وداعــاً...يـاوطــن الحــلم الفسيــح
ما رحل الهرم الأشم ورديّ .. بل رحل الوطن
عثمان عبد الله
دمعة أولي :
زمان ما عشنا في غربة
ولاقاسينا نتوحّد
وهسع رحنا نتوجع
نعيش بالحسرة نتأسف
علي الماضي الما برجع
أحبّك
(نحبّك)
لا الزمن (حولنا) عن حبك
ولا الحسرة
الراحل/عمرالطيب الدوش بواسطة/محمد ورديّ
في زمان جميل من حياتنا قد مضي ، غنّانّا ذلك الفتي الأشم الخارج تواً من عرين الابطال وقلعة النضال التليد ــ سجن كوبرــ :
(قلت أرحل أسوق خطواتي من زولاً نسي الألفة ..)
كان ذلك قبل أربعون عامأ(كبيساً ) ، وأعتبرناها واحدة من تداعيات السلم الخماسي الذي درّسنا له الأستاذ/محمدعثمان ورديّ واستوعبناها جيداً ، أو واحدة من دعاباته النوبية بلغة عربية وكنا نعي تماماً بانه لن يرحل لانه ساكن بين جدران مسام الوطن وقابع في خلجات الروح السودانية الأبية بتعدد انتماءاتها وتغلبات مزاجها، المرتبط بتغلبات مناخ وطقس الوطن ــ الحار الجاف المترامي الأطراف ــ وظل هكذالأكثر من نصف قرن من الزمان ينشر في قيم الحب والخير والجمال من خلال الحانه وموسيقاه وكلماته المنتقاه بعلم ودراية وحكمة ، وظل يضمد و يطبب في جراح الوطن النازفة ،التي تقيحت بعد ذلك وصارت (دمل) و(سرطانات).
رغم ذلك لم يرحل إبن (نوباتيا) الأبي وحفيد ترهاقا وصنو الخليل، مارحل (وردّ) حياتنا بعبيره فواح الشذي، شاحذ الهمم ، باعث الأمل في قلوب البائسين واليائسين ، ومحرضّ الأجيال للحرية والكرامة والأخاء والجمال، متخيًراً وعر الدروب في أحلك منعطفات الوطن أوان الردات والأنكسارات وعسف العسس السخيف !!
ورغم ( زمان الفرقة والتبريح) لم يرحل، بل رحل الوطن !!
رحل الوطن ــ مأسوفاً علي نضالات فلذات كبده ــ بعد صراع طويل مع أمراض القرون الوسيطة ،التشرزم والتحوصل والــ ... (الجزام) الذي أدي الي تهتك وتساقط وانفصال خاصرة الجسد .
رحل الوطن بعد أن عافت مدنه وقراه و(فرقانه) و(أرايته) و(كنابيه) خطوات بنيه ، وأنكرت سواحله وشطأنه وسهوله وهضابه (صدي) صوتهم رحل الوطن بعد أن لفظت المدن (الكاكية) خيار بنيها الي المنافي البعيدة والسجون العتيدة ، وأحتفظت بالدمل في قلبها السقيم أصلاً ، ذات المدن التي توجت فاتحيها الغزاة وعلقت عاشقيها فوق أغصان الحديد .
نعم رحل الوطن ! بنخلات حلفا وبغابات تركاكا.. بدارفوره ــ التي كانت حرة نبيلة ــ وكل قبائل التاكا .
رحل الذيّن تحبهم ، رحلوا... رحل الذّين كنت معهم (في الشدة بأس يتجلي وعلي الوّد يضموا الشمل أهلا ... رحل منّ ليس في شريعتهم عبدّ ومولي ) . رحل وطن منّ تحدوا بالسيف المدفع (وآآ اسفاي) ماتوا(سمبلة).
رحل (ودالمك) عريس أم در،و(صلاح) أخو ملوال ورحلت قبله الطيور بما فيها (عصافير الخريف) ، و(ود عبد الحي) ضمير الوطن الحيّ و(ود عبد القيوم) رفيق الشهداء، رحلوا بعدما تكعبلت خيولهم بالحواجز، رحلوا وهم يجهزون (جرتق) عرس الغابة والصحراء ويسبكون الشعر الجميل لتغنيه أنت في ليلة العرس البهيج قالوا بقافية واحدة :
ـــ قلنا الصحراء تشب في الغابة
حلم قريب ماهو تمني
لم يتم العرس ... فرحلت الغابة وتمددّت الصحراء ..صحراء في كل الأتجاهات .
رحل وطن (الودّ ) ياورديّ الودود وأنت تسكب فيه حليب روحك العذب الشجي وتسقيه (مزيج) الفرح الجميل والمضاد لليأس والسأم رغم أنك تعرف جيداً، أنه وطن مسكون بالحزن ، وشعب موبؤ بالكأبة .
