أيُ عارٍ جَلبته لأُسرتك يا عبدُ الرحمن؟!فتحي الضَّـو
08-16-2014 03:32 PM
فتحي الضَّـو
(1)
في أثناء تأجج نيران الحرب الأهلية في أيرلندا الشمالية في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، قام الجنود البريطانيون بحصد أرواح ثلاثة عشر شاباً متظاهراً في شوارع بلفاست فيما سُمي بـ (أحد الدم) فاستدعى البرلمان وزير الداخلية لاستجوابه حول ملابسات ما حدث. فقدم الوزير إجابات بدا أنها لم تقنع سيدة عضو في البرلمان، فغَلى الدم في رأسها وفار كالتنور. ثمَّ غادرت مقعدها وتحركت بعصبية ظاهرة يدفعها غضب جامح صوب الوزير الذي كان يقدم إجاباته باطمئنان شديد، وبالطبع لم يدر بخُلده مُطلقاً أن السيدة سوف تصفعه وتعود إلى مقعدها كأنها كُلفت بأداء مهمة مُقدسة على الوجه الأكمل. وفي اليوم التالي خرجت بعض الصحف بعناوين صارخة صبت الزيت على النار، بما فيها صحيفة التايمز الرصينة والتي اختارت عنواناً أكثر إثارة (الآن اشتعلت الحِمية الأيرلندية)!
(2)
قامت سلطة العصبة الغاشمة باعتقال الدكتورة مريم الصادق المهدي بمجرد مغادرتها الطائرة القطرية التي وصلت مطار الخرطوم مساء يوم الثلاثاء الماضي، وكالعادة لم تقدم سبباً للاعتقال، مثلما أنه لم يدر أي أحد بالمكان الذي اقتيدت إليه إلا بعد أن سمح لها بإجراء مكالمة سريعة مع زوجها في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، فأخبرته بوجودها في مقر لجهاز الأمن أو بالأحرى أحد بيوت الأشباح بمدينة الخرطوم بحري. وفي ظل الغموض الذي طابق عمليات (المافيا) تلك، لم يكن بوسع المراقبين سوى اللجوء للتنجيم لمعرفة الأسباب التي لا تحتاج لكثير اجتهاد. فقد قدمت مريم من باريس التي وقَّع فيها والدها السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة ومالك عقار رئيس الجبهة الثورية (ميثاق باريس) وبغض النظر عن دورها أو عدمه، فالميثاق المذكور لم يتبين الناس ليله من ضحاه، وبالتالي لم يكن رجساً من عمل الشيطان حتى يتم اجتنابه. لكن النظام الذي دأب على ضخ السوء ظلَّ يفترض الشيء نفسه في كل من لا يدور في فلكه. على كلٍ بعد أن قضت مريم ليلتها تلك في بيت الأشباح، تمَّ تحويلها إلى سجن النساء بأمدرمان وما تزال تقبع بين جدرانه. فما الذي يمكن أن يشعل حمية الشقيق الحسيب عبد الرحمن الصادق المهدي يا ترى؟
(3)
لم نورد هذه الخاطرة اعتسافاً، بل لم يكن ديدننا أصلاً إقلاق مضاجع الشقيق المذكور، ولكنها الصدفة أو قل (الحبكة الدرامية) كما يقول أهل الفن السابع. فأثناء مطالعتي وسائط إعلامية متعددة طغى عليها تغطية خبر الاعتقال وما صاحبه من توضيحات وتحليلات وتداعيات، لاحظت صورة لا يصحبها أي تعليق أو خبر، تسللت لكل المواقع وجمعت بين الشقيق ونافع علي نافع، أو الحاكم بأمره في العلن سابقاً ومن وراء الكواليس حاضراً. بديا فيها وهما يتجاذبان أطراف حديث لا ندري كنهه ولكن الصورة جسدت حميميته ودفئه أو هكذا يخال لناظرها. وسواء كان حميماً أو منفراً فسيان الأمر لدى عبد الرحمن الصادق المهدي الذي دأب على الإصغاء منذ أن وطأت قدماه ردهات القصر الذي قتل فيه أجداده الجنرال غردون، وما تزال بقع دمائه المتناثرة على الدرج تستثير حميته ليستنهض تاريخاً تليداً وهو من الغافلين!
