يُحكى عن الشاعر المحلق مجنون تاجوج أنه لجأ إلى أحد الفقراء، ليكتب له تعاويذ يتجاوز بها أزمته النَّفسية التي سببها الجمال والعشق، فاستغرق الفقير في كتابة التعاويذ للمحلق وهم جلوس على أرضية الخلوة، مستعيناً بقلمه الخشبي الذي يغمسه في العمار، الموجود داخل الدَّواية، وفي هذه الأثناء بدت إحداهنَّ أمام باب الخلوة، وألقت بسلامها على من بداخلها ثم انصرفت على عجل، وكانت ذات جمالٍ مُلفت انتبه إليه المريض والطبيب المُداوي الذي اسرج خيول فِكره خلفها، مما جعله يغمس قلمه الخشبي على الأرض متجاوزاً الدواية! فقال المحلق كأنَّما أراد أن يوضح لطبيبه أين تكمُنُ المهالك:
أكتب يا فقير ما تقول مريضك طاب
ما شُفت القبيل جابْتَ السَّلام بالباب؟
رقَّت من وَسِط وغِلدت مع القُرقاب
فِكرك انشغل، قـلمك مَليتو تـراب!!
ليس غريباً أن تكون للدوبيت إسهاماته في حل بعض الأزمات التي تطفو على سطح المجتمع، ومن ذلك قصَّةً طريفةً بطلها الشريف يوسف الهندي، الذي أراد أن يقترِن بفتاةٍ كان لها ابن عمٍّ شاب يرغب كذلك بالزواج منها، وعلى الرغم من أن سُلطة ابن العم في ذلك الزمان في شأن الزَّواج بابنةِ عمِّه سُلطة لا تدانيها سُلطة، غير أن ما امتاز به الشَّريف يوسف الهندي من مكانةٍ اجتماعية ودينيةٍ كبيرة جعلت منه منافساً لهذا الشَّاب، الذي أراد أن يحسم النِّزاع بحيلةٍ شعريَّةٍ فجاء إلى الشَّريف وقال له: لقد بَدأتُ مربعا شعريّاً فإن استطعتَ أن تكمله فسأتنازل لك عن الفتاة لتتزوجها، وإن لم تستطع فهي لي.
قَبِلَ الشريف يوسف التَّحدِّي وقال له: أسمِعني ما قلتَ، فقال:
حـارس لـيْ نِقـوعاً شِربنْ
بدافع عنَّهِن لامن نقوحِن قِربنْ
فأكمل الشريف المربع على الفور قائلاً:
شِربن ولبَّنن لامن طِـيورِن طِربنْ
عَوَضك الله في القُبَّال تنيشِن هِربن
عندها أقرَّ الشّاب بهزيمته، ولكنَّ الشريف يوسف وبما كان يتمتع به من حكمةٍ وزعامة تنازل عن الفتاة لابن عمِّها، وقال له أنت أحقُّ بها، بل ذهب لأبعد من ذلك عندما قام بدفع المهر!
وشعراء الدوبيت وجدانيون وشفافون يعبرون عن أشواقهم وعشقهم بطرق مختلفة ومبتكرة، ومنها استوسالهم بالحيوان والطير والأشجار والجماد ومخاطبتها ومناجاتها، وهو نهج يقع في أشعارهم الغزلية بانتظام، ومن لطائفهم في هذا الشأن قول صديق ود رانفي:-
كَـرْ يـا قُـمري الدَّمـاس لا تغـرِّدْ
لا تذَكِّرني آخـر الليل براي مِتمرِّضْ
الخلاَّني ألاقي المِحـن الكُبار مِتعرِّضْ
أسبابي المعرجن وكلُّ يـوم مِتحرِّضْ
وكقول عبد الباقي أحمد البشير الذي استحالت عليه محبوبته عندما غادرت الربع مع من تزوجها، فأخذ يهيم ويصف ويسأل الأشجار ويستحلفها:
إيــدِك تَــسَــوِّي قـلــوبا
وعينك حاكت الكشَّافه فـي البادوبه
سـألتِك بـالإله الليله ياللالـوبـه
سألتِـك بالإله: علويَّه وين رَحَلوبه؟
ولشاعر الدوبيت الغزِل لطائف عندما يتحدث عن صدود المحبوب، ومن ذلك قول الشاعر:
لي زماناً طـويل الصيده أمـارس فـيها
جـفلت وابعـدت تعـبان أنـا اللاًّفيـها
ناراً في الحشا غـيرك منو البطفيــها؟
يا روح اب حسن قـولة سلام شن فيها؟
ويغرقنا شعراء الوجدان في الدوبيت في لجة أشجانهم ودموعهم، يقول الشكري:
قلَّتْ المُقلْ مـن السُّـهـاد اتكـفَّـنْ
عـقبان يالقلب رنَّات نِغيمك هفَّــنْ
عليْ بريبة الدَّعـكن قـصيره وقفَّـنْ
الشوق حـدُّو فـاتو والدموع اتصفَّنْ
وفي ذلك يقول آخر:
الـبرق زادو لـمَّاع الـبروق الرِفَّنْ
وحرَّك سـاكن الأشواق بعد مـا ركَّنْ
يالتِّيبةْ الوخري السّحـابـو مـدفَّـن ْ
عليك النُّـوح مطوِّل والدُّموع ما جفَّنْ
ويقول الصادق حمد الحلال في معنىً وجدانيٍّ شفيف:
الليل تِلتو روَّح ونـجمـو ميَّل غَـرْبْ
وانا فوق ساقي لامتين يا مُزيلْ الكَرْبْ
حسس الماهو ماسك التيه وفاكِّ الدَّرْبْ
جاب ليْ عِـلَّةْ الكَبِد البتضرب ضَـرْبْ
وقد بدا لنا أن الشاعر الصادق حمد الحلال قد استفاد من ثقافة أخرى هي كرة القدم الرياضة المعروفة، ووظفها في أشعاره الغزلية، فجاء لنا بمعانٍ طريفة كما سنرى حالاً في مربعيه التاليين اللذين يقول في أولهما :
زولي الأنضف من دهب العجمْ فِـي اللـونْ
وأبيض من قَمر عَـشره الـبِضـوِّي الكونْ
عَمَلَتْ قَلبي كُـوره ورَتَـبتْـلُو الــعَـونْ
مرَّه تْـشُـوتُو آوُتْ ومرَّه جُـوَّه الـقَـونْ
ويقول في ثانيهما:
رأسيَّة أديبه عـندك فَـوقْ ندايدِك فَـوتْ
ضَـربِك للعشوقْ فُلَيخْ سِـيوفْ مُو سَوطْ
نَاس وَدْ دِقـمه مِتلي مهـددين بالمـوت
مِتِل كُـورةَ الهِـلالْ شَاتَتْ قُلوبُنْ شَـوتْ