رحل الوطن بعد أن تفتق جرح (الحزن القديم) وفاض (النهر القديم) دموعاً ودماء ، وانفض سامر(عشّة) و(ميري) فلا الأولي (كلمتنا) ولا الثانية (ذكرتنا). وماعاد (سودانَ بلَدنا) ولا (كلنا إكوان) وذهبت أناشيد الطفولة جفاء .. مات (منقو) وعاش البطل... وتكوّر النشيد الجميل (جُلة) في الحناجر ، وأنقلبت قصة الأطفال غُصة :ـــ
(حسن البطل ) .
حسن ولد العرب .
حسن ضرب البنت .
البنت بنت النٌوبة.
ــ التي كانت ــ
تغني طروبة
بالحنيّة مع عروبا
ترسي الغربة
تنسي التُربة
مأسي حروبا
تكسر الحربة
بعود الحربة
تدقّ النوبة
ــــ ـــ ـــ ـــ ـــ
حسن ردم (الدونكي)
الدونكي دونكي العجم
يبس الزرع وجفّ الضرع
حسن طرد العجم
حسن البطل
سوّا (المسطرينا) سونكي
حسن طعن الوطن
الوطن نزف ونزف ونزف
الوطن ر
ح
ل
رحل (البتحلم بيه يوماتي) ــ يا(سنديانته الحمراء) ــ الشامخ العاتي.. الخيّر الديمقراطي وتناثرت رفاته بين بورصات ودًلالات العالم المتعولم وصارت سوقاً لمضاربات السماسرة والتجار من أحفاد الدفتردار .
أيها (النهرالقديم) لا تتثني طرباً، عند مرورك بأرض البطولات وميراث الحضارات ــ عفواــ ربما تتلوي من شدة الألم !!وانشر خشن رمالك علي الجروف ولا تبتسم لــ (بعانخي) و(ترهاقا) والمهديّ و(علي عبداللطيف) و(عبد القادرالحبوب) و (القرشي) !!
أيتها السودانية التي ــ كانت ــ (تهوي عاشق ود بلد) أرجعي لخباء قبيلة، أباك الذي اباك، اوزوج أمك، خاسئة، منزويــة، وأدخلي في خمارك أودثارك، ولا تبحثي ــ في المرايا ــ عن (مفاتن عيونك) فكل شئ اصابه الخفوت والذبول فما عاد (وشك بين مسايرك زي بدر إكتمل) !!
علي شرف اليوم العالمي للمرأة :ـــ
المرأة السودانية في أغنيات الأستاذ/محمد ورديّ
ــــ عثمـــان عبـــدالله ـــ
يعتبر الأستاذ الراحل بابكر بدري رائد تحرير المرأة السودانية بإعتباره أول من أسس ورعي تعليم البنات (النظامي) ــ حيث كان تعليم البنات قبلـه محصوراً في بعض الأسر من بنات شيوخ الخلاوي وقتذاك .
الأستاذ الراحل /محمد ورديّ هو رائد التنوير المعرفي والثقافي والتبشير بذلك الوعي الجديد والغريب ــ أيضاً ــ علي مفاهيم وثقافة المجتمع السوداني ــ وقتها ـ وذلك من خلال الكلمات والألحان والموسيقي التي إنتقاها بعناية ودراية وعلم ومنهجية لتصب في هذه الوجهة ، وسار علي ذات الطريق الذي رسم خطاه (خاله) المناضل الفنان الراحل/ خليل فرح والذي أصبحت (عزة) في عصره رمزاً للوطن بأسره ، واثباً فوق (عتبة) مضامين أغاني الحقيبة، والتي كانت تصوًر المراءة كـ (قارورة) ومجالاً للتباري في تعداد مفاتنها والوصف الحسي والجسدي المبتزل . و أغاني الحقيبة هي إمتداد تاريخي لأغاني وقصائد الغزل العربي البدوي المنداحة اليهم من الثقافة العربية الصحراوية ونظرتها للـ (حريم) فأغاني الحقيبة تنضح بالغزل الحسي والوصف الجسديّ . علي نسق :ــ
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحاب لا ريث ولاعجل
فما عادت القيم الجمالية ــ حتي الوصفي منها ــ مواكبة لهذا الجيل فالتغني والتغزل في المرأة (الكسولة ، السمينة ، المثقلة بالحلي والذهب ) صار مثاراً للتندر والضحك !! ـــ مع استثناء كثير من اغاني الحقيبة التي تغني للجمال والطبيعة، مثل اغنية الضواحي للراحل الفنان خليل فرح،
الأستاذ الراحل/ محمد ورديّ سليل ثقافة عريقة تمجّد وتبجّل المراءة في حراكها الأنساني/ الأجتماعي مع الرجل ، فالبيئة والتراث النوبي يحترم المرأة العاملة ومشاركتها للرجل في الزراعة والحصاد وكل ضروب الحياة . إضافة لثقافته المكتسبة من خلال ميوله الفكرية التقدمية وإنتمائه الباكر لأول حزب يفتح عضويتة للمرأة السودانية ، وناضل معها كتف بكتف حتي انتزعت حقوقها المدنية ــ حق الأجر المتساوي للعمل المتساوي وحق الإنتخاب والترشيح والعمل في السلك القضائي ــ كل تلك الخلفيات والمرجعيات التراثية والفكرية والثقافية ، قادت فكره الفني والأبداعي لرسم تلك اللوحة الزاهية الجميلة للمرأة السودانية وتجلت تلك الصورة الباهرة السطوع في كلمات وألحان وموسيقي وابداع الرائع الجميل/ ورديّ .