(4)
صورتان نقيضتان عصفتا بذهني، فداهمتني مرارة بطعم العلقم وانتابني أسىً عميق وأنا أتأمل المشهدين. وبرغم أننا وطَّنا أنفسنا على تقبل كل قبيح نضح وينضح من إناء العصبة ذوي البأس. إلا أنني لم أكن أتوقع أن يلهو الفاعل بالمفعول به في مواقف نعلم أن دولاً تحرك من أجلها الأساطيل، وأن شعوباً تستنفر من أجلها الجيوش، وأن أفراداً تشتعل حميتهم فيسترخصوا الغالي والنفيس حماية للعرض وإعلاءً لراية الكرامة. طبقاً لهذا لم يكن مطلوب من العقيد عبد الرحمن الصادق أن تُستثار حميته زوداً عن كرامة الشعب السوداني التي داستها حوافر خيول المغول. ولم يكن مطلوب منه أن يشاركهم الضراء التي ألحقها التتار بالبلاد والعباد. ولم يكن مطلوب منه أن يبكي شباباً غضاً حصدتهم بنادق جلاوزة الأمن. ولم يكن مطلوب منه أن يصغي السمع لحسرات الذين يقبعون خلف الجدران في السجون وبيوت سيئة السمعة. ولم يكن مطلوب منه أن يحس بآلام الذين حاصرهم الظمأ ونهشتهم المسغبة. ولم يكن مطلوب منه أن يحصي آهات الذين تكالبت عليهم الأمراض فعز الدواء والطبيب المداوي معاً. لقد كان المطلوب منه أن يجتاز امتحان جاءه يسعى في عقر داره، فرسب فيه بعد أن دفع ثمن تهوره مرتين في أعز ما يمت للمرء بصلة.. الوالد وما ولد!
(5)
إزاء عجز الولد، لاذ الوالد بمنفىً جديد ليس جراء ما اغترفت يداه بحسب ما يتراءى للناظرين، ولكن خشية أن يعيد التاريخ القريب نفسه مجدداً. أما الشقيقة فقد عزّ عليها جراء خذلان الشقيق أن تطلق من محبسها (زغرودة) داوية كسائر نساء أهل السودان في مثل هذه المواقف، زغرودة تهتز لها جدران السجن وترتج أذن السجان. لكن الذي حدث - يا سادتي - يعجز غبريال جارسيا ماركيز عن تجسيده. فبفضل ديكتاتورية الجغرافيا التي يذعن لها الناس وهم صاغرون، كانت الشقيقة تفترش متاع السجن البائس والشقيق على مرمى حجر ينام في مضجعه غرير العين هانئها. تكاد تسمع شخيره رغم الحوائط التي استطالت، وهي ليست كحوائط الراحل مصطفى سند في (الحزن القديم) ولكنها حوائط (الحزن الجديد) المبنية بعظام ولحم ودم هذا الشعب الصابر، والمُسورة بأنين المقهورين والغلابة والمظلومين، والمحروسة بالقوة والجبروت والاستبداد. وليته أصاخ السمع قليلاً وهو يتقلب في فراش السلطة الوثير، فلربما سمع شكواها وتظلمها وقلة حيلتها!
(6)
إن المقدمات الصحيحة تقود بالضرورة إلى النتائج الصحيحة كما يقول علماء المنطق، والعكس صحيح بالطبع. ومع ذلك احتار المراقبون وجرت الروايات مدراراً في تفسير انضمام عبد الرحمن لعصبة المؤتمر الوطني. وفي واقع الأمر ليس عصياً لمن عزَّ عليه أن يتبوأ مثل هذا المنصب في نظام ديمقراطي مكتمل الأركان، جراء افتقاره للخبرة السياسية الكافية أو الكاريزما القيادية، أن يأتيه ذات المنصب يجرجر أذياله في كنف نظام ديكتاتوري. وقد رأينا في مسرح العبث هذا كيف ابتذل الأبالسة المناصب حتى نالها الذين كلَّت بطونهم من أكل السحت. أما إن شئت ابحاراً عميقاً في لجج ما حدث، فستعلم – يا هداك الله – دون أن جهد يذكر أن الخطوة التي كانت عبارة عن صفقة قوامها أطراف ثلاثة. فأهل النظام بعد أن استعصى عليهم الدخول بباب حزب الأمة، قدر دهاقنته الدخول بالشباك. والسيد الصادق الذي ضيّع في الصيف اللبن، أصبح جل همه في وريث يكمل مسيرة الصراع الأزلي مع المتربصين بالحزب وكيان الأنصار من آل البيت المهدوي. أما عبد الرحمن نفسه فيقيني أنه ليس من فئة الذين يشغلون أنفسهم بهذا أو ذاك، أو حتى بالذي نحن فيه خائضون. وتلك حقيقة كانت مبلغ علم الأبالسة، فسخروها من أجل السيطرة عليه بوسائل يعرفونها وبرعوا في تطبيقها على آخرين حتى لم تبق في وجوههم مزعة لحم!
