أوّلا:
هل بوسع الإنقاذ النجاة من مشنقة الاقتصاد؟
لا. إذ يبدو أن المشهد الأخير من ثورة شعوب السودان الظافرة ضد نظام الإنقاذ قد بدأ، ذلك أن الأزمة التي دفعت بالجموع إلى شوارع المدن المختلفة هذه المرة هي أزمة غير قابلة للحل ضمن تركيبة نظام الإنقاذ، و هي أيضا بلغت مستوىً جديداً لن يستطيع أغلب السودانيين التعايش معه بعدما استهلكوا بالفعل ما راكموه من خبرات في ابتداع الحلول التي لا تخضع لمنطق الأرقام لتدبير المعاش.
قلنا إن هذا المستوى الجديد من الأزمة الاقتصادية غير قابل للحل في إطار النظام القائم، صحيح أن شرارة الانتفاضة الحالية أطلقها رفع أسعار المحروقات، و قد صدق القائمون على أمر الاقتصاد في الإنقاذ إذ قالوا أن ليس بأيديهم غير ذلك الإجراء. لكنهم لم يقولوا إن هذا الطريق باتجاه واحد بسبب ما يلي من معطيات:
1- الطبيعة الدكتاتورية للإنقاذ بشكل عام، ففساد النظام الحاكم و نهب منسوبيه لموارد البلاد هما من لوازم الدكتاتوريات، لأن الدكتاتورية هي في الأصل نظام يخلو من كفاءة الإدارة و يستقوي بالصرف على الولاء، و استبقاء الدكتاتورية هو أمر عالي التكلفة في كل الأحوال، الأداء الاقتصادي للدول التي تحكمها الدكتاتوريات متخم بالمشكلات لغياب الشفافية، الرقابة، المحاسبة، الشراكة و هي كلها من لوازم كفاءة الاقتصاد.
2- العقوبات الأمريكية المفروضة منذ العام 1997، لولاها لأمكن للنظام -مثل غيره من الدكتاتوريات- "استيراد" بعض المهدئات من خلال ضخ الاستثمارات و فتح الأسواق، هذه العقوبات هي ما أدت إلى ما يمكن تسميته بالـ Systematic collapse أو السم البطئ الذي حقنته الولايات المتحدة في شرايين الإنقاذ عقابا على تورّطها في دعم المتشددين الإسلامويين مطلع أمر الإنقاذ. العقوبات الاقتصادية هي أنظمة ناعمة و ذكية لضعضعة الخصوم، و حتى مع اقتصادات غنية مثل كوريا الشمالية و العراق و ليبيا و إيران، فإن العقوبات تعمل بنجاح.
3- الفكر السياسي للإنقاذ، فإذا كانت عقوبات أمريكا هي ما سدّ متنفسات الإنقاذ خارج البلاد، فإن مشروعها السياسي هو ما حرمها فرص الإنعاش الداخلي للاقتصاد، فالمكوّن الشعاري الإسلاموي و المنطلق العروبوي بل و القبلي الذي نظرت منه الإنقاذ، قد جعل البلاد طاردة لمن لا يشاطرونها هذه المقوّمات، فكان استمرار حرب الجنوب و انفصاله، و كان اشتعال الحرب في دارفور و الجنوب الجديد، بل إنه بسبب من هذه التوجهات لم يكن من الممكن أن تنشط الدولة في بعض المجالات ذات القدرة النسبية مثل السياحة. الإسلامويون بشكل عام و بسبب من شعاريتهم يتصف فكرهم الاقتصادي بأنه تجاري "طفيلي"، لا يؤمنون بتقوية قطاعات الإنتاج المباشر في الزراعة و الصناعة لكونها تعتمد على تعزيز فئات اجتماعية و أشكال من التنظيم غير محبذة لهم، عدا ما تتطلبه من إرادة بناء الدول، لذا فإن إنهيارات السكة حديد، و المشاريع الزراعية و المصانع لم تكن مصادفات.
حل الأزمة الاقتصادية الحالية، أي السبب المباشر في "الاحتجاجات"، لا يتمثل في التراجع عن قرار "رفع الدعم عن المحروقات"، و هو تراجع غير ممكن عمليا حتى لو أرادت اتخاذه الإنقاذ، فلم يبق حجر آخر للنبش تحته من الضرائب و المكوس و الأتاوات. الحل هو في تفكيك النقاط أعلاه، تفكيك الدكتاتورية، و نظام العقوبات و الفكر السياسي للإنقاذ، أي تفكيك الإنقاذ.
لا اعتقد أن عاقلاً يمكنه أن يتجرأ و يتنبأ بمسار الثورات، لا يمكن القول إن النظام سيسقط اليوم أو بعد شهرين، لا يمكن الجزم بأن التظاهرات ستستمر يومياً أم قد تعتريها حالات انحسار، لكن يمكن الجزم أن الأنقاذ ليس لديها حلول لامتصاص الأزمات البنيوية في الاقتصاد، و الخبر السار هو أنّه لن يكون القادم أفضل مما فات ما دامت مقاليد الأمور بيد الإنقاذ، لذا فإن من دفعتهم الأوضاع اليوم للاحتجاج، سيجدون في المستقبل مزيداً من الأسباب.
الشرطة و القوات النظامية غير الحزبية ستتخلى غداً عن حماية النظام، فمن السنن أنّه مع ذروة القمع تبدأ الإنقسامات، عدا عن أن منتسبي الشرطة ليسوا أفضل من باقي الفئات في مطحنة الحال، أصلا ترك 60% من الشرطيين عملهم باعتراف البشير في زلّة عقل و لسان، فصبراً و بشرى بنصر قريب.