ففي رائعته التي غنّاها في منتصف ستينات القرن الماضي :ـــ
(سـودانية تهـوي عاشق ود بلــد
في عيونا المفاتن شي ما ليه حد
الأغنية سياحة فنية ابداعية في ربوع الوطن الكبير. بتاريخه وجغرافيته الغني بتعدد ثقافاته ومناخاته و سماحة وطيبة أهله وجمالهم والتي بالضررورة المرأة/ الحبيبة جزء لايتجزاء من هذا الفيض الجمالي الأسر . تتجلي روعة الأغنية في أنها نقلة نوعية في مسار الأغنية السودانية ونقلتها من (تعداد مفاتن جسد المرأة) الي التغني بجمال ومفاتن وجمال الوطن والتغزل في سماحة أهله و مسلطة الضوء علي (تعدد) الألحان والأيقاع والموسيقي والرقص في مختلف أقاليم الوطن مع (الوحدة) والتي هنا هي المرأة/ السودانية التي تهوي عاشق ودبلد.
السمبلاية ثورة الأغنية العاطفية
ورديّ في ثنائيته الخالدة مع شاعر الشعب الأستاذ/محجوب شريف ــ متعه الله بالصحة والعافية ــ أعادا تأسيس او دوزنا مخيلة ووجدان الشعب السوداني علي أسس جديدة للعلاقة بين الرجل والمرأة او العلاقة العاطفية بينهما والتي أساسها حب الجزء من حب الكل او العكس صحيح ، فأغنيات : جميلة ومستحيلة ، أحبك أنا مجنونك ،و وردة صبيّة هي ترسيخ لتلك المعاني والمفاهيم في المخيلة والوجدان السوداني ، وصارت المرأة هي الوطن /القضية وهذا شرف باذخ للمرأة السودانية ،وإرث مجيد في مسيرتها القاصدة للتحرر والإنعتاق . الأغنيات السابقة كانت (انتقالية) فرغم غناها بالمفاهيم الجديدة التي ذكرناها إلا انها لم تتخلي عن القديم فنجد جمال العيون ...الخ ، اما الأغنية الثورة فهي : السنبلاية :ــ
يوم ما عرفتك اخترتك سعيدالبال
لا جيتك قبيلة ولا رجيتك مال
ولا مسحور
ويوم ما كنتَ في عيني أجمل من بنات الحور
لاحظ يوم ماعرفتك !! لم يقل او لم يقولا : يوم ماشفتك !!
تجاوزت الأغنية مفاهيم الحب الكلاسيكي (نظرة/بسمة فلقاء) الي مستوي (المعرفة) وهي أعلي درجات الوعي الأنساني ، فالنظرة الأبداعية تخطت المظهر الي عمق الجوهر . (لا جيتك قبيلة ولا رجيتك مال ) .... ولا مسحور ولاكنت في عيني أجمل من بنات الحور !!
تجاوز وبوعي تام لكل ماهو سائد في الغناء التقليدي ،فما عاد مسحوراً (female) بجمال وسحر المرأة كأنثي
انتقلت الأغنية بنظرتها للمرأة كمرأة لها قضية ولها دور مكمل ومناصف تماماً
.(gender) للرجل في المجتمع
مع ملاحظة أن تاريخ الأغنية سابق لمجمل القوانين والمفاهيم الخاصة بمسألة الجندر وإتفاقيات (سيداو) !!
اللهم ارحم ورديّ بقدر ما أعطي هذا الشعب من فيض روحه السمحة الجميلة ، وبقدر ما وطّن وكّرس لقيم الخير والحرية والعدالة والسلام ، فقد كان جميلاً يحب الجمال .اللهم وفق بنات وأبناء الشعب السوداني لأستلهام ارثه الثقافي/الأبداعي الزاخر، واجعل اللهم فنه قنديل زيت لينير لهن/لهم عتمة الدياجر في دروب سيرهن/سيرهم القاصد نحو الحرية والتقدم والسلام والإزدهار .... اللهم آآميين .
عثمان عبدالله