الكتاب: مجلة «الثقافة» السورية
أصدرها: خليل بن أحمد مختار مردم بك (المتوفى: 1379هـ) وآخرون
الأعداد: 10 أعداد
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد]
راحته وهنائه وينعم بما وهبه الله من غرائز وما حبته الطبيعة من خصال لهو أسعد عيشاً وأهنأ بالاً وأكثر راحة من ذلك العالم الشقي الذي سجن نفسه في دائرة ضيقة من الحياة واستسلم لما تميله عليه عبقريته الكئيبة وفكرته المتأصلة المتجمدة.
العلم نظرية التطور:
ما زالت نظرية التطور، منذ أيام لامارك وداروين وسبنر، تشغل أفكار العلماء والباحثين فيحتدم الجدل حولها أحياناً ثم يهدأ ردحة من الزمن.
لا شك في أن العلم الحديث، القائم على البحث الدقيق والمعرفة العميقة، أصبح اليوم يدعو العلماء إلى التزام منتهى الحيطة والتربص في قبول النظريات وتعميم نتائجها كما كان الحال في القرن التاسع عشر تجاه نظرية التطور.
ولقد كادت نظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي تتزعزع من أسسها في المدة الأخيرة بعد أن عجز البحث العلمي الدقيق عن إثبات وجود تغيرات دائمة متقسمة حسبما تدعي هذه النظرية فإن المشاهدات العلمية لم تظهر لنا سوى تبدلات وراثية فجائية. ورغم أن هذه التبدلات الجزئية تحدث بكثرة نسبية فإن العلماء ظلوا مدة طويلة لا يستطيعون وضع قانون لها يخرجها عن مجرد المصادفة ويشرح كيفية حدوثها وفائدتها في المحافظة على بقاء الذات ثم نشوء الأنواع الجديدة منها على الأقل.
وقد قام أخيراً الأستاذ (فيكتور يوللوس) في برلين يسعى لسد هذه الثلمة بالتجارب العلمية التي أجراها في سبيل معرفة التغيرات الاصطناعية فأن (يوللوس) فحص تأثير الحرارة المتزايدة في بعض الحشرات أثناء أدوار مختلفة من تطورها فوضع مقداراً من الذباب من جنس واحد في صناديق تبلغ درجة حرارتها 35 - 36 ثم نقلها بعد عدة ساعات إلى درجة الحرارة المعتادة وهي (25) سانتيغراداً. حينئذ لاحظ (يوللوس) أن عدد التغيرات التي حصلت تحت تأثير الحرارة كان يقارب (100) بين (50. . . .) في حين أن التغيرات الوراثية تحت الشروط الاعتيادية لا تزيد عن حادث واحد بين (250. . . .) ثم استطاع الأستاذ (يوللوس) في تجاربه هذه أن يتوصل إلى نتيجة ثانية أكبر أهمية وهي زيادة التغير الحاصل تحت تأثير العامل الخارجي في اتجاه معين. فأنه بتكرار زيادة درجة الحرارة استحصل من ذباب قاتم اللون على أنواع جديدة باهتة.
(8/78)
________________________________________
ولما استمر في هذه الطريق تمكن أخيراً من الحصول على نوع جديد من الذباب له عيون صفراء عوضاً عن الحمراء القاتمة. وأغرب حادث من هذا القبيل هو مشاهدة ذباب له عيون بيضاء تكونت تحت تأثير الحرارة بعد التكرار الطويل.
هذه التجارب قد برهنت على أن هناك تطوراً يسير في اتجاه معين وبذلك تم أثبات أحد المبادئ الهامة في نظرية التطور. .
الوراثة وتأثير البيئة:
في مؤتمر علماء الطبيعة الذي عقد أخيراً بمدينة (ويسبادن) ألقى الأستاذ (لانفه) من جامعة (برسلاو) محاضرة عن تكون التوائم وتطور الشخصية قال فيها أن المشاهدات والمباحث العلمية تجعلنا نميل إلى نظرية تأثير الوراثة أكثر من نظرية تأثير البيئة.
لا ينكر (لانفه) أن التربية والبيئة والاقتداء من العوامل ذات الأثر البين في تكوين الشخصية ولكن يجب من جهة أخرى الاعتراف بأن مقدراتنا تابعة في الدرجة الأولى إلى استعدادنا الوراثي من الناحيتين الجسمية والفكرية.
وقد بدأت هذه الحقيقة تظهر جلية في النتائج التي نوصل إليها العلماء من مباحثهم في التوائم. ونذكر بأن هذه المباحث قد اشترك فيها عدد كبير من العلماء في جميع أنحاء المعمور وأن التجارب والمشاهدات أصبحت كثيرة تساعد على الفحص الدقيق والمقارنة الواسعة.
ويمكن القول أن النتائج جميعها تبرهن على أن مقدرات المواليد التوائم الذين ينشئون من (بويضة) واحدة لا تختلف بعضها عن بعض شيئاً في الخطوط الأساسية.
وإذا صرفنا النظر عن بعض الاختلافات الجزئية في الأمور الثانوية البسيطة فإن التشابه أو الاتفاق بين مقدرات التوأمين كثيراً ما يبلغ درجة عجيبة تدعو إلى الدهشة. .
ومما يزيد في إثبات تأثير الوراثة أن الأشخاص التوائم يشبهون بعضهم بعضاً في كل شيء وتتفق مقدراتهم وشخصياتهم حتى بعد التفريق بينهم سنين طويلة ورغم تقلبهم طول هذه السنين في ظروف متباينة وتحت شروط اجتماعية مختلفة كل الاختلاف.
وهناك أمثلة عن تؤمين عاش كل واحد منهما في قارة وفي بيئة اجتماعية مختلفة ثم ظهر أنهما أصيبا بالأمراض نفسها في وقت واحد تقريباً وكانت الأسباب الداخلية لهذه الأمراض
(8/79)
________________________________________
دائماً واحدة.
على أنه يجب الملاحظة بأن هذه المشاهدات لا تنطبق على الأشخاص الذين يولدون سوية فقط بل ينبغي أن يكون التوائم من (بويضة) تناسلية واحدة لأننا في هذه الحالة وحدها نستطيع أن نقول باتفاق العوامل الوراثية أما إذا اختلفت (البويضة) فإنه من الممكن أن نشاهد اختلافات ظاهرة بين التوأمين ولو عاشا في بيئة واحدة وتحت شروط واحدة. . .
وقد استنتج العلماء من هذه المشاهدات أن شخصية الإنسان تابعة للعوامل الوراثية أكثر منها لمؤثرات البيئة والمحيط.
وليست محاولات إصلاح النسل التي تقوم بها حكومة (هتلر) في ألمانيا سوى نتيجة عملية لهذه النظريات.
السيد ممدوح الشريف
توفي خلال شهر كانون الثاني السيد ممدوح الشريف نابغة الخطوط العربية عن عمر يناهز الستة والأربعين، وذلك في المستشفى الوطني بدمشق بداء الرئة الذي لم يمهله إلا أياماً معدودة.
