(( تمر هذه الأيام الذكرى السنوية لكل من الأستاذ الشهيد محمود محمد طه، الأستاذ الفنان المبدع مصطفى سيد أحمد والفنان المبدع محمود عبد العزيز. وفي اعتقادي أن كل منهم قد فجر ثورة في مجاله، وقاوم الظروف السالبة المحيطة به، والحصارات التي لم تتركهم الثلاثة حتى آخر رمق في حياتهم، ورغم ذلك فقد شقوا طريقهم ببسالة وتحدوا العقبات التي اعترضتهم حتى رحيلهم بجسارة وشموخ.
فالأستاذ الشهيد محمود محمد طه_ لو صح القول _ عمل باجتهاد على سودنة الدين الإسلامي كي يتواءم مع المجتمع السوداني بكل تعقيداته وتنوعه المناخي، العرقي، الديني واللغوي، وقد بذل غاية جهده في أن يتسق المعتقد مع وضاءة الفكرة، ونقاء الوجدان، والمصادمة في الرأي. فلم يتنازل عن مشروعه المعرفي والثوري حتى وهو في محاكم التفتيش ليلقم نميري وقضاته حجرا حين قال.......( أنا أعلنت رأيي مرارا في قوانين سبتمبر ١٩٨٣م من أنها مخالفة للشريعة والإسلام. أكثر من ذلك فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفرت عنه، إضافة إلى ذلك أنها وضعت، واستغلت لإرهاب الشعب، وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله، ثم أنها هددت وحدة البلاد. هذا من حيث التنظير. وأما من حيث التطبيق، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين )*، حيث حاكم جلاديه أمام العصر والتاريخ قبل أن يتوجه إلى حبل المشنقة بكل ثبات وهيبة واقتدار، فلم تشفع له سنه في محاكم الردة الفاشية ولا طروحاته ومساهماته الفكرية الثرة. فالمعروف للقاصي والداني أنه وقف ضد الريح وسبح ضد تيار الهوس الديني والإسلام السياسي في تبدياته الأولى في السودان من خلال قوانين سبتمبر ١٩٨٣م ، والتي كرست لأدلجة ودمج الدين السياسي القبيح في حياة المجتمع السوداني آنذاك، ولا زلنا نكرع من هذه الكأس المسمومة حتى الآن. عودا لصاحب (هذا أو الطوفان) وغيرها من المؤلفات الفخيمة فأنه ببصيرته النافذة قد تمكن من فك طلاسم الخطاب الديني للإسلامويين وقوى الظلام، ولم يكن ناقدا فقط، ولكن مجتهدا وطارحا لفكرة مغايرة جوهرها الحرية تماهت مع روح العصر وما أنجزته وتنجزه البشرية في مجتمعاتها الحديثة. اختلفنا أو اتفقنا مع الأستاذ ومدرسته الفكرية وتنظيمه (الأخوان الجمهوريين) فلا أحد يستطيع أن ينكر أنه اعتمد على احترام الآخر مبدأ، والاجتهاد منهجا، والحوار لغة، حب الوطن انتماءا، المواكبة ديدنا، والانفتاح المعرفي هدفا، والصدق والمبادأة عملا. نعم ذهب الأستاذ محمود ولكنه ترك لنا سفر ضخم، والكثير من الأسئلة المستفزة والمربكة التي تحتاج لإجابات جريئة وعميقة في هذا الواقع الصدئ، والتحديات التي تحيط بالبلاد والعالم من حولنا.
أما الأستاذ الفنان مصطفى سيد احمد فقد عبر عن مرحلة ومساحة وحالة جمالية ومعرفية ومشروع تثقيفي تنويري رائد. انداح بكثافة تلقائيته العميقة، وثقافته الموسيقية والإنسانية الرفيعة، مع موقفه المتطور تجاه الفن باعتبار أنه معطى جمالي لا بد أن يسهم في تهذيب الوجدان وتعميق الشعور بالإنسان من خلال هواجسه، قضاياه، طموحاته المشروعة وأحلامه في الحرية، العدالة الاجتماعية وترقية الواقع بأبعاده المختلفة نحو الأفضل. عبر من خلال أغنياته عن المسحوقين والمعدمين والهامش ، وتناول أسئلة السياسي الشائكة والجافة بخطاب عقلاني متسائل يفجر العديد من الأسئلة، ويحرض المتذوق بألق الأداء الفخم في بساطته والعميق في معالجاته الصوتية الأثيرة، مع تناغم الكلمة الجامحة واللحن الطروب. فجر مصطفى ثورة غنائية عاصفة استبطنت كل تاريخ فن الغناء السوداني، مع الاطلاع على كل المنتوج الغنائي السوداني المتنوع بإيقاعاته المختلفة، موسيقاه، قوالبه اللحنية، وثراء وخصوبة مناهله. وعبر تنقيبه الذكي ووعيه المفارق توصل إلى توليفته الخاصة، وابتدر مشروعه الجمالي بمفردات اختلفت عن سياق ما تواتر من أغنيات قبله، وهو في طريقه التنويري هذا أضاء المهمل من إنتاج الشباب الشعري الحداثوي وما بعد الحداثوي حيث أظهر العبقريات الشعرية والإبداعية الباذخة لصلاح حاج سعيد، عبد العال السيد، مدني النخلي، أزهري محمد علي، يحي فضل الله،قاسم أبو زيد، عبد القادر الكتيابي، محمد المهدي عبد الوهاب، عاطف خيري، حميد، الصادق الرضي، وبشرى الفاضل، عبد الوهاب هلاوي،هاشم صديق والقدال وغيرهم. اكتست أعماله بالصور الشعرية المفعمة بالحيوية والنابضة بالجمال ليصل من خلال أعماله إلى بؤرة التحريض الجمالي البديع، والثورة على المعالجات الشعرية السطحية؛ بل عكس الحياة الاجتماعية من خلال منظور مختلف ، فالمرأة التي كانت سيدة الحسن والجمال قبله ؛ إذ لم تترك الأغنيات ما قبله جزء من جسمها لم تتغزل فيه أضحت عبر خطابه التوعوي ذلك الإنسان المنتج والمساهم في إنتاج الحياة، فهي الأم، الأخت، الزميلة في العمل، الحبيبة والزوجة والرمز للوطن مع التأكيد على حقوقها الأساسية وإسهامها الإيجابي في حياة المجتمع. مصطفى سيد أحمد شكل نقلة نوعية في مسار الأغنية السودانية وتعامل مع الفن كرسالة سامية، وفعل تحريضي، وتطوير للتراث الغنائي والموسيقي؛ مع مشاركة المتلقي في إعادة إنتاج الحياة جماليا.
