في الذكري السنوية للإستقلال :
لماذا نحن (مكانك سِّر) !! بعد أكثر من نصف قرن من الإستقلال ؟؟
ــــ عثمان عبد الله ـــــــ
مـــدخل :ـــ
في ذكري اعلان الاستقلال من داخل البرلمان ـــ 19 ديسمبر ـــ هناك كثير من المثقفين السودانيين قالوا ان الإستقلال كان منحة او هبة من الإنجليز وهذا قول مردود سواء كان عن قصد او جهل، والحقيقة ان الإستقلال جاء نتاج تراكم نضالي من بعد هزيمة كرري، بظهور حركات النبي عيسي مروراً بحركة ود حبوبة ثم ثورة النوير تم ثورة اللواء الابيض وحتي اضرابات العمال في عطبرة والمزارعين في الجزيرة..
السؤال الملح هو لماذا لم ننعم بالحرية والديموقراطية والوحدة الوطنية اسوة او مقارنة بالشعوب التي نالت استقلالها في نفس الفترة الزمنية ؟؟
او لماذا ولد الاستقلال (خديجاً) أي غير مكتمل النمو ، مما حدا بالبعض ان يعبروا بصدق وعفوية (يا حليل الانقليز) !
هذا ما نحاول الاجابة عليه في هذا المقال :
الخلفية التاريخية للحركات الوطنية السودانية التي انجزت الإستقلال :
من الاخطاء الشائعة أن مؤتمر الخريجين والأحزاب السودانية فيما بعد نشأت علي إرث وثقافة ثورة 1924م بإعتبار ان ثورة 1924م هي النواة الاولي او البداية لحركات التحرر الوطني السودانية،
والصحيح هو :- أن مؤتمر الخريجين والأحزاب السودانية نشأت علي خلفية (مناهضة) وعداء ثورة 1924 ، وهذا ما سنوضحه .
قليلة جداً ونادرة أيضاً الدراسات التي تناولت ونقبت في ظهور ونشأت (الاتحاد السوداني) واللواء الأبيض ، من الدراسات القيمة جداً هي التي أعدها الراحل / خالد حسين الكد ــ له الرحمة ــ وعلي ما اعتقد أنها رسالته لدرجة الماجستير أو الدكتوراه ونشر الجزء الأول منها في مجلة الدراسات السودانية المجلد الثاني العدد الأول ابريل 1992م .
الدراسة بعنوان :-
(( الأفندية ومفهوم القومية في الثلاثين سنة التي أعقبت الفتح في السودان 1898-1928م )).
اهتمامي الشخصي بهذه الدراسة جاء نتيجة بحثي المتصل للإجابة علي سؤال طرحة الأستاذ / محمد إبراهيم نقد في كتابه ألتوثيقي: (علاقات الرق في المجتمع السوداني) وجاء السؤال معلقاً هكذا: (لماذا صمت ثوار 1924م عن مسألة الرق ومعظم قادتها وطلائعها من أبناء الأرقاء) ؟؟
وقد أفادتني هذه الدراسة كثيراً مع مقارنتها بالوثائق المستعرضة في كتاب الأستاذ نقد ، في كشف واستبيان الحياة الداخلية لتنظيم اللواء الأبيض وهذا ما لم تستعرضه كتب التاريخ ( المقررة ) !
