(( الحقيقة أن عفيف لا يبدو في كتابه الأخير هذا كمصور فوتوغرافي وهذه هي مهنته الأولى كما نستقي من المسامرات ولكنه يتألق تماماً كمصور تلفزيوني مزدحم الأجندة يضطر، بحكم انشغالاته، الى اختزان الصور والأصوات معاً في ذاكرة كاميرا شديدة التعقيد استطاع على نحو ماكر الحصول عليها قبل اختراع الذاكرات الرقمية بعقدين على الأقل.
آمل أن يتيح لي هذا المنبر الإعتراف بأن حياة الكائنات الروائية تستهويني بشكل لا أملك معه في كثير من المناسبات سوى مسايرة الحبكة. في احايين كثيرة أكتشف أن عالمنا الكبير هذ، والذي فشلت ثورة الإتصالاتفي أن تجعله قرية صغيرة كما ما برحنا نردد دون مساءلة، لا يعدو على كونه عالماً روائياً تنساب فيه الحكايات بشكل لا متناه وأننا جميعاً شخصيات روائية خيالية نعيش واقعنا الحقيقي لدينا والمتخيل عند الآخرين. حين نحتفل كل عام بعيد العمال ننسى أن هناك من قضوا سبعين عاماً على الأرض ثم غادروها دون أن يحصلوا على ساعة واحدة من العمل بأجر وعلى هذا النسق يمكن أن تولد لدينا آلاف الأمثلة! لا علينا لن يتسع أي وقت للمقارنات وحين نلتقي في حيواتنا القادمة في الجنة إن شاء الله سيتوفر لنا الوقت الكافي للتمتع بالحديث عن حياتنا السابقة على الكوكب الأرضي.
حين نعد الى حياتنا الواقعية/ الروائية الآن أتذكر أن حائط الفصل بين الحقيقي والمتخيل فيها شديد الوهن.في بورتسودان أفعم مرة أحد أصدقائي بجمال مجموعة من الصبايا اللواتي عبرن من أمامنا دون عجلة فتساءل صادقاً (وهيبانا أهن كويبانا) أي هل أنتن بشر مثلنا من الأرض أم كائنات سماوية؟ واسقط في يد الجميع إلا حشرجات صامتة ابتلعها من كان بيننا هنا وهناك. في اسمرا التقيت وصديق بإحدى المقاهي السودانية بفتاتين جميلتين من تلك الكائنات غير الحقيقية وتسامرنا بحيث كانت الحكيات بيننا تنساب كأنها اختزنت منذ ألف عام على ذات النسق الذي حكاه الطيب صالح عن مصطفى سعيد ساعة كانت الأكاذيب تجري على لسانه وساعة الإعتراف بينه وبين سوزان بأن الذي بينهما كان منذ ألف عام. في لحظة فارقة باغتتني أجملهن بأن سألتني عن اسمي ولأن اسمي يحمل هويتي الدينية والثقافية وربما السياسية أيضاً في مدينة صغيرة كتلك فإن عقلي الباطن ألهمني بسرعة الإجابة: قلت لها اسمي بيدرو فيكاريو وهذا أول اسم خطر لي ففغرت الفتاة فاهاً من الدهشة وبالطبع فإن الإسم الذي زعمته لنفسي كان أحد أبطال رواية (سرد أحداث موت معلن).
