الرقراق
1.1.2014
بسم الله الرحمن الرحيم
بداهةً إن ذكرى استقلال أي دولة من دول العالم حبيبة وعزيزة لمواطني تلك الدولة ولا شك عندنا أن الأمر كذلك بالنسبة لكل أهل السودان بالرغم من أن هناك رأياً أصبح غالباً عند الكثيرين أن السودان قد حظي بنعمة الحرية ولكنه لم يحظ بنتائجها من حيث الإنشاء والتعمير بسبب عدم الإستقرار السياسي الذي يعزى في المقام الأول للإنقلابات العسكرية المتتالية التي لم تتح للأنظمة الديمقراطية أن تتبلور وتتطور.
ولعل أبلغ دليل على ذلك أن عمر الحكومات الديمقراطية الثلاث لم يتجاوز الثلاث عشرة سنة بينما أوشك عمر الحكومات الإنقلابية أن يقترب من الخمسين سنة. وبالرغم من أن ما ينسحب على أهل السودان ينسحب علينا بطبيعة الحال، إلا أن ذكرى الإستقلال لها مالها لنا من عاطر الذكريات والمذكرات مع صانع الإستقلال الزعيم الأزهري تفرض نفسها علينا كلما لاح في الأفق الأول من يناير 1956. فلقد أكرمنا الله بأن نكون وصديق سوف نأتي لذكره لاحقاً، على صلة وثيقة منذ عهد الصبا مع صانع الإستقلال.
إن مقالاً يكتب في هذه المناسبة لا يجوز الشروع في تفصيله دون الإشارة إلى مؤتمر الخريجين العام. فنحن عندما نكتب لا يجوز أن تكون مخاطبتنا في مثل هذه المناسبات موجهه فقط للأجيال السابقة. وعندما يكون موضوع المقال هو استقلال الوطن فإن المخاطبة ينبغي بل ويجب أن تكون شاملة بحيث تخاطب بصفة خاصة الأجيال المعاصرة. فالكثير من تاريخ السودان مجهول تماماً للاجيال المعاصرة بسبب الفوضى والتخبط فيما يسمى بـ(السلم التعليمي) من ناحية و(المناهج) التي تدرس من ناحية أخرى. وما كان لكل ذلك أن يحدث لو لم تكن ثمة حفنة من المثقفين ظلت ،بكل أسف، تهلل للإنقلابات العسكرية وتزين لها بأن تاريخ الوطنية السودانية يبدأ ببداية سيطرتهم على السلطة في السودان.
ولعل البداية تكون بالتذكير بأن الحرب العالمية الأولى تزامنت مع بدايةً (الحركة الوطنية السودانية) Sudanese Nationalism. التي وجدت قائداً في شاب تعود جذوره إلى قبيلة الدينكا هو البطل علي عبداللطيف الذي كان ضابطاً عسكرياً.
وكان أول تنظيم سياسي يقوم به هو ما عرف بـ (جمعية القبائل السودانية المتحدة) التي تأسست عام 1921 حيث تحدثت بجرأة عن الأمة السودانية والمطالبة بالإستقلال. وتم على ضوء ذلك النشاط السياسي اعتقاله وسجنه في عام 1922. وعندما عاود أنشطته السياسية مرةً أخرى وأسس منظمة جديدة في مايو 1924 انطوت أفكاره على تغيير جوهري. فلقد أصبح آنذاك مستعداً للعمل والتضامن مع المصريين لانهاء الحكم البريطاني في السودان. وبالتالي نادت منظمته الجديدة، وهي منظمة (اللواء الأبيض) White Flag ليس باستقلال السودان باعتباره منفصلاً عن مصر، بل دعت ونادت بدولة (وادي النيل) The Nile Valleyحرةً من الحكم البريطاني ومتحدة مع الملكية المصرية.
وعلى اثر تظاهرات أم درمان والخرطوم تم القبض على (علي عبداللطيف) وسجنه. وتبع ذلك تضامنٌ قويٌ من جانب طلاب المدرسة الحربية الذين خرجوا في تظاهرة عبر شوراع الخرطوم بالتزامن مع تمرد كتيبة السكة حديد المصرية المقيمة في مدينة عطبرة. ولعلنا نشير في عجالة إلى أن من أهم الأحداث التي تتابعت آنذاك مقتل السير (لي استاك) حاكم عام السودان وسردار الجيش المصري في القاهرة. وما قام به (اللنبي) المندوب السامي البريطاني في مصر من اجراءات صارمة ضد الحكومة المصرية من بينها سحب القوات المصرية من السودان وبزوغ (قوة دفاع السودان) Sudan defence force النواة الأولى للقوات المسلحة السودانية، وتغيير مفهوم ربط التعليم بالحاجات الإدارية إلى ما يمكن وصفة بالرؤية السياسية للإدارة في السودان ،وصدور قانون سلطات الشيوخ، وربط الجزيرة بالبحر الأحمر وهكذا.
