عرفت شخصية الكاتب السوداني محمد حسين بهنس بعد موته، ولكن كيف مات؟، الإجابة في حد ذاتها وعلى اختصارها تصلح أن تكون قماشة أولية لكتابة رواية تراجيدية قد لا يكون بهنس وحده بطلها، فهناك المئات وربما الآلاف من الكتّاب العرب هم أبطال تراجيديون لروايات لم تكتب بعد، ولعل الرواية التي لم تكتب بعد هي الأجمل . . أَلَمْ يقل ناظم حكمت إن أجمل الأطفال هم الذين لم يولدوا بعد .
مات محمد بهنس قبل أقل من أسبوع متجّمداً من البرد في أحد شوارع القاهرة بالقرب من تمثال إبراهيم باشا . مكان مثالي لموت كاتب عربي وينطوي على شعرية تراجيدية أيضاً خصوصاً عندما نعرف أنه كان جائعاً قبل أن يتجمّد ويموت بكل هذا التكثيف المؤلم، وبكل هذه العزلة، فقد قال خبر رحيله إنه منذ قدومه إلى مصر كان يعيش داخل بنطلون وقميص، ومثل هذا العيش، إذا كان عيشاً حقاً، هو ذروة العزلة .
لا نعرف الكثير من شعراء السودان وكتّابها الجدد الذين ظهروا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كأن الطيب صالح عندما نشر روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" قد أقام قوساً من الإسمنت حول الكتّاب السودانيين، ولكن الطيب صالح كاتب وليس ديكتاتوراً، والكتّاب السودانيون من شعراء وروائيين وقصّاصين تعرّضوا إلى نوع من النفي القسري الخارجي والداخلي جرّاء الجوع والبرد وغياب الحرية، وإن كان ذلك في تمظهرات متفاوتة، فكل كاتب سوداني أو غير سوداني له فهمه الخاص للحرية والجوع، وقد كان بهنس واحداً من أولئك الذين يمتلكون شفافية الفنان العالية وحساسية مشدودة إلى بنية سيكولوجية قد تجرحها ريشة عصفور . عرفت ذلك من طبيعة فجيعته على موت أمه، وبالتالي، هجوم الضياع عليه وتآكله النفسي والبدني في شوارع القاهرة . . ومن هو للأسف الشديد، إنه رسام وشاعر وقاص وروائي ومسرحي، وقد التقت في شخصيته كل هذه الإبداعيات الفاتنة، ولم نعرفه إلا متجمداً جائعاً ميتاً تحت تمثال، فهل كان يشكو إلى الحجر؟
لماذا يموت كتّاب عرب رائعون بهذه الطريقة القاسية، وبهذا العنف الذي يتناقض تماماً مع أرواحهم الهادئة المسالمة، فأقصى ما كان يحلم به هذا السوداني الطيب غرفة ومدفأة وخبز ومعطف، لكي يرسم ويكتب .
لماذا خرجت أخي محمد من بلدك، ومن سرق ثيابك وخبزتك وحياتك؟
لا تقل لي إنه ليس الاستبداد، فهذا عنده الكثير من القمصان والبناطيل وعصيّ العاج .
يوسف أبولوز - الخليج الأماراتية