والمرحوم من عائلة عريقة في المجد إذ ينتسب إلى الشريف عون أحد أشراف مكة وكان أبياً، كريماً، تخرج على يديه كثير من الخطاطين، واكتسب الدرجة الأولى في مسابقة وزارة المعارف لانتخاب خطاط للمدارس التجهيزية، وإليه يرجع الفضل في تتبع الخطوط القديمة وتصحيح الخط الديواني والكوفي، وكان يجيد مئة وخمسين خطاً وقد ترك آثاراً فنية قيمة. ونال في حياته الجائزة الأولى الممتازة في الخطوط من معرض الصناعات الوطنية بدمشق عام 1929 كما نال مثل هذه الجائزة من المعرض العربي بفلسطين.
وقد كان مولعاً بالخط ولع الفنان بفنه ولا غرو فإن الخط العربي هو من الفنون الجميلة التي لا تقل قيمة عن الفنون الأخرى.
تحت سماء دمشق
إذا ذكرنا فقر هذه البلاد في كل شيء وقلة المناصرة التي يلاقيها أصحاب الفنون، والعراقيل التي تعترض سبيلهم فتمنع تجويد العمل وإتمامه على الوجه المرغوب. وإذا ذكرنا أن دمشق لا تزال بعيدة عن المساهمة في رقي العالم الفني - لم يسعنا إلا التهليل
(8/80)
________________________________________
لكل عمل يدرأ عن هذه البلاد وصمة التأخر. ولهذا نرحب بالفيلم السينمائي الصوتي الذي أخرجته - لأول مرة في تاريخ هذه البلاد - شركة هليوس فيلم السينمائية السورية المؤلفة من الشباب المثقف وعلى رأسهم السيدان عطا مكي وفريد جلال.
تحت سماء دمشق مأساة تدور حول موضوع اجتماعي هو تصوير الشباب المنغمس في الموبقات حتى الآذان، وآلام المرأة السورية في حياتها الزوجية. إلا أنها ملأى بالوصف الطبيعي لأشهر متنزهات دمشق وشوارعها وحاناتها، وهي من حيث الإخراج والتمثيل تستحق المدح لأنها أول ثمرة من نوعها. زد على ذلك الموسيقى التي تبهج القلب.
لقد لحظنا النقص الموجود في أخذ المناظر وترتيبها وتظهيرها ولحظنا ما يثير ختام الرواية من المفاجآت اللذيذة بعد ذلك الانتظار الطويل الممل والحيرة المؤلمة التي تستولي على المشاهد حتى ليكاد أن يغمض عينيه، ولحظنا البرودة في بعض الممثلين، ولكننا نغتفر ذلك وغيره في جانب الجهود الجبارة التي بذلها القائمون بالرواية والتي تدل على النشاط والإدارة والتضحية.
ونأمل أن تتابع شركة هليوس فيلم أعمالها لتكون رواياتها الجديدة أكثر اتقاناً ورقياً سواء في الإخراج أو التمثيل أو انتقاء المواضيع التي توافق النهضة السورية.
(8/81)
________________________________________
العدد 9 - بتاريخ: 15 - 4 - 1934
(/)
________________________________________
اللغة والثقافة
بقلم الدكتور جميل صليبا
أقامت مجلة الثقافة للمستشرق الأستاذ لويس ماسينيون أثناء مروره بدمشق حفلة علمية ألقى فيها حضرته خطاباً عن اللغة العربية والثقافة جاء فيه أن تحديد معاني الألفاظ ونشر الاصطلاحات العلمية هو خير عمل تستطيع المجلات أن تقوم به لإبداع لغة ثقافية يتفهم بها الكتاب المعاصرون لأن اللغة العربية الحاضرة لا تزال تركيبية، فمن الضروري أن تنقلب إلى لغة تحليلية يكون بها لكل كلمة معنى يستغنى به عن الشرح بعبارة طويلة. فاللغات التركيبية تعبر في الغالب عن المعاني بعبارات طويلة لا يتم الإفهام بها إلا من سياق الكلام، ولكن اللغات التحليلية تعرف الألفاظ تعريفاً واضحاً فنستغني في الدلالة بها عن الجمل الطويلة. واللغة العربية الحاضرة قد أخذت تتصف بهذه الصفة تحت تأثير الكتاب والعلماء المتأخرين وسعيهم لتحديد معاني الألفاظ، إلا أنها لا تزال في دور انتقالي فلم توفق بعد إلى إيجاد جميع الاصطلاحات العلمية الحديثة ولم يتفق التراجمة بعد على الاصطلاحات التي اخترعوها. وكثيراً ما يحتاج القارئ في فهم بعض الكتب المترجمة للرجوع إلى اللغات الأجنبية، فإنك إذا قرأت كتاباً مترجماً عن اللغة الفرنسية أو الانكليزية مثلاً صعب عليك فهمه على حقيقته دون الرجوع إلى لغته الأصلية وخصوصاً إذا كان المترجم غير أخصائي بالفن كالموظفين الذين يترجمون التقارير أو البرامج في الدوائر الرسمية. ولا تخرج اللغة العربية من هذا التشويش إلا إذا وفق المترجمون إلى اصطلاحات علمية واحدة واستطاع القارئ أن يفهم المباحث العلمية من غير أن يرجع إلى الأصل الفرنسي أو الألماني أو الانكليزي. . . . .
وقد ذكر الأستاذ أموراً كثيرة غير هذه خالص زبدتها ما أعدت هنا. ولو استطعنا أن نتذكر كلامه كله لأثبتناه بالحرف لأنه صواب وحق فنقتصر إذن على إكمال البحث ببيان ما خطر لنا في علاقة اللغة بالثقافة.
1 - علاقة اللغة بالثقافة
إن علاقة اللغة بالثقافة قوية جداً. لأن وحدة اللغة إنما تنشأ في الغالب عن وحدة الثقافة. ولا يمكن المحافظة على وحدة اللغة إلا بتوحيد الثقافة بين مختلف الطبقات والمناطق. والسبب
(9/1)
________________________________________
في ذلك أن المعاني تؤثر في الألفاظ فتبدل استعمالها وتغير دلالتها، لأنها متصورة في الأذهان ومتخلجة في النفوس قبل تكون الألفاظ وكثيراً ما نفكر ولا نجد الألفاظ التي نستطيع الدلالة بها على أفكارنا. فالمعاني، كما يقول الجاحظ، مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية. أما أسماء المعاني فمتصورة معدودة ومحصلة محدودة واللفظ لا يدل إلا على جزء مما هو قائم في الصدر من المعاني حتى لقد يضيق نطاق اللغة عن التعبير عما يخالج النفس من الصور والأمثال، وكثيراً ما نستدل على أفكار الأشخاص وعادات العصور وأخلاق الشعوب بالألفاظ التي يستعملونها. وكلما كانت المعاني أكمل وأشرف كانت الألفاظ أبين وأنور. فالألفاظ ليست كما زعم (دوبونالد) سابقة للمعاني، بل هي تابعة لها.
ولو كانت الألفاظ أسباب المعاني لما فكر الإنسان إلا إذا تكلم. ولكننا نعرف بالتجربة أننا نفكر من غير أن نتكلم ونعرف أيضاً أن هناك كلاماً داخلياً تختلط فيه حدود الألفاظ. فكأن الألفاظ واسطة لا غاية أو كأنها جسر نعبره من غير أن ننتبه إلى جميع أجزاءه.