بيد أن أهم حدث لعب دوراً كبيراً في اثارة وشخد الحركة الوطنية بعد ثورة 1924 كما نرى هو ما يسمى بـ (اتفاقية مياه النيل 1929) بين المملكة المتحدة وشمال ايرلندا ومصر. فلقد انطوت تلك الإتفاقية على قرارات مهمة جداً بشأن السودان دون أي اشارة (للشعب السوداني). ومن ثمّ فقد نهض المتعلمون السودانيون باعتبارهم الطائفة الأقدر على الكلام عن حقوق الشعب السوداني عامةً. وقد وجد ذلك الأحساس والشعور الوطني الإعراب في شكل (منظمة) نمت من (جمعيات) ثقافية صغيرة، ومن ثمّ تبلورت فيما عرف بـ (المؤتمر العام للخريجين) في فبراير 1938.
من المهم التنويه بأن المقصود بـ(الخريجين) Graduates آنذاك الذين أكملوا دراساتهم في كلية غردون أو المدارس الوسطى. ولسنا بحاجة للتنويه هنا بأن من تخرج في كلية غردون أرفع مستوى بكل المقاييس من حملة الدكتوراه في هذا الزمان وأن من تخرج من المدارس (الوسطى) Intermediate في ذلك الزمان أعلى مستوى بكثير جداً من حملة البكلاريوس في هذا الزمان بكل المعايير. ولعل ما حققه أولئك الخريجون أبلغ دليل على ما نشير إليه. ولما كان أغلب الخريجين في ذلك الزمان كانوا يعملون في وظائف حكومية على تواضعها فقد صح القول بأن (المؤتمر العام للخريجين) كان يتكون من السودانيين الموظفين في (الخدمة العامة) Sudanese Civil Service. وهنا يجدر بنا أن نشير تحديداً إلى أن سكرتير المؤتمر وهو اسماعيل الأزهري، الذي تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة الأمريكية في بيروت من الدفعة التي ابتعثت في 1924، كان أستاذاً (للرياضيات) في كلية غردون.
لقد تم اشهار مؤتمر الخريجين كتابةً لأول مرة للحكومة الإستعمارية في مذكرة صاغها اسماعيل الأزهري. وطبقاً لتلك المذكرة فإن المؤتمر قام لغرضين أولهما خارج نطاق الحكومة وتمثل في الإصلاح الإجتماعي والعمل الخيري. وأما الغرض الثاني فهو يشتمل على موضوعات تعنى الحكومة أو تندرج في نطاق سياستها. ولقد كانت تلك المذكرة الموجهة للحكومة أول صيحة بأن أولئك المتعلمين يدركون أنهم يعملون في الحكومة ولكنهم يشعرون في ذات الوقت بأن الحكومة تدرك موقفهم باعتبارهم العنصر المتعلم في السودان وبالتالي تتفهم الواجبات الواقعة على أعناقهم بتلك الصفة.
وغني عن الشرح أن هذه العبارات تعني دورهم الوطني نحو الشعب السوداني الذي لم يحظ بقدرٍ من الإعراب عن تطلعه للحرية. وبالرغم من أن السكرتير الإداري (نيوبولد) قد رحب بانشاء المؤتمر إلى أنه أشار صراحةً أن ترحيبه لا يعني اعترافه بـ (المؤتمر العام للخريجين) باعتباره كياناً سياسياً، ولا يستطيع المؤتمر الإدعاء بأنه يمثل رؤى الغير بل رؤى أعضائه فقط. هذان القيدان الواردان في خطاب السكرتير الإداري هما اللذان شكلا مسار السياسة السودانية منذ أول أربعينيات القرن الماضي وحتى التاريخ المعاصر. صحيح أن المؤتمر انصرف في الظاهر للإلتزام بالغرض الأول وهو نشر التعليم الأهلي الذي كان من أول وأبلغ انجازاته انشاء مدرسة أم درمان الأهلية الوسطى الكائنة من مرمى حجر من منزل الزعيم الأزهري والتي يعود لها الفضل بأن تعرف كاتب هذا المقال معرفةً شخصية بالزعيم الأزهري في الثالثة عشر من سنين عمره.
