القرية والقرى المجاورة فإن أحكامه كانت نافذة بصورة أفضل حتى من بعض القرارات الجمهورية التي تتعفن داخل أدراج موظفي السلطة.
كان الزعيم يستخدم في حل الصراعات المحلية التي تبدأ من خلاف في شراكة علي جمل أو حمار أو بقرة، يقوم غالبا بحلها عن طريق (تفكيك) الشركة بالتراضي عن طريق التوزيع أو تفكيكها نهائيا بالبيع إن تعذر التراضي، وصولا إلى المشاكل العائلية من نوع شخص يرغب في الزواج من أسرة ما إلا انه رفض رفضا قاطعا بسبب إفتقاره لأية مؤهلات من أي نوع سوي احترافه للبهجة .
عندها لا مخرج له سوي أن يرابط عدة أيام داخل مسيد الزعيم، مشكلا ضغطا إقتصاديا إضافيا لأن شهيته تكون مفتوحة في فترة القلق المكثف في إنتظار الرفض النهائي، وفي تلك الفترة يثابر علي أداء الصلاة خلف الزعيم مباشرة، وينتهز فرصة غياب المؤذن أحيانا ليؤذن بدلا منه، يخفي في كم جلبابه (البخرة) التي يقرأ منها الأذان الذي لا يحفظه ويخلط بينه أحيانا وبين إقامة الصلاة، ليكتسب حظوة أخلاقية ويفند حيثيات رفضه بأنه يعاقر الخمر وأنه يجهل إتجاه قبلة الصلاة، يرابط عدة أيام صابرا علي تقشف البهجة فترة الانتظار لأنه يعلم أنه ما دام الزعيم قد تدخل في مشكلته فإنه سيحصل في النهاية علي موافقة مشروطة، يتوقف بموجبها (كما يقولون في نشرات الأخبار) عن معاقرة الخمر ومطاردة الحفلات الغنائية مع أقرانه يوميا، حيث يعتمدون علي أفضلهم سمعا لتحديد مكان الحفل بمجرد إكتشاف صوت (دربكة) متقطع ينقله هواء الدميرة المشبع برائحة الجروف الغارقة في الماء. .
كان الزعيم يستخدم من أجل حل هذه المشاكل اليومية عدة طرق تبدأ بالكلام الطيب وتنتهي أحيانا بالضرب، إذا ما تعسرت الطرق السلمية لحل النزاع. كما إنه كان يستخدم أيضا سلاح الضغوط الإقتصادية علي الطريقة الأمريكية وإن بفعالية أكبر. ولأن وجود مشاكل كان يساوي الحياة نفسها بالنسبة للزعيم فإنه كان يلجأ حين تقل المشاكل أو تنعدم في فترة إنشغال الناس بالزراعة في الشتاء لإستيراد مشاكل من القرى المجاورة، كان يقوم بإستغلال الرجل الذي يطوف القرى على حماره لإعلان أسماء الموتى الجدد ليذيع إعلانا متجولا يتضمن دعوة لكل من لديه مشكلة للحضور إليه في مسيد القرية لحلها. وكان مذيع الموتى يتحمس كثيرا لإذاعة إعلان الزعيم لأن الزعيم يجزل له العطاء، حتى أن المذيع كان يكتفي في الغالب بإذاعة إسم الميت بضع مرات بينما يعيد تكرار إعلان الزعيم حتى يحفظه الناس.