نعم أن الألفاظ تؤثر في المعاني لأن مدار الأمر في اللغة ليس الفهم فقط بل الغاية هي إفهام السامع. وهذه الحاجة إلى الإفهام تغير من حالة الفكر الأولى. فالألفاظ تثبت المعاني في الأصل كثيرة الانبساط قليلة الثبوت. وقد قال هاميلتون إن الألفاظ حصون المعاني لأنها تجزيء الفكر وتحدده وتحلله وتجعله واضحاً وكثيراً ما توحي بالصور والأمثال والأفكار فيصل الكاتب بواسطة الألفاظ إلى غير ما أنبأ به فكره. ونحن لا ننقل إلى السامع كل ما تختلج به نفوسنا بل نرجع إلى الألفاظ. ونغربل بها معانينا وفقاً لما يقتضيه الحال لأنني حينما أتكلم لا أتكلم للتفاهم مع نفسي بل للتفاهم مع مخاطبي. وهناك ألفاظ فارغة وهناك ألفاظ مليئة. إلا أن غاية الثقافة هي إحياء المعاني في أذهان المتعلمين لا حشو ذاكرتهم بالألفاظ. خير للإنسان أن يكون كثير المعاني قليل الألفاظ من أن يكون قليل المعاني كثير الألفاظ. فاللغة هي أذن واسطة لا غاية. وهي بالجملة معلول لا علة، ولكنها إذا تنظمت صارت هي أيضاً علة. نعم؟ أنها تؤثر في الثقافة بتثبيت المعاني وتحليل الأفكار وإبداع الصور والأمثال إلا أنها لا تحيا إلا بما تشتمل عليه من المعاني وتتحلى به من الأفكار. ولذلك كان ارتقاء العلوم والآداب والفلسفة وقوة المثل الأعلى والإيمان القومي، كل ذلك
(9/2)
________________________________________
باعثاً على أحياء لغلت الأمم وانتشارها.
واللغات لا تنمو ولا تنتشر إلا إذا ارتقت الحضارة. فقد تزول العناصر السياسية التي نشرت اللغة إلا أن اللغة تبقى بعد زوال العناصر السياسية هذا إذا كانت الثقافة التي تشتمل عليها ثقافة عالية. إن اللغة اليونانية لم تنقرض بالفتح الروماني بل بقيت مستقلة، لأن ثقافة اليونان كانت أعلى من ثقافة الرومان وكان الرومانيون يستقون من ينابيعها أصول حضارتهم. واللغة العربية لم تنقرض بالفتح التركي وزوال سلطان العرب لأن ثقافة العرب أعلى من ثقافة الترك ولأن الأتراك أخذوا عن العرب مبادئ دينهم وأصول علومهم ووحي أدبائهم وشعرائهم، وكذلك اليهود الذين هاجروا من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية فأنهم حافظو على لغتهم لأن ثقافتهم كانت أعلى من ثقافة البلاد التي هاجروا إليها. ولولا ثقافة اللغة العربية لما استطاع السوريون الذين هاجروا إلى أميركا أن يحافظوا على لغتهم بالرغم من العوامل الخارجية التي تحملهم على استبدالها بغيرها. فاللفة لا تبقى إلا إذا كانت تشتمل على ثقافة عالية. نعم إن هناك لغات ثقافية قد انقرضت كاللغة البابلية واللغة المصرية إلا أن العوامل التي أثرت في انقراضها تابعة لأسباب تاريخية عديدة منها استبدال الحضارتين البابلية والمصرية بحضارة اليونان وحضارة العرب ومنها بعض الوقائع التي محت كثيراً من آثار الأقدمين ذلك من الأسباب التي لا يمكن ذكرها هنا. فالثقافة قد تبقى إذن بالرغم من زوال العوامل التي ولدتها. ومن الصعب محو اللغات ذات الثقافة العالية لأنها ذات مقاومة خاصة. قال ميله: تمتاز اللغة العربية في الجزائر الخاضعة لحكم الفرنسيين بكونها لغة كبيرة من لغات الحضارة. ولذلك فهي تتغلب على لغة البربر، أعني لغة سكان البلاد القدماء، تلك اللغة التي لا يمكن كتابتها وليس لها آداب. أن تقدم الحضارة يجعل اللغة العربية قوية بالرغم من أنها ليست لغة الشغب الحاكم. إن العرب لم يميلوا أبداً، أيان كانوا، إلى هجر لغتهم فلم يستبدلوا في الدولة العثمانية لغتهم بلغة الترك ولا عدلوا عنها في تونس ومصر إلى اللغتين الفرنسية والانكليزية. إن مقاومة اللغة العربية وانتشارها هما اليوم أيضاً قويان جداً
2 - اللغة العربية لغة ثقافية
اللغة الثقافية هي اللغة التي يمكن التعبير بها عن المسائل العلمية والفنية والفلسفية
(9/3)
________________________________________
باصطلاحات مفهومة من أهل اللغة أنفسهم لأنها تشتمل على ثروة من العلم والأدب والفلسفة. فاللغة العربية بهذا المعنى لغة ثقافية لأنها غنية بالألفاظ والمعاني. وفي كتبها القديمة من العلوم والآداب ما ليس يوجد في كثير من لغات العالم. فقد ترجمت آثار الأولين من اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية في الصدر العباسي حتى أصبحت لغة ثقافية كبيرة وصار في وسع كل عالم مهما كان جنسه أن يجعلها لغة تفكيره وإبداعه. فحفظت فيها علوم الأوائل وصارت منبع الثقافة ومفتاح العبقرية حتى القرن السادس عشر، لا يطلع طالب الفلسفة على علوم الأوائل وفلسفتهم إلا إذا استكملت ثقافته بها. وهي لغة اشتقاق يسهل على المترجم أن يجد فيها ما يحتاج إليه من الألفاظ كاللغة اليونانية واللغة اللاتينية، على عكس اللغة التركية الجامدة التي لا يمكن أن يصاغ منها اسم أو فعل إلا بإضافة بعض السوابق واللواحق على المادة الأصلية فالمادة في التركية لا تتغير بتصريف الفعل بل تبقى جامدة. وإذا صح انقسام اللغات بنوع من القسمة إلى هجائية كالصينية وجامدة كالتركية واشتقاقية كاليونانية كانت اللغة العربية من هذا النوع الأخير الذي يمكن اعتباره أرقى من النوعين السابقين فليس في اللغة ما يمنعها إذن من إيجاد الاصطلاحات العلمية الحديثة لأنها لغة اشتقاق مجردة يمكن التوسع فيها بالقياس. إلا أن سهولة الاشتقاق جعلت كل مرتجم ينحت لنفسه اصطلاحاً يختلف عن الألفاظ التي وفق إليها غيره. المثل الأعلى في اللغة أن تكون الألفاظ مبسوطة على قدر المعاني.
واللغات أما أن تكون غنية وأما أن تكون فقيرة، فإذا كانت غنية كانت ألفاظها لا تقل عن المعاني أو تزيد عنها وإذا كانت فقيرة كانت ألفاظها أقل من معانيها.