بالطبع لم يختر عقلي الباطن هذا الإسم بشكل عبثي ولكنه اختاره لسبب خاص لا يمكنني التصريح به هنا. على هذا النحو تختلط حياة كل منا بالواقعي والفانتازي وعلى هذا الأساس المتين نستعيد ثقتنا في الحكي كمحاولة أثبتت جدواها ونجاحها في تحقيق التفاهم بيننا وبين عالمنا وعفيف إذ ينقل لنا مسامراته فإنه يحدثنا بما نعرف وينقل لنا مشاهداتنا ذاتها فننبهر منه ونقول كيف عرف الرجل الغامض هذه الحكايات عنا وعن من نعرف. شخصيات مثل قسم السيد أدفريني، هي شخصيات حقيقية موجودة بيننا في أكثر قرى ومدن السودان الصغيرة لكن أي منا لم يجرؤ على تمجيدها كتابة على هذا النحو الأخاذ الذي حوته مسامرات ما وراء المحيط العفيف ـ اسماعيلية. كي نكون منصفين ينبغي علينا، وهذا ما أفعله، أن نقرأ هذه المسامرات كما يتوجب علينا وكما يشير الينا المعنى من كلمة مسامرة وهو الأنس وإن شئنا أن نكون معجميين أكثر فالمسامرة تعني الأنس ليلاً. وفق هذا يمكننا أن نقرا المسامرات كمزيج من التاريخ والثقافة والفلكلور والأدب والكتابة الصحفية، أي أننا لا يمكننا أن نعتبره شهادات تأريخية وإن كانت تحمل بعض ملامح الشهادات. هي نمط آخر من الكتابة أراد صاحبه أن يفلت به من إسار النمطية فأعطاه اسم (النثر الصحفي).
الحكي طريقة فعالة من وسائل التسامي على الآلام وصياغة الحياة وفق رؤية اكثر فرحاً وتفاؤلاً، وفي مدارس العدالة الإنتقالية ولجان الإنصاف والمصالحة الذي يدعو كثيرون لنقل تجربتها الى السودان يعالج الضحايا آلامهم بالحكايات ويعاقب الجناة، في كثير من المناسبات، عبر الزامهم بسرد حكايات جرائمهم. لقد تهيا لي درس الكثير من تقارير تلك اللجان من جواتيمالا الى جنوب افريقيا وتيمور الشرقية وأغنتني تلك الحكايات وأعادت لي الثقة بأن القص و(المسامرات) يتمتعان بالقدرة، ضمن وسائل أخرى، على علاج بعض تشوهات حياتنا التي يضعها على عجل بعض الأشرار مثل (مبارك الكودة) الشخصية الروائية في مسامرات عفيف اسماعيل. هناك شخص آخر في حياتنا الواقعية اسمه مبارك الكودة وبراءته من الفظائع التي ارتكبها مبارك الكودة الآخر هي مسئوليته وحده وليست مسئوليتنا نحن. والحال كذلك، عليه أن يرفع يده وأن يقول بصوت عالٍ: إنني لست مبارك الكودة الذي يهدد الناس، ويسيء اليهم، ويعذبهم على نحو خسيس وجبان مستغلاً سلطة الدولة،وإن المشار اليه شخص آخر، وعليه فإن الإلتباس الذي قد يبدو هنامردود فقط الى تشابه مؤسف في الأسماء.
كتب عفيف اسماعيل عن زيدان ابراهيم كما لم يكتب أحد من قبل! لكننا مرة أخرى نسعد بقراءة حكاية سمعناها على روايات مختلفة وبأسماء مختلفة. ما حدثنا به عفيف عن زيدان في الحصاحيصا سمعناه عن محمود عبد العزيز في الفاشر، رحمة الله على الراحلين. هل هناك قصص مشابهة في أماكن أخرى عن اسماء أخرى في السودان؟ نعم بالتأكيد! كأن سيف السلطة يريد ان يتوجه مباشرة نحو قلب الشعب فيصيبه بالأسى ويجرح الوجدان كله في مطلق خاطر العالم.
الحكايات تمنح الناس القدرة على التجاوز والصمود. في رواية (غابرييلا: قرنفلة وقرفة) لجورجي أمادو، الراحل العظيم، حاول سليم أن يحمي حبيبته بالحكايات. كان يقص على الناس من حوله أن الناس في بلاد أجداده لا يتسامحون مع الخيانة وإنهم يقتلون من يقترب من خليلاتهم وبعد زمن ما لم يعد الخونة يحفلون بسياج الحكايات الذي شاده حول غابرييلا بقوامها الباهر وابتسامتها الندية وروحها الخلاسية. حين خانته لم يقتل أحداً لكنه صاغ حكاية أخرى لحماية موقفه الجديد بأن خاصمها في العلن وأبقى على حبه المقيم لها في السر. هذه قصة حب باهرة مؤسسة على الحكي! البحار فاسكو موسكوسو دو أراغان في رواية أمادو الأخرى (عودة البحار) أسس اسطورته كلها على الحكايات إذ زعم أنه قبطان كبير وبالرغم من أن الجميع كان يستكذبون حديثه، ويكذبونه، إلا أن الطبيعة ساعدته غذ منحت الصدقية لحكاية واحدة من حكاياته فتم تعميده بطلاً في أعالي البحار!