وكان للحرب العالمية الثانية آثارها في شحذ الحركات الوطنية في أغلب البلدان التي كان ترزخ تحت نير الإستعمار ولم يكن السودان بالطبع استثناء من ذلك بل كان الاوفر حظاً دون سائر البلدان الأخرى.
فلقد زار السودان في فبراير 1942 (علي ماهر باشا) رئيس الوزراء المصري بدعوة من حاكم عام السودان. وكان المصريون يعتقدون بأن فكرة المؤتمر ما هي إلا صيغه بريطانية لمعارضة الوجود المصري في السودان على ضآلته. بيد أنه رجع إلى مصر وهو على قناعة بأن المؤتمر على خلاف ما يعتقدون. بل هو منظمة لمعارضة الإدارة البريطانية في السودان. وساهم ذلك في دفع المؤتمر للإدعاء بأنه يمثل المشروع الوطني الأول للتحدث باسم الحركة الوطنية السودانية في مواجهة الإستعمار. وقد تبلور ذلك الإدعاء في خطاب (المؤتمر) في 1942 المكوّن من اثني عشر مطلباً أهمها وأخطرها المادة الأولى التي جاء فيها الطلب التالي:
"أن تصدر الحكومتان البريطانية والمصرية في أقرب فرصة ممكنة اعلاناً مشتركاً يمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير المصير مباشرةً بعد الحرب. وأن يشتمل هذا الإعلان على تأكيدات تضمن الحرية الكاملة للتعبير وكذلك تأكيدات بضمانات تكفل للسودانيين حقهم في تحديد حقوقهم الطبيعية مع مصر باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني".
وكما كان متوقعاً رفضت السلطات السودانية بأن يزعم المؤتمر بأنه يمثل السودانيين. وبالرغم من أن (نيوبولد) السكرتير الإداري كان متفهماً لتطلعات الحركة الوطنية السودانية كما يبدو إلا أن رفض ذلك المطلب تم تطبيقاً للسياسة البريطانية في 1942. وكان لذلك الرفض ما بعده على الحركة الوطنية. فقد شكل بداية الإنقسام في الحركة الوطنية، فبينما كانت هناك مجموعة أعربت عن قبولها (حسن نوايا الحكومة الإستعمارية) وتبنت المزيد من الصبر والإنتظار في التعامل مع الإنجليز، كانت هناك مجموعة أخرى بقيادة الأزهري تشكك بقوة في نوايا ودوافع الحكومة البريطانية ورفضت الإنتظار، وتبنت منذ تلك اللحظة ذات التوجه الذي سبق أن تبناه البطل علي عبداللطيف في 1924 وهو النظر نحو مصر كحليف في تلك المرحلة. وبالتالي أصبح شعار (وحدة وادي النيل) سلاحاً ضد بريطانيا مع أنه كان مشروعاً تكتيكياً أكثر من كونه التزاماً سياسياً كما ثبت لاحقاً. وحظى الأزهري بذلك الموقف التاريخي بتأييد جارف وسط الشباب وسكان المدن والمتعلمين. ولعلها كانت بداية بزوغ الأزهري كـ(زعيم) قاد الحركة الوطنية السودانية للإستقلال. فقد أسس الأزهري في 1943 أول حزب سياسي حقيقي في تاريخ السودان باسم (حزب الأشقاء). ولما رأي المتحفظون أن المبادرة ذهبت للأزهري لم يكن أمامهم إلا الإسراع بتأسيس (حزب الأمة) رافعين شعار الإستقلال الكامل للسودان.