فاللغة العربية من اللغات الغنية غير أن كثرة ألفاظها المترادفة واشتراكها في الدلالة على المعاني المتشابهة وعدم تقيد الألفاظ بالمعاني، كل ذلك جعل الدلالة بها على المعاني العلمية المعرفة قليلة الوضوح، لأنك تستطيع أن تطلق على المعنى الواحد ألفاظاً مختلفة. وتجد المترجمين اليوم يستعملون للدلالة على المعنى الواحد ألفاظاً عديدة فلا تدري وأنت تقرأ بعض ما نقلوه أين تبتدئ حدود دلالة اللفظ ولا أين تنتهي فالسوري إذا ترجم أو ألف كتاباً في الطبيعيات يكاد لا يفهمه المصري إلا إذا ألف اصطلاحاته.
انظر إلى كلمة إن بعض المصريين يترجمها بالعقل الباطن وبعضهم يترجمها باللاوعي
(9/4)
________________________________________
ونحن نطلق عليها اسم اللاشعور. وهذه كلمة نحن نترجمها بالحدس وغيرنا يستعمل في الدلالة على معناها كلمة الا كتناه أو غير ذلك من الألفاظ. وهذه أيضاً كلمة وكلمة وكلمة وكلمة تكاد تجد لكل منها في لغتنا الحديثة أكثر من أربع كلمات فهل يمكن التفاهم بين العلماء إذا بقى الحال على هذه الصورة. وإن وحدة اللغة تنشأ كما قلت عن وحدة الثقافة وأقول أيضاً إنه من الضروري توحيد اصطلاحات اللغة لتوحيد الثقافة. لا يمكن تأسيس العلم إلا إذا أثبتت الاصطلاحات العلمية. هل يمكن الثقة والأمان برياضي يستعمل في دساتيره (س) بدلاً من (ق) و (ق) بدلاً من (س) أو يستعمل الأول مرة والثاني مرة للدلالة على الحد نفسه. لقد تباحثنا مع الأستاذ المسيو لويس ماسينيون في ترجمة قولهم فاقترح أحدنا ترجمتها بامتحان الضمير واقترح آخر ترجمتها بمحاسبة النفس.
وربما كانت الترجمة الأخيرة أحسن من غيرها إلا أنك لا تستطيع أن توقف باب الاجتهاد في وجه المترجمين إذا بحثوا عن اصطلاح آخر ما دام الاصطلاح لم يثبت المعنى بعد. أن خير وسيلة لإيجاد الاصطلاحات في مباحث علم النفس هي الرجوع إلى كتب الصوفية ولكن أكثر الذين ينقلون كنب الفلسفة وعلى الأخص كتب علم النفس يجهلون الفلسفة العربية عامة وكتب الصوفية خاصة. ومن سوء الحظ أيضاً أن قسماً من كبيراً منهم لم يعرف أسرار اللغة العربية كما أن أكثر علماء اللغة لا يعرفون اللغات الأجنبية. فنخن حينما نترجم نفتش عن الألفاظ للدلالة على المعاني فلا نجدها. وكثيراً ما نكتب باللغة العربية ونفكر باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. فقد نلبس المعنى لفظاً مزيفاً لا يدل عليه أو يدل على غيره وقد نشتق لفظاً جديداً لا وجوداً له في لسان العرب وقد نبدل اصطلاحاتنا من غير أن ندري ويكاد يكون الإبداع في مباحثنا العلمية والفلسفية مقصوراً على تثبيت اللغة العلمية وتحديد اصطلاحاتها. وهذا أمر لابد منه لأن العلم لا يتم إلا إذا تحددت دلالات الألفاظ وقد قال (كوندياك) ليس العلم إلا لغة مرتبة. وعلى قدر كمال اللغة يكون كمال العلم.
إن اقتصار الإبداع في مباحثنا العلمية الأولى على تثبيت الاصطلاحات أمر ضروري ولابد لكل نهضة حديثة من المرور بدور الترجمة، هذا إذا أرادات أن توسع نطاق علومها حضارتها. والنقل في تاريخ الحضارة يسبق بالجملة الإبداع كما أن المعلم يسبق العالم.
(9/5)
________________________________________
والسبب في ذلك أن جهود المترجمين تتوزع بين المباني والمعاني فينصرفون إلى الألفاظ أكثر من انصرافهم إلى الأفكار وهذا أمر ضروري لا محيد عنه. إلا أن حركة الترجمة لا تزال بطيئة وهي في الغالب غير منظمة لأن كل كاتب يترجم ما يروق له ما هو ضروري لثقافتنا الحديثة. إن هناك كتباً ليس من شأن الأفراد أن يقدموا على ترجمتها. ولم توفق لجان الترجمة والتي تشكلت في بعض بلدان الشرق العربي إلى انتقاء أحسن الكتب، وحركتها لا تزال مشوشة. وربما كان توزع العمل بين مختلف الأقطار العربية وارتكازه في الغالب على جهود الأفراد، وعدم تنظيم الحركة الفكرية من الأسباب التي زادت التشويش والالتباس في الاصطلاحات العلمية. أن ترجمة الكتب في عصر الرشيد والمأمون كانت منظمة متمركزة، ولذلك كانت الاصطلاحات العلمية التي وفق إليها تراجمة ذلك العصر أقرب إلى الوحدة من الاصطلاحات التي اخترعناها الآن.
لقد كانت اللغة العربية في الماضي لغة ثقافية عظيمة وكانت كما قلنا خزانة العلم والفلسفة ومن السهل علينا أن نعيد لها هذه الصفة بنقل أصول الثقافة الحديثة إليها. إلا أنه من الواجب على المترجمين أن يتفقوا على الاصطلاحات العلمية ومن واجب المجلات أن تعمل على نشر هذه الاصطلاحات وتعميمها.
قال لي أحد المستشرقين مرة إن بعض علماء الغرب يعتقد أنه ليس بالإمكان تدريس الفلسفة باللغة العربية. قلت إن ذلك ممكن ودليل إمكانه حصوله. نعم إن النصوص الفلسفية لا يمكن تدرس باللغات الأجنبية ولكن ذلك أمر مؤقت لأن هذه النصوص يمكن أن تنقل إلى اللغة العربية وحينئذ تدرس بها كغيرها. فاللغة العربية الحديثة لا تصبح لغة ثقافية إلا إذا ترجمت إليها جميع أصول الثقافة الحديثة واهتدى المترجمون إلى الاصطلاحات الصحيحة وتوحدت اللغة العلمية في جميع بلدان الشرق العربي.
ويمكننا أن نذكر هنا بعض الأسباب التي أخرت هذه الوحدة.
1 - عدم استعمال اللفظ بمعنى واحد. أن المترجم نفسه لا يتقيد بالاصطلاحات التي استعملها فتجد للاصطلاح الواحد في كتابته معنيين أو ثلاثة.
2 - عدم تثبيت دلالة اللفظ. إن الكاتب إذا لم يعرف لفظه فلا تخلو كتابته من الغموض والالتباس.
(9/6)
________________________________________
3 - تعلم الألفاظ قبل فهم المعاني الدالة عليها.
4 - عدم اتفاق المترجمين على الاصطلاحات العلمية وربما كان هذا الأمر ناشئاً عن توزع الجهود وتبعثرها وفقدان التنظيم والتعاون.