دراسة الأستاذ الراحل / خالد الكد ، خاصة بطبقة الأفندية أو البذرة الأولي للطبقة الوسطي السودانية وتناولت الحياة الداخلية (الباطنة) لجمعية الاتحاد السوداني واللواء الأبيض والصراع الذي كان محتدماً بين أعضاء جمعية الاتحاد السوداني وانتقل بالتالي لتنظيم اللواء الأبيض :
( كان الصراع في جمعية الاتحاد السوداني في غاية التعقيد واشتمل علي كثير من الجوانب الاقتصادية/ الاجتماعية التي يمكن إخضاعها لمقياس واحد ، فإضافة للمقاييس الاقتصادية التي وضعتها (كوريتا ) – وهي باحثة يابانية كتبت كتاب علي عبد اللطيف ــ كانت هناك عوامل ذاتية تدخلت في تحيد موقف كل فرد من أعضاء الجمعية في الصراع )
ويضيف الراحل خالد الكد : (عندما جمع سليمان كشه القصائد التي ألقيت في احتفالات المولد ورأس السنة ونشرها في كتيب قدم له وجعل الإهداء إلي : (العرب النبلاء) استفز ذلك علي عبد اللطيف، و احتج وأصر أن يكون الإهداء إلي :
( السودانيين الشرفاء )
من هذا المقطع الموجز من الدراسة يتضح لنا عمق ذلك الصراع ووجهته ، والذي ضرب علية الإسلاف ستاراً كثيفاً من التعتيم .
ويمضي الراحل في درسته ( لقد كان الانقسام في الواقع تعبير عن مصالح مجموعات متباينة داخل طبعة الافنديه ، وهذه المصالح المتعارضة يمكن شرحها في محورين وينتج عن هذين المحورين محور ثالث سياسي ، فهي من ناحية كان صداماً بين مصالح الذين هيمنوا علي الأرض وبالتالي الثروة بعون السلطات البريطانية وصاروا يتطلعون لترسيخ وضعهم كطبقة برجوازية زراعية ، وبين مصالح الصفوة من الأفندية في المدن الجديدة ومجتمعاتها الجديدة ، ومن ناحية أخري كانت مواجهة بين ( أولاد القبائل ) وتلك العناصر (المنبتةُ) التي لا تعرف لها أصلا خارج هذه التركيبة الحضرية الجديدة .
وقد نتجت من هاتين المواجهتين مواجهة يمكن شرحها بسهولة في إطار المواجهة الأولي – بين مصالح طبقة البرجوازية الزراعية وبين طبقة الأفندية – ويصعب نوعاً ما شرحها في إطار المواجهة بين (أولاد القبائل) و (عديمي الأصل) !
إلا رحم الله الراحل المفكر الثوري/ خالد الكد الذي كان يمكن إن امهلتة الأيام - قليلاً – أن يشرح لنا تلك المواجهة بشكل أوضح وأصرح ... ولكن ماذا نفعل نحن غير أن نجتهد في :
( وطن أورادو موت اقمارو بالتعجيل
وطن ما بدي زهرة شمس غير الزلة والتنكيل )
أو كما قال الرائع هاشم صديق
اجتهادنا يأتي من خلال هذه الدراسة ، باعتبارها خارطة اجتماعية ، اقتصادية ، ثقافية ، سياسية – لتلك الفترة التاريخية الهامة في تشكل الوطن السوداني ، مع الربط بوثيقتين هامتين ومقال ثالث للراحل حسين شريف في جريدة حضارة السودان .
الوثيقة الأولي تحمل الرقم ( Sc /6/1/3 ) بدار الوثائق القومية بتاريخ 6 مارس 1925
من السادة / علي الميرغني ، عبدالرحمن المهدي ، والشريف الهندي ..
إلي السيد / مدير المخابرات البريطاني الخرطوم .
وقد استعرضها الأستاذ نقد في كتابة (علاقات الرق في المجتمع السوداني) وتمت اضاءات حولها ومقارنتها مع الواقع الاجتماعي / السياسي عقب ثورة 1924م (لا حظ تاريخ المذكرة) - بعد أربعة شهور فقط من ملحمة النهر والأستشهاد البطولي للشهيد عبدالفضيل الماظ – وذلك في كتابي : رحيق وعلقم الأوراق المنسية والذي لم تتم اجازتة في المصنفات وتتم مصادرته باستمرار من معارض الخرطوم للكتاب ، بعد نشرة من الشركة العالمية للطباعة والنشر القاهرة 2007 .