وهكذا حدد (الأشقاء) منذ 1943 مسارهم فرفضوا كل محاولات الإستعمار اللاحقة ابتداء بما سمي بـ(المجلس التشريعي لشمال السودان) Advisory Council. وانتهاء بتطويره إلى ما اشتهر بـ (الجمعية التشريعية)Legislative Assembly. التي قال عنها الأزهري قولته المشهورة "لن ندخلها حتى ولو جاءت مبرأة من كل عيب". وتتالت الأحداث وقامت الثورة المصرية في يوليو 1952 واستطاع رئيسها آنذاك اللواء محمد نجيب توحيد الحركات الوطنية الإتحادية في (الحزب الوطني الإتحادي) بقيادة وزعامة اسماعيل الأزهري. ومن جانب تم ابرام اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير بين مصر والحكومة البريطانية في فبراير 1953. يوضح عنوان تلك الإتفاقية المهمة أنها ذات هدفين. الهدف الاول هو (تحقيق الحكم الذاتي للسودانيين) والهدف الثاني (تقرير مصير السودان). وبالتالي انطوت الإتفاقية على مفهومين قانونيين دستوريين مختلفين تمام الإختلاف. لقد جاءت الإتفاقية في (15) مادة انطوت من بين أمور أخرى على تكوين ثلاث لجان هي لجنة الحاكم العام ولجنة الإنتخابات ولجنة السودنة وجميعها تتعلق مباشرةً بتحقيق الحكم الذاتي، وتتعلق على نحو غير مباشر بالتمهيد لتقرير المصير. وكما هو معلوم فقد فاز الحزب الوطني الإتحادي بزعامة الأزهري بالإنتخابات وكوّن أول حكومة وطنية لحكم السودان وبالتالي تم تحقيق الهدف الأول من الإتفاقية.
وكما كان متوقعاً فلقد واجهت تلك الحكومة مشاكل وصعوبات حادة وعديدة مثل (حوادث أول مارس) 1954 و(تمرد الفرقة الإستوائية) في أغسطس 1959. ولقد حاول الإستعمار والمتربصون بالحزب الوطني الإتحادي استغلال تينيك الحادثتين للتوصل بأن انهياراً دستورياً قد حدث في السودان وبالتالي العودة بالسودان للمربع الأول. لكن عبقرية الزعيم الأزهري مكنته من تجاوز كل تلك التحديات باكمال (السودان) وبتحقيق (الجلاء) تمهيداً لتحقيق استقلال السودان. بيد أن عقبة دستورية كانت تقف أمام تطلعات الأزهري واصراره على تحقيق الإستقلال. تلك العقبة لمن لا يدركون أن اتفاقية 1953 نصت في المادة (12) على:" تقوم الجمعية التأسيسية بأداء واجبين: الأول – أن تقرر مصير السودان كوحدة لا تتجزأ. والثاني – أن تعدّ دستوراً للسودان يتواءم مع القرار الذي يتخذ في هذا الصدد، كما تضع قانوناً لانتخاب برلمان سوداني دائم. ويتقرر مصير السودان: (أ) إما أن تختار الجمعية التأسيسية ارتباط السودان بمصر على أية صورة.(ب) وإما بأن تختار الجمعية التأسيسية الإستقلال التام". وعلى أن يتم ذلك في غضون ثلاث سنوات. لكن اصرار الأزهري بان يصبح السودان حراً مسقلاً دفعه لأن يمزق ذلك النص ويقذف به في سلة المهملات وأن يعلن الإستقلال من داخل البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر 1955 ويرفع علم جمهورية السودان الحرة المستقلة في الأول من يناير 1956.... لله درك يا أزهري!!!.
نعم كان من حسن حظ كاتب هذا المقال وغيره أن درسوا المرحلة الوسطى في "مدرسة أم درمان الأهلية الوسطى". دخلناها في الحادية عشر من أعمارنا. وعرفنا وزميلي الصحفي الكبير الأستاذ أحمد محمد الحسن نقيب الصحفيين الرياضيين الزعيم الأزهري معرفة مباشرة ولم تتجاوز أعمارنا الثالثة عشرة. ولم يكن ذلك مجرد صدفة فكلانا من أسر اتحادية وإن كان هو من أسرة (ختمية) وأنا من أسرة (قادرية)!!. لكن الختمية والقادرية كانا السند الأساسي للحزب الوطني الإتحادي في ذلك الزمان. آنذاك كنا سوياً نقود مجموعات من التلاميذ ونهتف باسم الزعيم الأزهري بل ونتسلق ذات الشرفة التي ما زالت في الركن الجنوبي الغربي من منزله والزعيم يخاطب الجماهير الغفيرة فعرفناه عن كثب وعرفنا عن قرب، وهمنا بعشقه وبحبه ونحن في ذلك العمر، ولم لا فهو صانع الإنعتاق من الإستعمار والذي كانت تحييه الجماهير الغفيرة:
حررت الناس يا اسماعيل * * * * الكانوا عبيد يا اسماعيل
ومرت السنون وأصبح الزعيم الأزهري رئيساً لمجلس السيادة ] ولمصلحة جيل هذا الزمان كان مجلس السيادة دستورياً بمثابة رئيس الجمهورية[. [size=24]يومها كنت مسؤولاً عن القسم الشمالي لبوليس أم درمان وكان من حسن حظي، بالرغم من صعوبة المسؤولية وعظمها، ان كل المسؤولين في ذاك الزمان يقطنون في منازلهم التي تقع في دائرة اختصاص ومسؤولية قسم بوليس أم درمان شمال. وحسبنا أن منزلي الزعيم الأزهري والسيد عبدالله بك خليل رئيس الوزراء في فترة لاحقة من تاريخ السودان، كانا يندرجان في اطار ذلك الإختصاص. يومها كنت في أول عتبة من سلم عملي في وزارة الداخلية. أبلغني هاتفياً الجاويش (النوبتشي) في حوالي الساعة الثالثة والنصف ظهراً بأن الرئيس اتصل وطلب حضور (الجعلي)! هكذا كان يتصل رئيس مجلس السيادة بقسم البوليس وهكذا كان يستدعي الضابط المسؤول!!. وذهبت مباشرةً لمنزل الزعيم الأزهري الذي لم تكن قد اكتملت صيانته من الناحية الشمالية المطلة على شارع السيد على الميرغني قد اكتملت حيث كان العمل يجري في ترميم (ميدان النجيلة) لمقابلة الرئيس. لم تكن هناك دبابات ولا عشرات السيارات لحراسة رأس الدولة فقط (رجل بوليس واحد) المسؤول عن الحراسة!!.