وفجأة مع نهاية عقد الثمانينات وبروز عقد التسعينات، بدأت تظهر مشاكل اكثر تعقيدا، فقد وصل العسكر المتأسلمون الى الحكم عن طريق إنقلاب عسكري، ولأنهم حرصوا فقط على الصراخ بالشعارات دون محاولة تنزيلها الى أرض الواقع فقد بقي حتى إسمهم (الانقاذ) مجرد شعار لا علاقة له بالبؤس الذي حل في كل مكان بعصا ساحر بمجرد وصولهم الى سدة الحكم.حتى أن الزعيم كان يضحك دائما كلما تذكر عبارة قالها أحد الغرباء عبر ذات مساء في أمشير بالقرية وقضى ليلته بالمسيد. رغم أنه إستخدم كلمة بذيئة في وصفه، قال: (يا مولانا ديل حالتهم جايين عشان ينقذونا ، أمال لو كان جايين ..... كان عملو شنو؟)
ضاقت سبل الرزق وأصبحت الزراعة أقصر طريق يؤدي إلى السجن، إنشغل الناس بمشاكل الحياة الجديدة، تعليم الأولاد وعلاجهم إضافة لكم هائل من الرسوم والضرائب التي يتعين دفعها يوميا، فالإنقاذ لم تستطع من بين الشعارات الكثيرة التي رفعتها أن تطبق سوى الشعار الذي لم ترفعه قط وإن ظل مرفوعا منذ لحظة إطلالتها ليصبح جزءا أصيلا من كل برامجها وهو شعار : (نأكل مما نقلع!). بعد أن نجح المستشارون الرئاسيون ومستشاروهم ومستشارو مستشاروهم في إيجاد صيغة عصرية لتأصيل (القلع).
وجد الزعيم نفسه داخل مسيده يمارس سلطته الغابرة علي مجموعة من الأحفاد المراوغين الذين كان يضطر لإستخدام العصا طوال اليوم ليضمن طاعتهم خاصة حينما عرف أنهم لاحظوا أن قدراته البصرية تراجعت حينما إكتشفوا ضرباته العكازية التي لا تميز بين المخطئ والمصيب، وانه أصبح في معظم الأحيان يكافئ المخطئ ويعاقب المصيب إلا أن الكارثة كانت في أنه كاد يعجز عن متابعة نمو ثروته الحيوانية، والتي لم يعد لديه شك في أن الأحفاد كانوا يستغلون تراجع قواه البصرية للتصرف فيها، وبأذنيه وأنفه إستطاع أن يكتشف إشارات رخاء متنام من حوله ورفاهية دخانية، فقد كانوا يدخنون سجائر البنسون والبرنجي بدلا من القمشة الرخيصة التي كانت تحرق صدورهم، ويرتدون ملابس وأحذية وساعات جديدة ويسهرون طوال الليل حول أجهزة راديو صغيرة يستمعون إلى إذاعة لندن وصوت العرب .
عرف أن جزءا من ثروته الحيوانية قد تحول إلى ملابس وأحذية، وحتى يعطي إنطباعا بأنه لا يزال يتحكم في العالم من حوله، أبتدر إستعراضا اسبوعيا لتفتيش حيواناته، مستخدما عصاه الطويلة للتأكد من وجود حيواناته، دون أن يلاحظ بسبب بدء ضعف سمعه ان بعض أغنامه كانت تصدر (هوهوة كلبية) بدلا من الثغاء العادي!
إلا أن المشكلة الكبرى التي كانت تؤرقه انه ومع تكاثف ظلام عينيه إختفي الجميع، ولم يعد هناك من زائر يؤنس وحدته، فمع تنامي الضغوط الاقتصادية وتحول الزراعة إلى مهنة طاردة غير مجدية هاجر معظم الشباب إلى الخرطوم ليعملوا كماسرة في البصات أو بيع الماء في ميدان السقايين (أبو جنزير سابقا) أما أقرانه من كبار السن فقد انزووا وإنتقل الأكثر حظا إلى الدارالاخرة، فقد عرفوا مبكرا أن الانقاذ جاءت لإنقاذ الناس من الحياة، فآثروا مغادرة الحياة بصمت وببعض ذكريات تفاصيل زمنها القديم السعيد قبل أن تتفتت أمام أعينهم وتضيع في زحام كذب الشعارات وطبول الحروب التي تشن ضد أبناء الوطن نفسه، آثروا تسلم زمام مبادرة الموت بأنفسهم بدلا من إنتظار مصيرهم المحتوم على يد ثلة من اللصوص والعسكر.