5 - تكلف المترجمين إيجاد اصطلاحات جديدة من غير حاجة إليها.
6 - تعصب بعض الكتاب للاصطلاحات التي اهتدوا إليها بالرغم من قناعتهم بفسادها.
7 - جهل بعض المترجمين اللغة العربية.
8 - عدم اختصاص بعض المترجمين بالعلم الذي ينقلونه، وضعف ثقافتهم العامة.
وربما كان حصر هذه الأسباب في مقال واحد صعباً جداً. ونحن لم نقصد من ذكرها هنا إلا دفع المترجمين إلى التعاون لإيجاد اصطلاحات علمية موحدة ولا يتم ذلك إلا بالخروج من نطاق حياتنا الضيق واقتباس الكتاب بعضهم من بعض وتنظيم حركة الترجمة على أساس مشترك وتنشيطها بجميع الوسائل الفعالة فإن هذا العمل خير عمل يستطيع الجيل الحاضر أن يقوم به لإيجاد لغة ثقافية تحفظ العلم وتهيئ للأجيال المقبلة سبيل الإبداع.
جميل صليبا
(9/7)
________________________________________
المرأة والتفكير
إذا تزوجت يا (هرماس) بامرأة بخيلة حفظت لي مالي، وإذا تزوجت بطروبة أغنتني وإذا تزوجت بعالمة علمتني، وإذا انتخبت عاقلة لم تغضب علي، وإذا اقترنت بغضوبة تعودت معها الصبر، وإذا تزوجت بمغناج رغبت في رضاي، وإذا أحببت أديبة لطيفة ربما تلطفت بي ورقت لحالي ثم أحبتني. ولكن أجبني يا (هرماس) ماذا أفعل بالمرأة التقية التي تخدع الله وتخدع نفسها.
(لابرويه ر)
95)
علموا الفتاة أن تكون معتدلة في القراءة وأن تفضل عليها الأشغال اليدوية. القراءة تضر الفتاة أكثر مما تنفعها.
(مدام دومنتنون)
لا يقل ذكاء المرأة عن ذكاء الرجل. ولكنها أقل منه شعوراً. إذا كان في المرأة ما قلّ نموه من ملكات النفس فليس هو العقل بل الحساسية. والمقصود من الحساسية الحساسية العميقة، لا الهيجان السطحي والاضطراب الظاهر.
(هنري برغسون)
ينبوعا الأخلاق والدين ص41
(9/
________________________________________
الديمقراطية الحديثة في أمريكا
بقلم الأستاذ شاكر العاص
إن مدلول الديمقراطية آخذ بالتبدل والانحراف وهذا مما يزيد بحثها أبهاماً وتعقيداً وخصوصاً أنها تعني في الأصل أشياء كثيرة متنوعة. فالمبادئ العامة التي أقرتها والنظام الذي وضع خصيصاً لإبرازها لحيز العمل والتطبيق هي موضع بحث ونقد شديد. وقد اتخذت النتائج التي حدثت بعد تطبيقها خلال قرن ونصف معياراً للتمييز بين الجيد والخبيث فيها. ولم يقف بحث الديمقراطية وقد وضعت على مائدة التشريح عند هذا الحد بل تناول الأسس والنظريات الفلسفية التي قامت عليها حتى الآن. وقد ظهرت هذه الأسس بعد البحث بالية وهي التي لم يخامر الشك بها صدور الباحثين حتى عهد قريب وإنها غير قادرة على حمل البناء القائم عليها.
الديمقراطية في الواقع نسيج حاكه التطور الاقتصادي والتوازن الجديد الناتج عنه بين مختلف القوى الاجتماعية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فهي من وجهتها الفعلية تحقق شيئين الرأسمالية الطليقة والحكم الشعبي. ولتحقيقهما أقرت الديمقراطية المبادئ العامة المعروفة: الحرية والمساواة وصيانة الحياة والملكية وحرية المقاولات. وجعلتها دليلاً ينقاد إليه المشرعون ومن ينتهي إليهم الأمر. وأحدث النظام التمثيلي ليتسنى للشعب ممارسة السلطة التي وضعت فيه.
الحملات القائمة اليوم على الديمقراطية شديدة سواء في أوروبا أو في أمريكا ولكنها في الأولى أكثر شدة وعنفاً. ولكن هذه الحملات غير موحدة القيادة مختلفة في الغاية. فهي في الواقع هجمات على مواطن معينة في الديمقراطية يستهدف بها المهاجمون ما يحسبونه موطن ضعف فيها. ويقوم بهذه الحملات من لا يدينون بالديمقراطية بمعناها العام وهو أن الشعب مقر السلطات. أو الذين لا يقبلون بعض مبادئها العامة كصيانة الملكية وحرية المقاولات. ويطعن هؤلاء بالناحية الاقتصادية من الديمقراطية والنظام الرأسمالي الذي تحميه. فهم يرون أن الرأسمالية الطليقة سخرت المبادئ والأنظمة الديمقراطية لتحقيق أغراضها ومآربها وإنها تعمل عملها التخريبي في المجتمع تحت ظل القانون وحماية الدولة. والقائمون بهذه الحملة هم ما يطلق عليهم أجمالاً اسم الاشتراكيين في أوروبا على
(9/9)
________________________________________
اختلاف صبغاتهم وغاياتهم ويسمونهم راديكاليين في أمريكا. وأمضى سلاح يستعمله هؤلاء هو الماركسية الصحيحة أو المحرفة أو النظريات التي تقرب منها وأهم ما تتصف به حركتهم إذا استثنينا الشيوعيين هو تمسكها بالشكل الديمقراطي السياسي أي التصويت العام والبرلمان.
أما الذين يحاربون فكرة الديمقراطية ولا يرونها صالحة لحياة الشعوب فهم فئات خلقتها ظروف ما بعد الحرب يمثلها الآن الفاشستية الايطالية والاشتراكية الوطنية الألمانية وقد نشأت هذه الجماعات منذ تكونها نشوءاً ثورياً أي أنها تؤمن بالعمل المباشر ولا تتقيد بالقوانين والأنظمة العامة إلا حينما ترى فيها معيناً على تحقيق أهدافها. وحملتها على الديمقراطية شديدة جداً كما هو معروف. لا تقر فائدة التمثيل الحاضر بل ترميه بالفساد والانقياد لتحقيق المطامع والغايات الشخصية وتتهمه بالعجز عن حسن إدارة الشؤون العامة وخصوصاً عن القضاء على الماركسية الرهيبة التي تهدد حقاً كيان النظام الاجتماعي الحاضر. وسلاح هذه الحملة بعض المبادئ الفكرية كالقومية وإقرار مبدأ التمييز بين الأجناس وبين الطبقات. وبالرغم من كون هذه الحركة فكرية فهي لا تهمل الناحية الاقتصادية في برامجها وأعمالها وتصرح بمحاربة الرأسمالية الطليقة ولكنها في الواقع تحتفظ بجوهرها وهو صيانة الملكية الشخصية كما تحتفظ بمبدأ حرية المقاولات وأن كانت ترمي لتنظيمه.
