هذه القصه الجميلة حدثت في زمن الدوله العباسيه و أحببت أن أشاركها معكم ، فقد كان الخليفه أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء الدوله العباسيه بخيلاً للغايه ، حتى أنه كان يلقب بالدوانيقي ، و المقصود بالدوانيقي أنه كان يحاسب جنوده على الدانق ، و العمله في ذاك الزمان كانت الدينار و الذي يتكون من عشرة دراهم ، أما الدرهم فيتكون من عشرة دوانق ، إذا فالدانق لا يكاد يكون له قيمة ، و بالرغم من ذلك كان أبو جعفر المنصور و من شدة بخله يحاسب الجنود على الدانق فلقب بالدوانيقي .
و في ذلك الزمن كان الشعراء يأتون الملوك و الأمراء و الوزراء يمتدحونهم بالشعر فيقوم الملوك بإعطاء الشعراء شيئاً من المال ، و في الغالب تكون العطاءات كبيرة جداً ، إلا أن أبو جعفر المنصور لم يكن يعطي الشعراء شيئاً على الإطلاق ، فقد كان ذكياً و يمتلك ذاكرة قويه جداً لدرجة أنه يحفظ القصيده و لو كانت ألف بيت من أول مره يسمعها ، كان لديه غلام يحفظ القصيده في حال سمعها مراتان و كذلك لديه جاريه تحفظها من ثلاث مرات ، فحين يأتي الشاعر ليلقي قصيدته بين يديه يقول له : يا أخ العرب لو كانت قصيدتك قديمة ما أعطيتك شيئاً و لكن لو كانت جديده أعطيتك وزنها ذهباً ، و في ذلك الزمن كان الناس يكتبون على جلد الحيوانات ، فهذا يعني أن وزن القصيده من الذهب يساوي مبلغ كبير من المال ، فيوافق الشاعر ، و حين ينتهي من إلقاء القصيده يقول له أبو جعفر : ليس لك شىء عندي فقصيدتك قديمة حتى أني أحفظها عن ظهر قلب ، و يعيد القصيده أمام الشاعر و لا يخرم منها بيتها ، فيصدم الشاعر ، فيقول له أبو جعفر : و لست الوحيد الذي يحفظ القصيده فعندي هذا الغلام يحفظها أيضاً ، و يكون الغلام قد سمعها مرتان ، مره من الشاعر و مره من الخليفه ، فيكررها كامله ، ثم يقول له حتى هذه الجاريه تحفظها ، و تكون قد سمعتها ثلاث مرات ، فتعيدها كامله ، فهنا لا يملك الشاعر أي وسيله ليدافع بها عن نفسه و يرحل دون أن ينال شيء .
و كان الأديب الأصمعي من شعراء ذلك الزمن يتردد كثيراً على المنصور ، و قد علم بما يصنع مع الشعراء ، فقرر أن يعاقبه على فعلته ، فتنكر أحد الأيام بزي أعرابي و قدم إلى المنصور و قال أنه يريد أن يمدحه بقصيده طمعاً في كرمه ، فقال له المنصور مثل ما يقول للشعراء فوافق الأصمعي و أنشد القصيده التاليه :
صـوت صــفير الـبلبـل *** هيج قـــلبي الثمــلي
المـــــــاء والزهر معا *** مــــع زهرِ لحظِ المٌقَلي
و أنت يا ســـــــــيدَ للي *** وســــــيددي ومولي لي
فكــــــــم فكــــم تيمني *** غُـــزَيلٌ عقــــــــــيقَلي
قطَّفتَه من وجــــــــــنَةٍ *** من لثم ورد الخــــجلي
فـــــــقال لا لا لا لا لا *** وقــــــــد غدا مهرولي
والخُـــــوذ مالت طربا *** من فعل هـــذا الرجلي
فــــــــولولت وولولت *** ولـــــي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولـــــــــي *** وبيني اللؤلؤ لــــــــــي
لـــما رأته أشمـــــطاً***يريــــد غـــــــير القبـــل
قالت له حين كـــــــذا *** انهض وجــــــد بالنقلي
وفتية يسقــــــــــــونني *** قـــــــــهيوة كالعسل لي
شممـــــــــــتها بأنففي *** أزكـــــــى من القرنفلي
في وســط بستان حلي *** بالزهر والســـــرور لي
والعـــود دندن دنا لي *** والطبل طبطب طب للـي
و الرقص قد طبطبللــي *** و السقف قد سقسقللي
شـوى شـوى وشــــاهش *** على ورق ســـفرجلي
وغرد القمري يصـــــيح *** ملل فـــــــــــي مللي
ولــــــــــــو تراني راكبا *** علــــى حمار اهزلي
يمشي علــــــــــــى ثلاثة *** كمـــــشية العرنجلي
والناس ترجــــــــم جملي *** في الســوق بالقلقللي
والكـــــــــل كعكع كعِكَع *** خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا *** من خشـــية العقنقلي
إلى لقاء مــــــــــــــــلك *** مــــــــــعظم مبجلي
يأمر لي بخـــــــــــــلعة *** حمـــراء كالدم دملي
اجــــــــــــر فيها ماشيا *** مبغــــــــــددا للذيلي
انا الأديب الألمــعي من *** حي ارض الموصلي
نظمت قطــــعا زخرفت *** يعجز عنها الأدبو لي
أقول في مطلعــــــــــها *** صوت صفير البلبلي