كانت صديقة أمادو في أيامه الأخيرة وقد نسيت اسمها، تتابع معه حكاياته وقد غضبت مرة حين قرر قتل إحدى شخصياته الروائية. عبثاً حاولت معه أن يسلك طريقاً آخر وحين قتله واستذكرت معه الأمر بعد فترة شعر بالألم وصرخ يا إلهي! هذه القصة أكتبها من الذاكرة وأخشى ان يكون الفانتازي قد تداخل بالواقعي فيها.
ايزابيل الليندي كانت تعالج ألمها الشديد وحزنها اثناء ممارضتها لإبنتها الراحلة (باولا) بالمسامرات المكتوبة وقد أنتجت لنا من خلال ذلك الألم المفجع رواية باذخة التفاصيل وعدتنا فيها بأنها لن تترك حكاية جميلة تفلت أن ترصدها لنا وقد أوفت. (قصتي مع باولا). أعجبتني مجموعة عفيف اسماعيل الأخيرة وأعتقد ان عفيفاً بعد ان تأسس كشاعر كبير، ومسرحي كبير فإنه يشيد لنا عفيفاً آخر على بناء ادبي مختلف هو أدب المسامرات إن صح لنا أن نقول بذلك.
لست في معرض تقديم قراءة عن مجموعة عفيف بقدر ما أحاول التعبير عن حفاوتي بهذا المنتوج البديع، وأعتقد أن أي قراءة نقدية متمهلة ستنفعنا كثيراً نحن محبو الأدب ومحبو كتابات عفيف اسماعيل في النظر بعيون اكثر اتساعاً في الثيمات التي حملتها هذه المسامرات، ولكنني أود الإشارة الى ملاحظتين لافتتين في المسامرات وهي وجود الكاتب كراوٍ في معظم المسامرات مما يعطي المكتوب صدقية (أدبية) ويحقق التواصل الناجح بين الكاتب والقاريء وثانيها اعتزاز الكاتب بشيوعية صاحب المسامرات وهذه ثيمة أود الحديث عنها في سياق آخر لكنني لا أملك هنا سوى أن أقول إن مثل هذه الكتابات تعيد بعض الثقة في الشيوعية ذاتها، وفي بعض قيم اليسار الإجتماعية، وتساهم بشكل ايجابي في إعادة تقديم الشيوعي بعد أن كاد الكثيرون من المنتمين الى المنظمات اليسارية أن يعتقلوه في صورة الفقير المتعالي رث الثياب وقليل الأدب! هذا ليس في السودان وإنما بالمناسبة في الكثير من الأرجاء ومن يريد الضحك فليشاهد شخصية الشيوعي في سلسلة ساينفيلد الأمريكية الشهيرة. صورة الشيوعي في مسامرات عفيف هي الصورة النقية الراقية ولعل (عم علي) هو أحد ملامحها فقط. عم علي الذي يرعى الحرمات، ويحفظ الذمم، ويبذل مصروف أولاده لخدمة حزب الطبقة العاملة هو النموذج المغاير للصورة النمطية التي عمل عفيف على مجابهتها ربما دون تخطيط مسبق.
لدي صداقات كثيرة مع شيوعيين أنقياء وهم يحتملون دائماً غلظتي في نقدهم ويتدبرونها في سياق (النقد الصادر عن محبة). الحصول على صفة شيوعي ليس حدثاً سهلاً ومجانياً! هكذا أقول دائماً، وإنما هو تضحية كبيرة في عالم يزعم كله إن الله سبحانه وتعالى يقف الى جانب اليمين بأصحاب الرساميل فيه والسلفيين والإخوان المسلمين وهذا افتئات لا بد كبير. في هذا النسق الأدبي الرائع يقدم صورة قد تصلح قدوة لمرحلة طويلة لليساري النقي.
شكراُ عفيف أن اتحت لنا هذا )) محمد عثمان ابراهيم / حريات