إن مهاجمة الأنظمة الديمقراطية ضعيفة في الوقت الحاضر في أمريكا ولكن هناك نقمة تكاد تكون عامة على بعض الأصول الإدارية وعلى زمرة السياسيين أجمالاً. فالسياسة والسياسيون موضع ازدراء واحتقار كالاحتيال والمحتالين. وهذا الحادث يكاد أن يكون أمريكياً بحتاً ولا تصعب معرفة أسبابه على من عرف شيئاً عن حياة الأمريكيين العامة. فالواقع أنهم أخفقوا أخفاقاً شديداً في ممارسة الحكم والسياسة والإدارة. فلم يستفيدوا من ذلك شيئاً من أمهم انكلترا حيث بلغت هذه الصناعة الأوج في الإتقان والدقة وتفوق الأمريكيون تفوقاً لا يجارى في ممارسة الأعمال الصناعية والمالية على وجه عام. وقد خلق نجاحهم هذا ثقة في نفوسهم لا يوازيها غير ثقة الانكليز الناتجة عن نجاحهم في صناعة الحكم والدولة. إن نجاح رجال الأعمال في أمريكا ترك أثراً عميقاً في الديمقراطية الأمريكية إذ
(9/10)
________________________________________
تكيفت لتسهل النجاح في هذا المنحى. وسار الشعب وراء ملوك المال بلا تحفظ ولا تردد مندهشاً بما أحرزوه من ثروات هائلة مؤمناً بكفاءتهم ومقدرتهم الخارقة. لم يباشر هؤلاء الملوك الحكم بأنفسهم بل اكتفوا بشراء رجال السياسة وتسخيرهم فيما يريدون فاتقوا بذلك سخط الشعب واحتفظوا بإعجابه وتكريمه. وحرص رجال السياسة على ما اكتسبوه من سلطة وعملوا على توطيدها وأساءوا للشعب يحميهم جيش من المرتزقة والأتباع. أن تسلط رجال السياسة واستفحال شرهم دهراً طويلاً دون أن يحرك الشعب ساكناً ضدهم لغز يصعب علينا فهمه. ولكن الغرائب غير مستغربة في أمريكا. فشعبها النشيط منصرف لأعماله لا يعبأ بالسياسة ولا يعيرها اهتماماً. أما ملوك المال فلم يروا فائدة كبرى بالضرب على أيدي المسيئين وقد صرح أحد قادتهم في نيويورك بأن شراء هؤلاء الإماقيين أو دفع جزية لهم لاتقاء شرهم هو أقل ما ينبغي أن ينفق من المال لطردهم والقضاء عليهم.
إن هذه النقمة على رجال السياسة امتدت منذ عهد غير بعيد حتى أحاطت بملوك المال. ولكنها تتعلق من حيث الهدف بالفروع والتطبيق ولا تلمس الأصول والمبادئ العامة. أما الحملة الحقيقية فتستهدف النظام الاقتصادي المتقمص في ثوب الديمقراطية وترى هذا النظام لم يعد متفقاً مع روح الديمقراطية وجوهرها وأن الظروف التي وضعت فيها المبادئ العامة المشتقة من فكرة الديمقراطية قد تبدلت تبدلاً كلياً وإنه لابد من إعادة النظر في تلك المبادئ لتغييرها أو تفسيرها تفسيراً جديداً يلتئم مع ظروف المعيشة الحاضرة. فالأمريكي يشعر اليوم أن حقه في العمل والكسب لأجل العيش أهم من حقه في التصويت والعامل الأمريكي اكتشف بعد غفلة طويلة أن الحقوق الممنوحة له في الدستور لم تفده دائماً في تحسين أحواله وأن أكثرها سلاح يستخدم ضده ولذا أصبح مرتاباً بتلك الحقوق.
إن القادة من المحافظين على الديمقراطية شديدو الانتباه لحاجات الشعب التي نشأت من تبدل ظروف الحياة والعيش. ينظرون بعين الاعتبار للتوازن الجديد بين القوى الاجتماعية الحاضرة وهو بعيدون عن التعصب والتمسك بالتقاليد لذاتها شديدو الحرص على التطور والتكيف. لا يجهلون أن العامل الاقتصادي قد اكتسب أهمية في الحياة الحاضرة لم تكن له في زمن من الأزمنة. وأدركوا أنه لابد من تبديل مضمون الديمقراطية لصونها من مخاطر الهجمات الموجهة إليها سواء من اليمين أو الشمال. ورأوا أن الإصرار على المحافظة على
(9/11)
________________________________________
مبادئ لم تعد صالحة لتسيير حياة الأفراد في السبيل المرضية لاشك منته باضمحلال الديمقراطية واندثارها. ولذا تسير الديمقراطية الأمريكية في طريق التضامنية
إن هذا التبدل في مضمون الديمقراطية والانحراف عن مبادئها العامة المقررة والسير بها في سبيل جديد ليس هو كل ما يحدث حولها ويرمي لإصلاح شأنها وجعلها صالحة للقيام بمهمتها الرئيسية. بل هناك بحث ودرس عميق يتعلق بوظيفتها يرمي لإيجاد أفضل شكل ممكن تستطيع به الديمقراطية تأدية تلك المهمة. ولإيفاء هذه الناحية حقها من البحث ينبغي أن ننظر للديمقراطية من ناحية جديدة وأن نحلل مضمونها على مستوى أعمق من الأول فلا نقف عند مظهرها السياسي والاقتصادي كما مر معنا.
الديمقراطية في الأصل نظرة جديدة في الحياة والإنسان وطريقة مستحدثة لجعل علاقات الإنسان بأمثاله أكبر نفعاً وأعم فائدة لجميع الذين يساهمون في تلك العلاقات فقوامها إكبار شأن الفرد واعتباره غاية لذاته. ولذا منحته حقوقاً متنوعة ليتمكن من تنمية مواهبه وإرضاء رغباته ولم تكلفه للحصول عليها نزاعاً وعراكاً مع بيئته. نشأت الديمقراطية وترعرعت في جو الحكم المطلق والاستبداد الشامل فكانت رد فعل وثورة على الكرامة المهانة والحقوق المهضومة. فهي تشبه في منشئها الاشتراكية الحديثة التي خلقت في صفوف العمال في أوربا في القرن التاسع عشر بكونها رد فعل وثورة على النظم والأوضاع القائمة.
واستلزم ظفر الديمقراطية وضع نظام جديد يستطيع به الشعب ممارسة السلطة التي انتزعها. وقد أحدث النظام التمثيلي عامة والبرلماني خاصة لتحقيق هذه الغاية. وما هذا النظام التمثيلي كما هو معروف الآن إلا شكل من الأشكال التي يمكن أن يتخذها الحكم الديمقراطي. فليس هو بالشكل الوحيد ولعله ليس أفضلها. يرى المحدثون من أنصار الديمقراطية أن إخفاقها في تحقيق غاياتها العليا وهي توزيع أكبر مقدار من السعادة على أكبر عدد من الناس خلال أطول مدة من الزمن نتج بالدرجة الأولى عن عيوب ملازمة لهذا النظام الذي وضع لتخفيفها وإبرازها لحيز العمل. فإيفاد ممثلين لممارسة الحكم لا يرجعون لرأي الشعب إلا فيما ندر من الأحوال (وهذا في بعض الممالك فقط) لا يقول فيها أكثر من نعم أو لا لا يدل على ممارسة الشعب للحكم ممارسة فعلية كما يريد أنصار
(9/12)
________________________________________
الديمقراطية الصحيحة. ورأيهم أن النظام الديمقراطي في شكله الحاضر قائم على خطأ في إدراك وظيفة الديمقراطية الأصلية. ويرون أن هذا الخطأ منبعث من تسرب فكرة التضاعف القديمة التي اعتنقها الإنسان دهراً طويلاً ففرق الباطن عن الظاهر والروح عن الجسد والغاية عن الواسطة والنظري عن العملي والخ. والخطأ في النظام الحاضر يظهر لهم في التفريق بين الغاية الشيئية والعمل لإدراكها. فالأنموذج المتبع في هذا النظام الحاضر هو أن يضع الخبراء الغايات والأهداف ثم تؤخذ موافقة الشعب عليها.
