يدَّعي بعضُ النَّاس أنَّ الإسلام يحتقرُ المرأة ويعتبرُها ناقصة عقل , وبالتَّالي لا ينبغي استشارتها في أيِّ أمر من الأمور , أو تَوْلِيتها أيّ مَنْصب من المناصب ! وحُجَّتُهم في ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : النِّساءُ ناقصاتُ عقلٍ ودِين , وقال : لا يُفلحُ قومٌ وَلَّوْا أمُورَهم امرأة !
لِنبدَأ بقضيَّة ولاية المرأة : روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه , قال : لقد نَفعني اللَّهُ بكلمة أيَّام الجمل : لَمَّا بلغَ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أنَّ فارسًا (أي الفُرْس) ملَّكُوا ابنةَ كِسْرَى (أي جعلُوها ملكةً عليهم بعد وفاة والدها) , قال : لَنْ يُفلحَ قومٌ وَلَّوْا أمرَهُم امرأة . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 6 – ص 2600 – رقم الحديث 6686) .
فالنَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لَم يقلْ إذًا هذه الجملة في خُطبةٍ عامَّة وكَتشريعٍ عامٍّ , وإنَّما كانت تعليقًا منه على حدَثٍ سياسي مُعيَّن , وهو تَوَلِّي ابنة كِسْرَى عَرْشَ المُلْك خلَفًا لِوَالِدها . وقد صدَقتْ توقُّعاتُ النَّبيِّ فعلاً لأنَّ الفُرسَ الذين كانُوا وَقتَها قوَّةً عُظمى تُوازي قوَّة الرُّوم , زال مُلكُهم بعد سنوات قليلة من هذا الحدث .
وحتَّى لو أخذْنا بقَول النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في هذه الحادثة على أنَّه تشريع عامٌّ , فهو لاَ يَمنع المرأة من تَوَلِّي كلَّ المناصِب العُلْيَا , وإنَّما منصب رئاسة الدَّولة فقط , ربَّما لأنَّ هذا المنصب بالذَّات يتطلَّب خشونة أكثر , وحركة دائمة , وأعصابًا من حديد , نظرًا لِتنوُّع المسؤوليَّات , وحِدَّة الانتقادات , وكثرة التَّقلُّبات والهزَّات , فتكون طبيعة الرَّجل أكثر تحمُّلاً لهذه الأشياء .
هذه إذًا كلُّ القضيَّة ! ولو تأمَّلْنا في كلِّ بلدان العالم اليوم , لَوَجدنا أنَّ الغالبيَّة العظمى لِرُؤسائها هم رجال ..
ننتقل الآن إلى قضيَّة نُقصان العقل : روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه , قال : خرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في أضحَى أو فطر (أي في عيد الأضحى أو عيد الفطر) إلى المصَلَّى , فمَرَّ على النِّساء , فقال : يا معشرَ النِّساء , تَصَدَّقْنَ فإنِّي رأيتُكُنَّ أكْثَر أهل النَّار . قُلْنَ : وبِمَ يا رسولَ اللَّه ؟! قال : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وتَكْفُرْنَ العَشِير , ما رأيتُ مِن ناقصات عَقْلٍ ودِين أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الحازم من إحداكُنَّ ! قُلْنَ : ومَا نُقْصَان دِيننَا وعَقْلِنَا يا رسولَ اللَّه ؟ قال : أليسَ شهادة المرأة مثل نِصْف شهادة الرَّجُل ؟ قُلْنَ : بَلَى , قال : فذلك من نُقْصان عَقْلِها , أليسَ إذا حاضتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ ؟ قُلْنَ : بَلَى , قال : فذلكَ من نُقْصان دِينها . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 1 – ص 116 – رقم الحديث 298) .
هذا إذًا هو الحديث الذي لم يَخرج منه بعضُ النَّاس إلاَّ بجملة : النِّساء ناقصاتُ عقل ! فلْنُحاول معًا فَهْمه خُطوة خُطوة :
قال أبو سعيد الخدري رضي اللَّه عنه : خرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في أضحَى أو فطر (أي في عيد الأضحى أو عيد الفطر) إلى المصَلَّى .
فالمناسبة إذًا كانت مُناسبة عيد وفَرح . فهل من المعقول أن يَستغلَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم هذه المناسبة لِيَشتُم النِّساء في وجوههنَّ , ويُنكِّد عليهنَّ فرَحهُنَّ ؟! طبعًا غير معقول ! وقد تحدَّثْنا سابقًا عن أخلاق النَّبيِّ العالية , وعن وِصايته بِحُسن معاملة المرأة , هذا فضلاً عن أنَّه سمح لها بالخروج مع الرِّجال والأطفال لِصلاة العيد حتَّى ولو كانت حائضًا , لِتَفرح معهم بهذا الحدَث السَّعيد .