أما محمود عبد العزيز فهو ظاهرة غنائية تستحق الدراسة والوقوف عندها كثيرا. فمع صغر سنه نسبيا وهو يوطد في أركان مملكته الغنائية، ومحدودية قدراته الثقافية والحياتية انطلق بكل عنفوان الشباب يسابق أجله بإنتاج الكثير من الأعمال الغنائية التي ولجت وجدان الملايين قبل آذانهم فانتج ألبومات خلي بالك، سكت الرباب، يا عمر، سيب عنادك، جواب للبلد، سبب الريد، يا مدهشة، يا مفرحة، لهيب الشوق، في بالي، زمني الخاين، الحجل بالرجل، ما تشيلي هم، على النجيلة، نور العيون، برتاح ليك، قائد الأسطول، القطار المر، خوف الوجع، مرت الأيام، أتفضلي، الحنين، يا زول يا طيب، إذ تغنى ب ٢٥٠ أغنية في ألبوماته، وقد بلغت أغنياته الخاصة ١٢٥ أغنية، والمسموعة منها ٧٤ أغنية غير أنه لديه ٥٠ أغنية مسجلة بالتلفزيون. ساعدت محمود في كل ذلك قدراته التطريبية العالية والخامة الصوتية المتميزة بصوته الغليظ الحاد؛ حيث امتلك حنجرة ماسية أهلته للانتقال في جميع الدرجات الصوتية دون جهد يذكر. كما أن كاريزماه الفنية العتيدة مكنته من إنتاج نموذجه وأسلوبه الغنائي الخاص به حتى أصبح نموذجا يحتذيه من هم بعده. يمكن القول أن محمود اعتمد على سليقته العفوية، وبصيرته الإنسانية النقية للوصول إلى قمة الأداء . وما ميزه عن الكثيرين ممن قبله ومعاصريه التحامه المطلق مع جمهوره بدءا بتعبيره عن احباطاتهم من واقع القهر، البطالة، الفقر والضياع، وصولا لتبنيه لمشروعهم الرافض لما يدور حولهم ، إضافة لبث روح الأمل فيهم بأن القادم أروع مهما كان. محمود كان بلا جدال فنان الشباب الأول لأنه توغل في خباياهم، وخبر آلامهم واحتياجاتهم؛ فلا غرو أن تنحاز له أكبر شريحة في المجتمع لدرجة أن يفوق جمهوره عمالقة فن الغناء السوداني.
نخلص من كل ما سبق أنه صحيح أن المرجعية الفكرية لكل من الأستاذ محمود محمد طه، الأستاذ مصطفى سيد أحمد والفنان المبدع محمود عبد العزيز مختلفة ولكن ما جمعهم هو الانتماء لتراب هذا الوطن وإنسانه، أيضا الفعل التحريضي والثوري عندهم، وكل منهم عالجه بطريقته الخاصة تدعمه طاقة الدفع والفاعلية الخاصة به، وانتماءه لعوالمه الساحرة والآخر. يضاف إلى ذلك تفجير كل منهم لأقصى قدراته الكامنة وصولا لإنتاج فعل حياتي مختلف تحضره المثابرة والسعي للتجويد، والانتماء لمطلق الفكرة والتجربة والناس بتواضع تام وزهد نبيل دونما ضجة أو ترفع. تلخص مشروعهم الأسطوري في تجاوز الأزمنة الكسيحة، حصارات السلطة والظروف الصحية العنيدة وخاصة في حالة مصطفى ومحمود عبد العزيز، كانوا دوما يسابقون زمنهم الداخلي ويتسامون فوق جراحاتهم من أجل إنتاج ذهني، إنساني، اجتماعي متفرد ومختلف. هاموا عشقا بشعبهم وارتبطوا وجدانيا بجمهورهم ومحبيهم في علاقة سادها الانتماء الصادق والحب العميق والاحترام والعطاء، فلم يبخلوا عليه بفكرة، لحن، وعي، عاطفة أو روح.)). عباس الامين / سودانيزاونلاين