يعترض المحدثون على هذه الطريقة في مرحلتها الأولى والثانية وقولهم في ذلك أن الغايات والأهداف التي يحددها الخبراء ليست في الواقع أكثر من غايات الخبراء أنفسهم فهي إذن غريبة عن الأفراد الذين وضعت لأجلهم والذين يطلب إليهم العمل لتحقيقها. أما موافقة الشعب على ما أقر الخبراء فلا تعني أنه أخذ على نفسه التقيد بما وافق عليه. لأن هذه الموافقة تحصل في المستوى الفكري بينما التنفيذ والعمل يقعان في مستوى العادة.
إن هذه الانتقادات الموجهة لشكل الديمقراطي لإصلاحه لم تكن ممكنة بالأمس لعدم توفر الشروط ولضيق نطاق المعرفة، فهي كما يظهر للقارئ مستندة للسكلجة الحديثة وللفلسفة البراغمية ولتقدم وسائط الاتصال والنقل (الراديو والطيارة) تقدماً لم يحلم به أحد قبل جيل واحد.
فالسكلجة الحديثة تشير إلى أن المثل العليا لا أثر لها في حياة الأفراد اليومية إلا بمقدار ما يفهمونها ويحيطون بها. وإن الأفراد لا ينفذون بغير استعمال العنت والشدة خطة مرسومة إلا بقدر اشتراكهم في وضعها واتصالها بحياتهم العادية وأن كل رأي أو وجهة نظر مهما كان مصدرها لا تترك أثراً في حياة الفرد الخاصة إلا بمقدار مامحصها بذاته وأحاط بما يترتب عليها بنفسه. وإن المثل الأعلى لا يكتسب تأثيراً وقوة إلا على نسبة تطبيقه في حالات وأوضاع متنوعة.
وتتفق تلك الانتقادات المستنبطة من السكلجة الحديثة مع وجهة نظر البراغمية في تفسير الديمقراطية وتحديد مرماها وبما أن النتائج التي توصلت إليها السكلجة قائمة على درس الحياة كما يعيشها الأفراد تكون مهمة المحدثين تحويل الأنظمة الديمقراطية لجعل هذه نسخة طبق الأصل عن الحياة كما أدركها العالم. هل يوفقون لاكتشاف الطرق الناجعة لتحقيق
(9/13)
________________________________________
ذلك؟ هذا موضع والدرس الآن والجهود المنصرفة في هذا السبيل عظيمة. والنتائج التي وصل إليها الدرس تحمل على التفاؤل والاطمئنان.
شاكر العاص
(9/14)
________________________________________
ما فهمته من بول فالري
إلى أستاذنا الفاضل المسيو غوستاف كوهين
بقلم الدكتور أنور حاتم
غموض فالري وبعض أسبابه
قرأت تقريباً جميع الكتب التي وضعها فالري (وعددها نسبة لما وضعه غيره من الكتاب محدود جداً) فظننت أني فهمت القليل منها وقرأت الدراسات والتحليلات والانتقادات والتفاسير والترجمات (الترجمات باللغة الفرنسية وبغيرها من اللغات) التي وضعت عن تآليف بول فالري فلم أفهم منها شيئاً أبداً والظاهر أن غموض شاعر المقبرة البحرية داء سار وقع فيه كل من عاشره مدة من الزمن والحقيقة أن شخصية فالري الأدبية غريبة في تطورها، شبيهة بالزئبق، يستحيل القبض عليها والوصول إليها وهو القائل عن المسيو تست ذلك الشخص النادر الذي خلقه في نشوة من نشوات شبابه: لا يمكن أن يقال عنه مالا يكون في البرهة نفسها مخالفاً للحقيقة. ولا شك أن أجهل الناس بفالري هو فالري نفسه وقد كثر شراحه في أيامنا هذه واعتقد أن فالري لم يفهم شرح أشعاره أكثر من أشعاره نفسها التي تحتمل كثيراً من المعاني ولا يدري هو أيها الأصح، وأن كان له فلسفة فتمتاز بتحركها وتحولها فهي لا تنفك تتركب بقالب جديد كل يوم والألفاظ برأيه ليس لها قوة ثابتة ولا تحتوي على أفكار جامدة فالألفاظ تقلب حسب النفوس وتأخذ القالب أو الصورة التي يريد الكاتب أو القارئ أن يمنحها إياها وإذا استطاعت الكلمات أن تسجن الفكرة وترفع أمامها كأسوار تمنعها من السير قتلتها وقد وجدنا تصريحات المسيو تست موافقة لنظرية فالري. قال المسيو تست: يعيبون غموض أقوالي ولكنني أن نظرت إلى الكون لا أرى إلا غموضاً. . . يفهم الأمور من يفحصها فحصاً سطحياً. . . أثمن ما في شخصيتي غامض علي ولو تمكنت من إدراك كل ما في نفسي لحرمت من الوجود. . . أشبه الألفاظ التي بواسطتها تجتاز مسافة فكرة بألواح خشبية سريعة الانكسار طرحت فوق هاوية يستطيع الإنسان المرور عليها لا الوقوف فوقها. فالرجل المستعجل يمر عليها ويسلم وأن أراد أن يتأخر تنكسر ويقع في أعماق الهاوية. هكذا من استعجل في فحص الألفاظ يدركها (أو يظن أنه أدركها) ومن أراد أن يطيل البحث فيها يتدهور في أعماق نفسه ويتيه. . .
(9/15)
________________________________________
إذاً فلا عجب إن صعب على كل قارئ إدراك بول فالري ومن المستحيل تعريف كل ظاهرة من ظواهر نفسيته باللغة العربية ولذلك لأسباب عديدة أهمها:
أن فالري اكتشف ميداناً جديداً للأدب ما اعتاد عليه النطق البشري فقد درس تطورات النفس في حالة الإبداع ونزاع الوجود والعدم وتوغل في الأنحاء المظلمة من روحه يستنبط منها كنوزاً ظهرت لنا وله غريبة وقد عجز النقاد وعجز الشاعر عن وصفها فأعطى فالري للألفاظ حياة جديدة وإبداع لأفكاره لغة جديدة لا يمكن تعريبها حتى ولا تحويلها إلى اللغة الفرنسية العادية وأرى أن كل ترجمة للمقبرة البحرية أو ملكة آجال البشر الشابة أو نرسيس أو سواها من أشعار فالري نصيبها الفشل. ومن الأسباب التي تجعل البحث عن فالري متعذراً في اللغة العربية هو أن سحر أشعاره ليس فقط في المعاني ولكنه كائن أيضاً في انتخاب العبارات والألفاظ حتى والحروف فقد استطاع أن يرتب الألفاظ في الشعر بصورة موسيقية وموسيقى الأشعار تضيع إن نقلت إلى لغة أخرى وفالري يعتقد بقوة العدد وينظم قصائده كمهندس يبني القصور والهياكل. وهو في فرنسة أول من حدد العلاقات القوية الموجودة بين الشعر والرياضيات فغاية الشعر الجمال والجمال في تناسب الخطوط وتناسب الخطوط يقتضي دقة الرياضيات وروح الشاعر المبدعة. وأن أردنا أن نعرف أهمية هذه النظرية عند فالري فما علينا إلا أن نفتح أحدث كتبه النثرية المشهورة وبالينوس. أو بالينوس المهندس بنى هيكلاً جميلاً للإله هوميس ولما سئل عن غايته من بناء هذا الهيكل أجاب: أردت عندما رفعت هذا الأثر أن أحفظ ذكر يوم مضيء من حياتي. يا لها من استحالة عذبة! لا أحد يعلم أن هذا الهيكل الجميل هو صورة رياضية لفتاة أحببتها وكنت بحبها سعيداً فالهيكل يمثلها لي فالعامي لا يدرك كيف يمثل صورة الفتاة أما الشاعر فله حاسة يستطيع بواسطتها العثور على العلاقات الخفية التي تربط كل صورة تمثل الجمال ببقية صور الجمال.
لا نريد أن نطيل البحث في هذا الموضوع خوفاً من الوقوع في الغموض أو الإبهام وغايتنا من هذه الملاحظات بيان الصعوبات التي تمنع الكاتب العربي من التكلم عن فالري باللغة العربية وسنأتي فيما بعد ببعض ما نستطيع التعبير عنه لشاعر من أشهر شعراء الغرب.
حياة فالري وتطور أفكاره
(9/16)
________________________________________
من يرى فالري لأول مرة يصعب عليه أن يرفع النظر عنه فهيئته الخارجية تستدعي النظر: قصير القامة ضعيف البنية يمشي ببطء وهو منحني الظهر قليلاً، شعره على وشك البياض، متدل على وجهه من جبهته اليمنى، يغطي حاجبه، فمه عريض يكلله شاربان كثيفان قصيران، خداه أجوفان تقطعهما تجعدات عميقة، عيناه صغيرتان لا أذكر لونهما ولكنك تشعر أن أطلت النظر فيهما بأنهما موجهتان إلى داخل فكره لا إلى العالم الخارجي فكأن أنظار فالري تنفى وجود كون خارج عن الكون الذي في نفسه.
ولد فالري في مدينة على البحر المتوسط تدعى سيت في 30 أكتوبر من سنة1871 وكان والده من أصل كورسيكي وأمه ايطالية تنتسب إلى إحدى عائلات مدينة جنوى وفي السنة السابعة من عمره رحل إلى انكلترا ثم عاد إلى بلدته وبدأ تحصيله في مدرسة مرتفعة فوق المرفأ على مصعد جبل بالقرب من حقل الأموات ذلك السطح الهادئ بين أشجار الصنوبر والقبور الذي سيخلد ذكره في المقبرة البحرية.
وكان فالري الصغير تلميذاً متوسطاً في اجتهاده ومطالعته، بعيداً عن رفاقه ميالاً إلى الانفراد ولم يتخذ رفيقاً غير البحر المتلألئ المتغير الألوان حسب أشعة الشمس المتقلب فوق درره الثمينة المستترة، البحر الذي سيشبهه في المستقبل بنفسية الإنسان ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره أرسل فالري إلى مونبلييه ليكمل تحصيله وهناك أهمل دروسه، فشعر بوحشة البحر وقضى الليالي العديدة يحلم بدخوله في سلك البحارة نظير أجداده الكورسيكيين ولكن ضعفه في ذلك الزمان في الرياضيات حال دون مساعيه وقد انكب على مطالعة فيكتور هوكو وتيوفيل غوتييه ثم أحب فن البناء وبدأ يختصر معجم البناء الضخم الذي وضعه أحد المهندسين الإفرنسيين المشهورين في القرن التاسع عشر المدعو فيوله ليدوك - ولما شعر بأنه لا يستطيع اتخاذ مهنة معينة باشر مثل أكثر شبابنا اليوم بدرس الحقوق في معهد مونبلييه الذي سيكون عميده بعد بضع سنين شقيق فالري الأكبر جول فالري.
وبالطبع فإن شاعرنا نام في أغلب محاضرات أساتذة الحقوق ومما لاشك فيه أنه لم يجد أقل لذة من تلك الدروس الثقيلة الهضم ولم تلهه المدرسة عن الرياض والجبال والغابات. وقد بدأ بقراءة كاتب من أغرب كتاب فرنسا اسمه هو يزمنس واضع كتاب في الطريقو
(9/17)
________________________________________
بالعكس ودخل فالري في الخدمة العسكرية قبل أن يبلغ السنة التاسعة عشرة من عمره وتعارف في هذا الوقت مع الشاعر بيير الويس مؤلف افرودتيه وأناشيد بيلتيس.
وأسس بيير لويس بمساعدة بعض شباب ذلك الوقت 0واسمهم اليوم اندره جيد وليون بلوم وهنري بيرانجه) مجلة أدبية عنوانها الصدفة نشر فالري أول أشعاره فيها ومن اشتراكه في تحرير الصدفة بدأت شهرته وقد تعرف بالشاعر الذي سيحدث تغييراً عميقاً في روحه ويساعده على اكتشاف شخصيته وقوته وهذا الشاعر هو ستيفان مالرمه مبدع الغموض الشعري. قرأ فالري أشعار مالرمه في ديوان استعاره من اندره جيد وشرع في زيارته كل أسبوع يوم الثلاثاء حيث كان يستقبل ضيوفه من الساعة مساءً إلى نصف الليل في داره الكائنة بشارع روما رقم89
وكان يجتمع في دار مالرمه بشارع روما أشهر أدباء فرنسا ومن أحاديثهم ومحاوراتهم انتشر مذهب الشعر المحض
كان تأثير مالرمه في فالري عظيماً جداً وقد اعترف به في مقالات عديدة ومالرمه أول من قاوم تلك العقيدة الابتدائية التي اشتهرت في عهد فيكتور هوكو والتي تختصر بجمل كهذه: الشاعر نبي والشاعر رسول وللشاعر رسالة إلهية على الأرض والشعر الهام إلهي والشاعر يكتب شعره في نشوة وهيجان حينما تحل به الآلهة أو الشياطين ابتعد فالري عن هذه الآراء المبتذلة وأحس بأن الشعر يولد من تضييق الفكر وقهره بتفكير عميق متواصل والشاعر يستخلص الشعر من الحياة كالمعطر يستخلص من الورد روحه. الشاعر كيماوي يركب من تلك الأجسام التي نسميها الألفاظ مادة أن دخلت على النفس من حاستي السمع والنظر تسحر