عفيف إسماعيل.. يا لك من شاعر .. بقلم: محمد المكي إبراهيم طباعة
الثلاثاء, 24 حزيران/يونيو 2014 10:04
تكتب قصيدة النثر على اصولها.. تكتبها بشهية واتقان ودون ان تتصنع – كما يفعل الكثيرون والكثيرات - ذلك الغموض المقيت الذي يحاول ان يوهمنا بعمق غير حقيقي وغزارة لا وجود لها.
قصيدة النثر هي اقصى درجة من الحرية تتاح للشاعر العربي ولكن تحت اشتراطات قاسية فهي إذ تحرر الشاعر من الاوزان والقوافي وتتيح له امكانات التدفق والخوض في ادق الجزئيات فانها تتطلب منه ان يملأ القصيدة بالصياغات المجنحة والتراكيب المجددة واللغة الغنية الموحية وتتطلب منه ان يكون جريء الخيال يصطاد ويسطر علاقات نائية بين الاشياء (كل الاشياء من العلاقات البشرية الى اقباس التاريح الى الاجرام السماوية) وبالاضافة لكل ذلك تلزمه بايقاع لغوي (ايقاع وليس وزنا عروضيا) يعطي القصيدة انسيابيتها وغناها وفي اعتقادي انك قد وفيت ياعفيف اسماعيل بكل تلك الاشتراطات وربما زدت عليها. وفي اعتقادي انه منذ رحيل الشاعر السوري محمد الماغوط لم يأت من فرسان قصيدة النثر من يستطيع الوقوف الى جانب قامتك الفارعة. وأرجو أن لا تعتبر ان قولي مبالغة أو مدح اوتقريظ أو مجاملة لك إذ أن الوفاء بالاشتراطات الفنية شيء أولي وبسيط والاتقان والتفوق شأن آخر وهو ما يشبه قول النقاد القدامى في التفريق بين الناظم والشاعر. فليس
كل ناظم شاعرا ولكن كل الشعراء(العموديين) نظامون ماهرون بعد فراغي من قراءة عملك الشعري دخلت معك الى عوالم مختلفة ذات اشعاعية مغايرة فيها انبياء يسوقون أمامهم قطعانا من اليمامات وكرة ارضية تضع اصابعها في حلقها وتتقيأ حمولتها من البشر. رأيت خفافيش يتيمة وظلالا نعسانة وملائكة شديدة النصوع وحنانا صارما ورأيت "قردة تتدلى من الاغصان مثل ثريات داكنة" وشخصا "عاريا الا من البكاء يتعلق بأستار بيت الله." وكلها من تصاويرك التي علقت بذاكرتي، ثم نزلت معك الى كوكب الارض ومضيت اشاهد واشاهد الى ان وصلنا الى دارفور حيث رأيت:
بيوتا كئيبة الجدران
بلا ابواب خلفية
ثم ايقونة معلقة
وتحتها على بلاط الغرفة المعتمة
دماء خضر
ثم اطفالا من دارفور
مثل هياكل عظمية سمراء في لوحة سريالية
يتقاذفون جمجمة مثقوبة بين أرجلهم
ويغنون للمطر
لقد جعلت دمي يتجمد في ربيع كاليفورنيا الوديع ومضيت معك الى مزيد من ساحات المجازر وانت "تفنِّط" الالام:
اذا رأيت وأنت مغمض العينين
صورة طفل
يرضع ثدي أمه الميتة
فاعلم ان هذا الشقي
من دارفور
خلال سياحتي في انحاء هذا الديوان تعلمت ان آخذ حذري من سطرك الاخير أعني السطراو السطور الاخيرة في بنية القصيدة حيث تدخر لنا في معظم الاحوال مفاجأة من هذا العيار:
حين أفاق الحوذي/ تمتم هامسا:حمدا/حمدا/لعناية الاله العالي/ الذي سحق ذراعي/ ولم يصب بأذى حصاني.
وعندما تحكي لنا عن جدك الذي ينام مفتوح العينين تأتينا في نهاية القصيدة بهذه المفاجأة:
عندما مات/ ظللت أدلك ساقيه /منذ الضحى الى المساء/ فقد كنت أطنه نا ئما.
ثم هذا الشيخ الفاني في ضرامه الشهواني:
رجل في سن اليأس/بانتباه حاف/يرمق اهتزازات صبايا الرصيف المنعشة/يمضغ علكة منسية في فمه منذ خمسين عاما/ثم....يبصق آخر أضراسه وحيث انه لانهاية لهذه الامثلة فلنختم القائمة بهذا المثال الاخير وهو قصيدة بعنوان "أوثان"ويستوحي فيها القصة المنسوبة لعمر بن الخطاب في جاهليته حين جاع في الصحراء فاكل صنمه معبوده المصنوع من العجوة الشهية:
وطني/وثني/كفني/إني جائع/أآكلك/أم /ككل/مرة/ستأكلني؟؟
تستهويني خصوبة خيالك وقدرتك على التحليق المستمر واعتقادي ان ذلك هو منبع الشعرية التي تطفح من كل أسطرك وسر الجاذبية التي يتمتع بها شعرك بين الشعراء والقراء المدربين.
ولكن تبقى هنالك بضعة أمور كنت أود لو تشاورنا حولها قليلا قبل طباعة الديوان وهي امور تتعلق باستراتيجية النشر ولي حولها بعض الافكار وايضا بعض الخبرة.
منقول من سودانايل ...
/////////