(7)
في أجندة الأطراف الثلاثة تلك، لسنا معنيين بالنظام وأحابيله فتلك سمة خبرها الناس عنه حتى لم يبق من درنه شيء يُذكر. أما المهدي فكالعهد به، استسهل معركة بمثلما استسهل معارك كثيرة يظل يخوضها في مضمار السياسة لنحو نصف قرن من الزمان. وطبقاً لهذا يبقى الحديث عن خطئه أو صوابه في هذا المقام مجرد ترف يلجأ إليه العاطلون عن الهموم. فالمهم أنه دافع دفاعاً مستميتاً عما اسماه بخيار الابن، وذاك منعرج تغلبت عليه صلات الدم أكثر من روابط السياسة. لكن مهما يكن من أمر فالمفارقة أن المهدي نفسه كان أول من تجرع معادلات الأبالسة التي ذكرناها آنفاً ضمن أجندتهم الخفية في الصفقة، فزجوا به في سجن كوبر لأكثر من شهر، ولم تعوزهم الإهانات فهم عصبة لا يعرفون غير الإذلال لغةً في التواصل. لكن عش رجباً ترى عجباً كما يقول الإعراب، فالمهدي الذي أقدموا على سجنه كان وقتئذٍ أقرب إليهم من حبل الوريد، ناهيك عن أن الاتهام نفسه الذي نهى عنه النظام أتى به بعض سدنته. من جهة أخرى بدا لنا أن الابن اللاهي في ملكوته لم يدرك أن السجون بُنيت للحرمان من الحرية، والتي هي أثمن ما يملك الإنسان في هذه الدنيا، بدليل إنه لم يجد في نفسه حرجاً أن يزور والده رهين المحبسين (السجن ومحنته) على رأس رهط من (المهاجرين والأنصار) وكأنه يشهِدهُم على سوء ما حصدت قدماه!
(
الآن بعد أن انكسرت الجرة وإندلق اللبن، وبعد أن تحولت المحنة من قضية سياسية إلى قضية أخلاقية، لابد للحائرين مثلنا أن يسألوا عبد الرحمن عن النبأ العظيم. ما الذي كسبه وفق ما خطط أو طمح له الوالد في تعلم أصول الإدارة والقيادة والحكم؟ هل يا ترى تعلم الصدق من رئيس نظام استمرأ الكذب؟ هل تعلم الأدب من نافع علي نافع الذي تبرأ منه لسانه؟ هل أخذ الحكمة من علي عثمان طه الذي حصّن نفسه بآيات المنافق الثلاث؟ هل استلهم الأمانة من عوض الجاز أو اقتفى مدارج الزهد من علي كرتي؟ هل التمس النزاهة من أسامة عبد الله أم استوحى الشفافية من عبد الحليم المتعافي؟ هل نال العلوم العسكرية من عبد الرحيم محمد حسين أم الحكمة من لدن بكري حسن صالح؟ هل أصغى السمع لمحمد عطا المولي وهو يحدثه عن حرمة قتل النفس وكيفية التحلل من الذنب؟ كيف يمكن للمرء أن يتعلم أصول القيادة من الذين جعلوا ميكافيلي مجرد تلميذ صغير في بلاطهم؟ كيف يمكن للمرء أن يتعلم أصول الإدارة من الذين حكموا بالخداع وتوسلوا النفاق وصار الكذب دينهم. كيف يمكن للمرء أن يتعلم أصول الحكم من سدنة نظام ديكتاتوري ولغت أياديهم في الدم الحرام، إذ فاق عدد الذين فتكوا بهم في دارفور عدد من قتل في شيكان وقدير وأم دبيكرات والجزيرة أبا وود نوباوي. وقد تجاوز عدد الذين قتلوهم في الجنوب أضعاف عدد الذين قدموا أرواحهم رخيصة في كرري!
(9)
يا عبد الرحمن خذ بيد شقيقك وأرحلا، فالحياة بلا كرامة كالأرض اليباب، ولا يمكن للمرء أن يبني مجداً على جماجم الشهداء، وأرتال المفصولين من الخدمة المدنية والنظامية، وجحافل العاطلين عن العمل، والقابعين في أقبية السجون والمعتقلات، والمشردين في معسكرات الذل والهوان، والمبعثرين في فجاج الأرض، والمنتظرين الذي يأتي ولا يأتي!
يا عبد الرحمن من دخل عش الدبابير لابد وأن يلدغ.. خذ بيد شقيقك وأرحلا فالذي تبحثون عنه قد تركتموه ببسطام!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر