وداعاً "سُلم"
هناك من يعبرون حياتنا كي يقولوا لنا إن الحياة لا تستحق غير أن تكون "لَمة خير ومَحنَّه"، وأن نتقاسم فيها كل ما يسعدنا، هكذا كان محمد "سُلم" خزانته مليئة بكنوز الابتسام والقهقهة والمحبة، تلك هي ثروته التي يوزعها بالعدل والتساوي بين كل الناس، لذلك كانت لا تتناقص بل كل يوم تتزايد وتفيض لتغمر كل المحيطين به وتغرقهم محبة وتسامح.
عكس كل الأخوال والأعمام لم يرتد أمامنا ذاك القناع الصارم ونحنا صغار كي يعلمنا الحياة، بل كانت يقدم لنا مواعظه الأليفة من خلال مشاغباته اللطيفة، ومرحه الآسر ويجعلنا نفعل بطيب خاطر ما كنا نفرنا منه وتمردنا عليه عندما جاء على شكل أمر واجب التنفيذ بلا جدال من بقية أفراد الاسرة. يعرف بمحبته كيف يهدهد تمرد أرواحنا الشقية المشاغبة في تلك الأزمان ويربت عليها بحنو، ويطلق لك منا لقب يخصه لا ينادينا به إلا هو وحده ، لعاطف اسم آخر عنده وكذلك لعاكف ولفضل وميسرة جابر وعبد العظيم ونصر الدين وعبد الحليم وعبد الحفيظ خير السيد ايضا اسماء أخرى، ولكل شلة واسرتنا الممتدة بذاك الحي الأليف.
عندما تلاحقت الكتوف صار صديق لنا جميعاً نذهب معاً إلى نادي قلب الجزيرة ومناسبات المدينة المختلفة في افراحها واتراحها، وفي كل تلك الأماكن يكون ريحانة المجالس بروحه الطروبة المفطورة على التشارك والانبساط. من منا لم يعشق طرب محمد سُلم وهو يرقص في أعراس العائلة بطريقته الفريدة عندما يذهب عمداً إلى الصفوف الخلفية ويختار أكثر النساء خجلاً كل تراقصه لا يهمه العمر قد تكون أكبر من امه وقد تكون طفلة لم تتعد العاشرة من العمر ما يهمه في تلك اللحظة بالذات ان مغنطيسيته التقطت بأن هناك روحا تعانى من توقها للمشاركة في الفرح وخجلها يكبلها، ويأتي محمد سُلم دائماً كي يحرر تلك الروح من مشاعرها السالبة ويطلقها في حلبة الرقص ويذهب ليأتي بأخرى ايضاً حتى نرى حوله دائرة من الحبور والفرح النقي. أما اذا كان الحفلة فنانها ابن أخته الفنان عصام محمد نور فتراه ثمل بصوته حد التحليق والزهو، فعندما كان عصام طفلاً صغيراً لم تعرفه بعد الإذاعات والتلفزيونات والمسارح كان محمد سُلم يصر على أن يقدمه ليغني في كل المناسبات، كأني اراه الآن وهو في زواج "عرفه طه" نوارة الفريق وزينته وعصام محمد نور الطفل يغني لخالته العروس "على قدر الشوق" وبعد ان رقص محمد سُلم كما لم يرقص من قبل، و قبل تنتهي الأغنية حمل عصام الطفل المعجزة على كتفه وطاف به وسط الغاوين والمطاميس وخلق صخباً وفرحاً نادراً لا يستطيع ان يفعله أحد غيره. في حفل زواج الخال محمد عبد الله حين أمسك محمد سُلم المايك ليطلب من الجميع اخلاء الساحة ، ظن الحضور بان أوان" رقصة العرسان" لكنه أحضر نجلاء الشايب وعمار اسماعيل وهما دون الخامسة من العمر ليرقصا معاً ببراءة وبراعة محببة رقصة بديعة مزيجاً من " الجيرك و التويست" نالت شهقات كل الحضور وأكثرهم حبوراً كان محمد سُلم وهو يقود الصفقة الجماعية وصيحات التشجيع.
عندما عدت إلى السودان في عام ٢٠٠٨م ذهبت إليه في موقف "فور مزاد" وانا على بعد أمتار منه انتبه لي فرمى بالسيجارة وكباية الشاي وتقرفص على الأرض يبكي بحرقة مثكول، وتلك المرة الأولى في حياتي التي أراه فيها باكياً!! أخذته بين أحضاني وبكينا طويلاً، تجمع حولنا الركاب وسائقي البكاسي، وأكثرهم لطول الغياب لم يعرفوني وقد ظنوا ان احد اقاربه قادم من بعيد بخبر وفاة، تفرقوا عندما تبينوا بين نشيجه انه يردد عبارات "حمدا لله على السلامة". وجلسنا على بنابر ست الشاي ودمعته لم تجف حتى فارقته وهو يوصيني ألا اطيل الغياب وأن اعود المرة القادمة ومعي عاطف اسماعيل واسرته.. ووعدتك بأننا سنعود ونجمع كل الأهل والأصحاب في الحي القديم ونعيد نهارات ومساءات الزمن الهارب منا!!
حتماً سنعود عاطف وأنا لكن لن نجد ابتسامتك المرحابة " يا سُلم" في استقبالنا. فقط صدى قهقهاتك في جهات المدينة التي مازالت تسكن أرواحنا وجدران بيتنا جدنا عبد الله خير السيد بالحي الأوسط.
هل نسيت يد محمد سُلم اليسرى! تلك اليد التي تعطي بغير حساب، تلك اليد اليسري الهميمة التي تسبق يمين الجميع لفعل الخير، تلك اليد اليسرى المميزة حين يقود بها محمد سُلم مثل مايسترو موسيقي في جلساتنا في الأزمان العفية كورال المكاواة والتهكم في " لعبة الهارت" ونردد معه جميعاً " وراها حتى نراها" وينفجر عبد اللطيف رجب بالضحك المزلزل حين يحرد الخال نصر الدين خير السيد اللعب ويترك المكان غاضباً، ويركض محمد سُلم خلفه ويعيده مرة اخرى. تلك اليد اليسرى عندما يرفعها عالياً وينهال بها مفرقعة وهو يجلد "شايب بـ دو في لعبة الوست" نعلم أن "السيك" ملعوبة بحرفنة يده اليسرى وذهنه المتقد الذي يعرف بعد الجولة الثالثة ما تبقى في أيدي الآخرين.
أنا مذبوح حتى العظم لفراقك وصارت غربتي غربتان، لكن الذي أعلمه جيداً أن نعمات ومسرة جابر ومعتصم أبو الكيلك وعبد العزيز عبد الله قد فقدوا أجمل انسام عمرهم التي لا تتكرر، فلا احد غير محمد سُلم يشعل لحظاتهم بمهرجانات الفرح.
..
..
فوداعاً "سُلم"
وتبقى قهقهاتك العفية في القلب والروح إلى أبد الابدين يا ملك الابتسامة والمحبة.