قال أبو سعيد : فمَرَّ (أي النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم) على النِّساء , فقال : يا معشرَ النِّساء , تَصَدَّقْنَ فإنِّي رأيتُكُنَّ أكْثَر أهل النَّار . قُلْنَ : وبِمَ يا رسولَ اللَّه ؟!
وطريقة الرَّدِّ هذه تدلُّ على أنَّ النِّسوة لَم يغضَبْنَ من كلام النَّبيِّ , بالرَّغم من أنَّ ظاهرهُ ذمٌّ لهنَّ !
لِمَاذَا ؟ طبعًا لأنَّ لهجة النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لم تكُن لهجة غاضِب أو شامِت , حاشَى وكلاَّ , وإنَّما كانتْ لهجةً باسمة , فيها نوعٌ من الدّعابة , الغايةُ منها تَنبيه هؤلاء النِّسوة إلى صِفَة ذميمة مُنتشرة عند الكثير منهنَّ , قد تؤدِّي بهنَّ إلى النَّار إن لم يُصلِحْنَها .
ثمَّ بيَّن لهنَّ هذه الصِّفة , فقال : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وتَكْفُرْنَ العَشِير . بمعْنَى أنَّ الزَّوج لو أحسنَ إلى إحداهُنَّ الدَّهر كلَّه ثمَّ رأتْ منه شيئًا لا يُعجبها , فإنَّها تقول : ما رأيتُ منك خيرًا قطُّ !
ثمَّ تابع النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كلامَه بنَفْس اللَّهجة الباسمة مع الدّعابة , فقال : ما رأيتُ مِن ناقصات عَقْلٍ ودِين أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الحازم من إحداكُنَّ !
ولو كان يُريد فعلاً بهذا الكلام التّنقيص من قدرهنَّ , لقال مثلاً : إنَّكُنَّ ناقصاتُ عقل ودين ! لكنَّه لَم يقلْ ذلك لأنَّه لم يكن يقصدُ إهانَتهُنَّ ولا التَّنغيص عليهنَّ في يوم العيد , ولا حتَّى في الأيَّام العاديَّة . بل لو تأمَّلْنا في قوله : ما رأيتُ من ناقصات عَقْلٍ ودِين أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الحازم من إحداكُنَّ , لَوَجدناهُ في الحقيقة مَدحًا وليس ذمًّا ! نعم , فهو يمدح في النِّساء أنُوثتهنَّ التي تتميَّز بالرِّقَّة والعاطفة والدَّلال , بحيثُ لا يصمد أمامها أشدُّ الرِّجال حزمًا ! وهذا كما يقول أبٌ لابنته مثلاً : عجبًا ! كيف استطعتِ إقناع جدِّك بالذَّهاب معنا , مع أنَّني حاولتُ معه كثيرًا فلم يقبل ؟!
فجاء استفهامُ النِّساء أيضًا هادئًا , يُناسب لهجةَ النَّبيِّ المرحة : قُلْنَ : ومَا نُقْصَانُ ديننَا وعَقْلِنَا يا رسولَ اللَّه ؟
فهُنَّ إذًا لَم يغضَبْنَ , ولَم يَعتبرنَ كلام النَّبيِّ إهانة لهنَّ .
قال : أليسَ شهادة المرأة مثل نِصْف شهادة الرَّجُل ؟ قُلْنَ : بَلَى , قال : فذلك مِن نُقْصان عَقْلِها , أليسَ إذا حاضتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ ؟ قُلْنَ : بَلَى , قال : فذلكَ من نُقْصان دِينها .
ففسَّر لهنَّ النَّبيُّ نُقصانَ عقلهنَّ ودينهنَّ تفسيرًا واقعيًّا , لأنَّه وإن كان يَمزح فهو لا يقول إلاَّ حقًّا ! أمَّا نُقصان العقل , ففسَّره بأنَّه , عند كتابة الدَّيْن , يشهدُ هذه الكتابةَ رجُلان , فإن لم يُوجَد رجُلان , فرجلٌ وامرأتان . وقد بيَّنَّا أنَّ السَّبب في ذلكَ يعود ربَّما إلى أنَّ المرأة ليست لها خبرةٌ مثل الرَّجل في مثل هذا النَّوع من المعاملات الماليَّة . فعند حُضور امرأتين , تُذَكِّر إحداهُما الأخْرى عند الحاجة لذلك .
وأمَّا نُقصان الدِّين : فليس فيه أيضًا ذَمٌّ للمرأة , وإنَّما فيه تخفيفٌ عنها من بعض العبادات ! فقد أعفاها اللَّهُ تعالى في فَترة حيضها ونفاسها من الصَّلاة والصَّوم , إلى أن ينقطع عنها الدَّم , فتقضي حينئذ الصَّومَ ولا تقضي الصَّلاة .