سألت رجل البوليس إن كان قد حدث شيء في منزل الرئيس فأجابني بالنفي القاطع وأن (كل شئ تمام يا جنابو) ومن ثمّ قرعت الباب واستقبلني الزعيم الأزهري بهدوئه المعهود وأدخلني للصالون المتواضع الذي أعرفه جيداً وأجلسني ثم قال لي "أريدك أن تتأكد لي عن ماذا حدث في حوالي الساعة الواحدة والنصف" هكذا. أبلغته مباشرةً بأني كنت في القسم حتى الثالثة بعد الظهر وسألت (بوليس) الحراسة وأبلغني بأنه لم يحدث أي شئ منذ بدء خدمته. لكن الزعيم الأزهري لم يقتنع بما ذكرته له!! وطلب مني المزيد من التحري. وخرجت حيث أكد لي رجل البوليس مرةً ثانية ما قاله سلفاً. ولجأت لصاحب (الدكان) القريب من منزل الرئيس واستدرجته لأعلم منه شيئاً وكانت النتيجة أنه في حوال الساعة الواحدة تقريباً سمع بعض التلاميذ (يهتفون) فساد.... فساد عندما لاحظوا بأن (الجنايني) الذي يقوم بتهذيب (النجيلة) في داخل منزل الزعيم الأزهري يحمل (ماكينة نجيلة) مكتوباً عليها (بلدية) وتابعت تحرياتي وتأكد لي أن الرئيس يملك (ماكينة نجيلة) خاصة بمنزله ولكنها تعطلت أثناء قيام (الجنايني) بواجبه. ولما كان ذلك الجنايني زميل للجنايني المسؤول عن (حديقة البلدية) التي تقع غرب مدرسة أم درمان الأهلية مباشرةً وعلى بعد أقل من عشرين متراً من منزل الرئيس، ذهب إليه واستعار منه (ماكينته) المكتوب عليها (بلدية) أي مملوكة لبلدية أم درمان التي تعني بلغة هذا الزمان (محلية) أم درمان!!!.
عدت للرئيس الأزهري وأبلغته بأنه لم يكن هناك شئ يستحق الذكر ولكن الرئيس الأزهري أصر عليّ بأن هناك شيئاً قد حدث لابد من أن يعرف تفاصيله لأن أسرته كما تبدى لي قد أبلغته بهتاف (تلاميذ) المدرسة ضد الفساد! عندها أبلغته بكل التفاصيل السابق ذكرها. وكان رد الرئيس الزعيم الأزهري على ما ذكرته أن (الجنايني) (غلطان.....غلطان.....غلطان) ردد ذلك ثلاث مرات و قال لي بالحرف الواحد: إن (التلاميذ) على حق فيما فعلوه وكان يجب على (الجنايني) الإنتظار حتى أعود من (القصر) للنظر في كيفية اصلاحها أو شراء (ماكينة) جديدة!!!.
ويقيننا أن هذا المقال الذي نكتبه بمناسبة الإحتفاء بذكرى الإستقلال يجب بل ينبغي أن ينتهي عند هذا الحد!!!.[/size]
بروفيسور البخاري عبدالله الجعلي
teetman3@hotmail.com