أهم ملامح هذه المذكرة ( الكارثية) التي تقف بصراحة ضد سياسة تحريرالارقاء تحرض السلطات البريطانية علي (العناصر المنبتة) وترجو عدم إصدار ( ورقة حرية ) للأرقاء في إشارة باطنة ( وغير زكية ) حتى لاينخرطوا مع رفاقهم في ( معمعان الثورة ) !
ونستقطع منها الأتي :-
*الأرقاء الذين اعتقوا لا يصلحون لأي عمل ويعتبرون ورقة الحرية جواز للتحلل من أي مسئولية وخلدوا للخمول والخمر والدعارة ...
واختتمت المذكرة بـ ( نتمنى أن تأخذ الحكومة هذا الأمر بعين الاعتبار وان تصدر اومرها لموظفيها في مواقع السلطة بالا يصدروا أي ورقة حرية ........ الخ )
الوثيقة الثانية هي :-
برقية ( كبار القوم ) وهي برقية ( كارثية ) أيضاً موقعة من قبل اكثر من (40) رجلاً من (زعماء القبائل) والطوائف (المستعربة) الي الحاكم العام البريطاني ضد ثوار سنة1924 وهي من شاكلة برقيات التأييد (الممجوجة) التي تعقب كل (مارش عسكري) .. اضربوا بيد من حديد علي الخونة ......... الخ .
(الوثيقة في كتاب الثورة والسلطة في السودان صفحة36)
الوثيقة الثالثة :-
مقال ( كإرثي ) للسيد حسين شريف عقب هزيمة الثورة جاء فيه :
الويل لأمة يتصدرها ويتحدث باسمها أمثال علي عبد اللطيف ....... كيف هان علي هذه الأمة ترك مقاليد أمرها لهؤلاء الغوغاء ......... الخ
يمكن قراءة الخارطة الاجتماعية الاقتصادية كالأتي :-
1/ مجموعة الملاك ( البرجوازية الزراعية ) الوليدة التي نشأت تحت رعاية السلطة البريطانية وقمة هرمها هم زعماء الطوائف الثلاثة .
2/ مجموعة (الأفندية) – الطبقة الوسطي – وهي كما أتضح تيارين :
( أولاد القبائل ) والتيار الثاني هم أبناء الأرقاء أو ( هجين السلالات ) أو أبناء السراري وهذه المجموعة هي التي كونت جمعية اللواء الأبيض وقادت ونفذت ثورة سنة 1924 ، ومن ذلك الصراع في داخلها بين (عديمي الأصل) وأبناء القبائل المدعومين من (البرجوازية الزراعية) – أباؤهم وأعمامهم ومن (تلك المواجهة التي صعب شرحها) جاءت ضربتها ثم إجهاضها – أما عدم دعم الجنود المصريين للبطل عبد الفضيل الماظ في معركة النهر فهذا سبب جانبي وغير مؤثر بشكل حاسم في هزيمة ثورة سنة 1924 .
بقراءة متأنية لخارطة الواقع – سالفة الذكر – نجد أن هنالك خيطاً قوياً يربط بين هزيمة ثورة سنة 1924 -28 نوفمبر 1924 ومذكرة زعماء الطائفية مارس سنة 1925 ، حيث أن ( الجو العام) كان معباءاً ضد أبناء الأرقاء ( هجين سلالات الفخار والفن ) باعتبارهم قادة وطليعة الثورة لذا جاءت المذكرة ( كتبرئة ذمة ) من هؤلاء (الخارجين عن بيت الطاعة البريطاني ) حتى ( يقطع الانجليز الشك ) بان هؤلاء الزعماء ومن والوهم ضد حركة 1924 ولا تربطهم أي وشائج مع هؤلاء ( الغوغاء ) .
(راجع مقال حسين شريف)
في اعتقادي أن أول ضربة وجهت لحركة التحرر الوطني السودانية هي هزيمة ثورة 1924 والتي كانت تحمل في (جيناتها) (كورزوم ) الحرية والاستقلال من خلال فكر قادتها وطليعتها بانتماءاتهم الطبقية والثقافية وتمردهم علي الواقع الردئي ، وقاعدتها العريضة التي ضمت ( الصنايعية) وفقراء المديية في معظم مدن السودان وقراه الكبيرة .