إلا أن الزعيم لم يستسلم بسهولة، عرف أن الاستسلام للعزلة لن يكون سوي انتظار غير معلن للموت، ولأنه لم يكن واثقا من إمكانية ممارسة سلطته التفكيكية في الدار الآخرة، فد آثر البحث عن حلول تضمن بقائه قيد السلطة. ولإجتذاب بعض الزوار لجأ لحيلة كهربائية، إستخرج بمساعدة أحفاده جهاز تلفزيون قديم أرسله له بعض أقربائه من الخرطوم قبل عدة سنوات، كان جهازا قديما يحتاج لبضع ساعات كي تسخن أحشائه وتبدأ في إرسال صورة مهتزة الأطراف، وقبل تشغيله قام الأحفاد بفكه لتنظيفه من الغبار فاكتشفوا في داخله عائلة من العناكب المعمرة تعشش داخله منذ عدة سنوات .
قام الأحفاد بتشغيل الجهاز في المساء في الباحة الواسعة أمام المسيد، إجتذب الجهاز بعض الزوار الذين تزايدت أعدادهم في الليالي التالية حتى أصبح المكان يعج بالناس مثل سوق الأربعاء، عندها فقط شعر الزعيم بأنه يستعيد عافيته، جلس علي عنقريب صغير وحوله علي الأرض جلس مشاهدو التلفزيون، ومن خلال هذا الحضور مارس سلطة مسائية تلفزيونية، رغم إن الحضور بدوا اكثر ميلا في الأيام الأولى لتقبل أحكامه لا كقرارات نهائية بل كنصائح، تشبه في وقعها نفس الشعارات التي كان يصرخ بها جهاز التلفزيون حول نأكل مما نزرع أو نلبس مما نصنع دون حتى أن نأكل او نزرع في الواقع ودون أن نلبس أو نصنع شيئا. وفي البداية لم تكن البرامج مشوقة : بضعة أطفال يتشاجرون علي قطعة بسكويت، أو إعلان عن مزاد علني لبيع أثاث شخص مفلس، أو شخص ملتح يرتدي ملابس عسكرية أنيقة تزينها نياشين ملونة على كتفيه، ويحمل سلاحا، لكنه لا يحارب أحدا، بل يكتفى بإستعراض مهاراته العسكرية على الشاشة ويطلق زخات متلاحقة من سلاحه في الهواء بينما يرسل الأطفال ليحاربو نيابة عنه في الحروب الحقيقية.
إنتعشت سلطة الزعيم وبدأت الحلقة التلفزيونية بعد بضعة أيام تشهد إستعادة مجد المشاكل : شجار لفض شراكة بقرة، نزاع علي قطعة أرض لن يزرعها أحد، نزاع علي ملكية محراث لن يستخدم قط بسبب غلاء مدخلات الزراعة وهروب الشباب الى أي مكان عدا الوطن، إستعاد الزعيم نشاطه وعاد لحل المشاكل بنفس طريقته الغابرة، وإن لم يلجأ لإستخدام عقاب الجلد ليس فقط لأن الزمان تغير، ولكن خوفا من أن يعاقب أشخاصا لم يرتكبوا أية أخطاء بسبب ضعف بصره.
وفجأة وحينما تيقن من إستقرار سلطته التلفزيونية الجديدة، إنقطعت الكهرباء، فبسبب المشاكل الاقتصادية التي تفاقمت منتصف التسعينات أصبح تشغيل محرك للكهرباء يعمل بالوقود ترفا لا يقدر عليه أحد، إنقطعت الكهرباء وتحول جهاز التلفزيون إلى جثة هامدة، نظر الزعيم حواليه فلم يجد أحدا، ولم يسمع سوي صوت عائلة العناكب التي بدأت تعشش مرة أخرى داخل جهاز تلفزيونه، وصوت أحفاده من علي البعد يتحلقون حول جهاز مسجل جديد قايضوه مع بائع متجول بإحدى أغنامه الأصيلة)). أحمد الملك