هذه إذًا كلُّ المسألة بخصوص نُقصان عقل المرأة ودينها . ولو كان الإسلام يعتبر المرأة أقلّ عقلاً من الرَّجل , لَمَا كَلَّفها بأعظم وأنبل وأصعب مُهمَّة , وهي تربية الأبناء الذين هم قِوام كلّ مجتمع .
إنَّ العقل نعمة من نِعَم اللَّه , أنعمَ بها على عباده جميعًا , نساءً ورجالاً . وإذا كان النَّاسُ يتفاوتُون في عِلْمهم وذكائهم ورجاحة عقلهم , فهذا لا يعود أبدًا إلى جنسهم , وإنَّما إلى طريقة كلِّ واحد منهم في استغلال هذه النِّعمة .
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم , يُصدِّق كلُّ واحد منهما حديث صاحبه , في قصَّة صُلح الحدَيْبيَة حديثًا طويلاً نأخذ منه ما يلي : فلمَّا فرغَ من قضيَّة الكتاب (أي كتابة عقد الصُّلح) , قالَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لِأصحابه : قُومُوا فانحرُوا ثمَّ احلِقُوا . فوَاللَّهِ ما قام منهم رجلٌ حتَّى قال ذلك ثلاث مرَّات ! فلَمَّا لَمْ يَقُم منهم أحدٌ دخلَ على أمِّ سَلَمَة (زوجته) , فذكَر لها ما لَقِيَ من النَّاس . فقالت أمُّ سَلَمة : يا نَبيَّ اللَّه , أتُحِبُّ ذلك (أي أتُحِبُّ أن يَنْحر أصحابُكَ ويَحْلِقُوا) ؟ اخرجْ , لا تُكَلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتَّى تَنْحَر بُدْنَك (وهي النَّاقة أو البقرة) وتدعُو حالِقَك فيَحلقك . فخرجَ , فلَمْ يُكلِّم أحدًا منهم حتَّى فعلَ ذلك : نَحَر بُدْنَه , ودعا حالِقَه فحلَقه .
فلمَّا رأوا ذلكَ , قامُوا فنحَرُوا . (الجامع الصّحيح المختصر – الجزء 2 – ص 974 – رقم الحديث 2581) .
فأُمُّ سَلَمة هنا أشارت على النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم برأي سديد , فنفَّذه على الفَور , وانْحلَّت المشكلة ! ولو كان النَّبيُّ ينظرُ إلى المرأة على أنَّها ناقصة عقل , لَما أخذَ برأيها في أيِّ مسألة من المسائل . ولكنَّه كان ينظُر إليها حقيقةً على أنَّها كاملة العقل , وكان يتعاملُ معها على هذا الأساس . وقد روى الإمام أحمد في مُسنَده عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , قالَ : كان النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في طريق , معهُ ناسٌ من أصحابه , فلَقِيَتْهُ امرأةٌ فقالتْ : يا رسولَ اللَّه , إنَّ لي إليكَ حاجة (أي أريد أن أتحدَّث إليك في أمر) . فقال : يا أُمَّ فُلان , اجْلِسي في أيِّ نَواحي السِّكَك شِئْتِ , أَجلِس إليكِ . ففعلَتْ , فجلسَ إليها حتَّى قَضتْ حاجتها (أي انتهت من مسألَتها) . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 3 – ص 119 – رقم الحديث 12218) .
بل إنَّ نَبِيَّنا محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كان يتأدَّبُ حتَّى مع الأطفال الصّغار , ويُعاملهنَّ معاملة الكبار . فقد روى ابن ماجه في سننه عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , قالَ : إن كانت الأمَةُ (أي الطّفلة الصَّغيرة) مِن أهل المدينة لَتأخُذُ بِيَد رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فَمَا يَنزعُ يَدَهُ من يَدهَا حتَّى تذهبَ به حيثُ شاءتْ من المدينة في حاجَتها (سنن ابن ماجة – الجزء 2 – ص 1398 – رقم الحديث 4177) .
حتَّى في الجِماع , لَم يَنْسَ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يُلْفِتَ نظَر الزَّوج إلى أنَّ لِزَوجته الحقّ في الاستمتاع به , تَمامًا مثلما يَستمتعُ هو بها . فقد روى أبو يعلى في مُسنَده عن أنَس بن مالك رضي اللَّه عنه , أنَّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال : إذا جامعَ أحدُكُم أهلَه فَلْيَصْدُقها , ثمَّ إذَا قَضَى حاجتهُ قبلَ أن تَقْضِي حاجتَها فلاَ يعجلها (أي فَلْيَنْتَظِر قليلاً ولا يستعجلها) حتَّى تقضي حاجتَها . (مسند أبي يعلى – الجزء 7 – ص 208 – رقم الحديث 4201) .
فهل سَمِعْتِ يا أختي الفاضلة بمثل هذه التَّوجيهات النَّبيلة في أيِّ وثيقة من وثائق حقوق المرأة ؟!