بلغني نبأ وفاة أخي محجوب (النظامي)، وما أدراك بنبأ وفاة عزيز لديك وأنت في مهجرك الأمريكي السحيق هذا! لاحول و لا قوة إلا بالله.
تذرعت بذكرى طريق رملى كنا قد اعتدنا قطعه عدواً وراء خطواته الواسعة، وهو يتقدمنا، متجاوزا قضيب السكة حديد الذي يقسم مدينة الحصاحيصا إلى نصفين متعادلين في ذلك العهد؛ يأخذنا الى السينما لنشهد طرائف إسماعيل ياسين وحروب داراسنج والمصارعين العشرة. ومن هناك ينطلق بنا إلى أندية البلدة وفولها الشهير، محدثين ضجة كأن عيناً فوارة انفلقت من قلب الأرض إلى سطحها الساكن الممل! كانت أمي، رحمها الله، تدفع بنا، في الأجازات الصيفية، إلي بيت خالتنا أم الحسن، عليها الرحمة. وكنا نتطلع الى تلك الزيارة، لنلتقي بأخوتنا، خاصة أستاذ محجوب الذي كان يولينا عنايته، ويتعهدنا برعايته. علمني الإنجليزية، كما علمها لأبناء الجزيرة كلهم، فذاع صيته، حتى عرف باسم (جاك)! أذكر مكتبته، ولا أنسى من بينها (سيرة حياة كينيدي) وعنوانها (ألف يوم) وكتاب (قبسات التقابة). كان يصطحبنا إلى الحفلات، نستمع إلى عبد الله محمد وأحمد الطيب وكثيرون فاق إعجابي بهم كل حد، مما جعلني اصنع رقاً من صحن قديم، علقت الفيش المسطح على جنباته، وملأت الدار، بل والحي كله، زعيقا ما بعده زعيق .. "هوي يا ليلى .. هووووي"!
أحببت محجوباً وفكاهاته "أرجو لكم التوفيق والسداد .. وتاكلوا لحم جداد"، و طريقته في السخرية من خطباء الندوات السياسية العقيمة!
سافر محجوب إلى سلطنة عمان في حميا فورة الاغتراب، لكنه لم يقض بها إلا وقتاً يسيراً. لم بحتمل الغربة، فعاد الى طريقه الرملي الأثير، يقطعه كي يعلم أبناء السودان اللغة الإنجليزية. توفاه الله وهو يؤدي واجبه الذي نذر حياته من أجله. أستشهد أخي المعلم الإنسان محجوب وهو يؤدي واجبه، بذات الهدوء والتواضع الجم. مضى، قائدا تخرجت على يديه آلاف الفصائل و الفيالق، ما طلب جزاءً ولا شكورا، فحق فيه رثاء دريد بن الصمة:
"صبور على رزء المصائب حافظ/ من اليوم أدبار الأحاديث في غد/
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه/ فلما علاه قال للباطل ابعد/
وهون وجدي إنما هو فارط/ أمامي وإني وارد اليوم أو غد"!