( راجع كتاب الثورة والسلطة في السودان )
ليس من باب الرجم بالقلب انه لو رجحت كفة ميزان القوي لصالح مجموعة علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ ، كان من الممكن ان تكون أساسا صلباً لحركة استقلالية وطنية بعيدة النظرة عميقة المحتوي في مجري الثورة السودانية والأفريقية، ولكن هزيمتها أدي ( لعلو صوت ) تحالف (البرجوازية الزراعية الوليدة / زعماء الطوائف الثلاث مع ( أولاد القبائل/ الأفندية ) الذين كونوا فيما بعد نادي الخريجين .
اذن علي أرضية وتحت مناخ مناهضة حركة 1924 ولدت وشبت الحركة الاستقلالية بأنديتها وأحزابها ومدارسها وكان منتجوها من أهداف وشعارات بقدر قامتها الثقافية والفكرية ومحدودية (حلمها) وارتباط مصالحها الاقتصادية مع الاستعمار البريطاني .
فالحركة الأستقلالية، طرحت شعار : تحرير لا تعمير مقابل ما طرحته الجبهة المعادية للاستعمار بضرورة اكمال الأستقلال بمحتواه الإقتصادي الإجتماعي والسياسي ، من خلال برامج تنموية تساهم وتدعم الأستقلال والإعتماد علي الذات .
ولذي أخذت ــ كل الحكومات المتعاقبة، مدنية او عسكرية او مختلطة ـــ تراوح ردحاً من الزمان ليس بالقليل – في تاريخ الشعوب – بين مشروع دستور إسلامي غير واضح المعالم وإسلام صحوة ، وإسلام صفوة وحلم طوباوي بإرجاع حكم السلف . وفوق كل ذلك تشبث بانتماء عربي (متهافت) إضافة لتكريس الالتباس القائم - حتي ألان - في مفاهيم معرفية أساسية فمثلاً : لا زالت كلمة قومي / قومية تنسب أو يراد بها مجموعة أو فئة اجتماعية محددة داخل النسيج السوداني الكلي ؟؟ مما جعلنا نقع ثانية في براثن القبلية الكريهة .
وهذا ما جعلنا ( مكانك سر ) لأكثر من نصف قرن بعد الاستقلال حتى صار لسان حال ( سواد سوداننا الأعظم يردد ما قاله (حميد) في لحظة ضجر وحزن مشروعين :-
وطن بالفيهو ما هولك
ولا الزول ألبي خيرو بات زورك
وكت تكدح تتم حولك
تباصر الموية بالسرقة
درادر وتلتله وعلقه ويصادر الوالي محصولك
يلذ ضل المقيل تعبك
ينسل منجلك قصبك
ويهزلك راسو قندولك
وفي الختام :-
التحية والتجلة لذكري ثورة 1924 ولبسالة قادتها وطلائعها، ولكل شهداء الحركة الوطنية والديموقراطية من الشهيد/ قرشي الطيب والي أخر شهداء الحركات الطلالبية والمطلبية و الاعزار والإكبار لكل البطولات ( المنسية ) في تاريخنا الوطني الحديث و التحية لكل من خط علي التاريخ سطراً بالدماء ولكل قلم جرئ حاول ويحاول التوثيق الجيد الدقيق لتاريخنا الوطني وذلك بالحث والكتابة وكشف ونشر المستور والمسكوت عنه .
وعاشت ذكري استقلالنا المجيد
مراجع :-
1/ الثورة والسياسة في السودان – تيم نبلوك .
2/ علاقات الرق في المجتمع السوداني – محمد إبراهيم نقد
3/ مجلة الدراسات السودانية ابريل 1992
4/ رحيق وعلقم الأوراق المنسية – عثمان عبد الله
5/ إفادات شفاهية من راحلين عاصروا أحداث الثورة