ثورة أكتوبر السودانية التي أسقطت نظام إبراهيم عبود في 1964 حدث فريد في تاريخ السودان الحديث،
ولعل الرمز الذي هيمن على أفق الثورة يلخص طبيعتها تلخيصا مجازيا. وهذا الرمز هو الطالب الجامعي أحمد القرشي، الذي أردته قوات الأمن قتيلا عقب مواجهاتها مع الطلاب في حرم جامعة الخرطوم. كانت ثورة أكتوبر، و بالدرجة الأولى، ثورة الطلاب والمهنيين (أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة جامعيين وموظفين) والعمال (خاصة عمال السكة حديد)، وكانت، وبالدرجة الأولى، ثورة حضرية لم يكن الريف حاضرا فيها الا حضورا رمزيا وشعاريا. وبتعبير آخر كانت ثورة ذلك القطاع المؤثر الذي أصبح يعرف بـ (القوى الحديثة). ولقد انعكس ذلك الواقع السياسي ـ الاجتماعي على سلاحها الأساسى في مواجهة النظام العسكري ألا وهو سلاح الاضراب السياسي، كما انعكس على صياغة ميثاق الثورة الذي أبرز المطالب الستة التالية: قيام حكومة مدنية انتقالية تتولى الحكم وفق دستور 1956 المعدل; اجراء الانتخابات في فترة لا تتعدى شهر مارس 1965 لجمعية تأسيسية تمارس السلطة التشريعية وتضع الدستور; اطلاق الحريات العامة، والغاء القوانين المقيدة لها; تأمين استقلال القضاء وجامعة الخرطوم; اطلاق سراح المعتقلين السياسيين; وانتهاج سياسة خارجية في فترة الانتقال ضد الاستعمار والاحلاف. لقد كان الصعود السياسي المتسارع للقوى الحديثة أمرا طبيعيا في فترة المد الثوري الأولى، الا أنه صعود ما لبث أن انحسر لأنه لم يعكس موازين القوى السياسية على الأرض.
ولعل الإخفاق الأساسي الذي أعقب انتصار ثورة أكتوبر هو العجز عن الوصول لـ (عقد ديمقراطي) بين القوى السياسية، يؤسس لقاعدة صلبة لحكم القانون والشرعية الدستورية والتداول السلمي للسلطة، وهو اخفاق لا يزال السودان يعاني من عواقبه. والإخفاق الآخر الهام هو عجز القوى الشمالية عن الاعتراف بحق الجنوبيين في حكم فيدرالي أو في الانفصال لو شاءوا. وقاد الإخفاق الأول لحل الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965 بدعوى أنه حزب إلحادي، وكان هذا أكبر تنكّر لمبدأ حق التنظيم في ظل الديمقراطية. أما الإخفاق الثاني فقد ثمثل في فشل مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد في مارس 1965 للوصول لاتفاق بشأن الجنوب، ثم تواصل في تكثيف الحرب الأهلية، حال بدء أول وزارة منتخبة في مزاولة أعمالها، وهي وزارة أعطت الجيش تفويضا تاما مكّنه من مواصلة جرائمه وانتهاكاته البشعة في الجنوب. وفي فترة ما بعد أكتوبر برز عنصر جديد في الواقع السياسي وهو عنصر الإيديولوجية، وارتبطت هذه الظاهرة تحديدا بالصراع بين اليمين ممثلا في حركة الإخوان المسلمين (أو ما عرف بجبهة الميثاق الإسلامي) واليسار ممثلا في الحزب الشيوعي. وكان الخطاب الإيديولوجي السائد، سواء في تجليه الإسلامي أو في تجليه الماركسي ـ اللينيني، خطابا معاديا للديمقراطية الليبرالية. ولم يكن ذلك الواقع انعكاسا لما يجري فقط في السودان، وانما كان يعكس أيضا واقع الاستقطاب العالمي بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، وواقع الاستقطاب الإقليمي. وعقب حلّ الحزب الشيوعي انفرد الإسلاميون بالمسرح الإيديولوجي وتصاعد شعارهم الداعي لـ (دستور إسلامي) ليصبح شعارا مهيمنا، وطغت الإيديولوجية عندهم لتصبح إصراراً على إخضاع كل مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والثقافية، إلخ، لبرنامج (أسلمة) شاملة تطال كلّ صغيرة وكبيرة.
والسؤال هنا ماذا تعني أكتوبر إذن بعد ثلاثا وأربعين عاماً شهدت عسفاً عسكرياً استمر ستة عشر عاماً تحت ظل نميري، وفترة برلمانية مزعزعة أجهضها انقلاب عسكري آخر ما زال السودان ينوء تحت عسفه؟ إن أكتوبر أصبحت مرادفة في الوعي السياسي للسودانيين للتخلص من استبداد الأنظمة العسكرية وتحقيق الديمقراطية، ورغم خيبة الأمل التي أعقبتها فإن قيمتها كأهم حدث ملهم بعد الاستقلال تبقى حية ودائمة. وعندما نتحدّث عن أكتوبر كحدث ملهم، فإننا نؤكّد بالإضافة لما حققته لما نفترض أنها تنطوي عليه وتشير في اتجاهه، حتى وإن لم يتحقّق. فأكتوبر كهبة شعبية سلمية تؤكد على بعدين هامين: بعد الديمقراطية كممارسة شعبية وبعد اللاعنف وقدرته على قيادة عملية التحول الديمقراطي. وبذا فإن التحدي الأبعد الذي طرحته أكتوبر هو تحدي الثقافة الديمقراطية، بعث هذه الثقافة ونشرها على كل المستويات، إذ أن الديمقراطية كممارسة لا تقتصر على مجال الممارسة السياسية أو المجال العام و إنما تمتد أيضا للمجال الخاص أو مجال العلاقات الأسرية و باقي مجالات المجتمع المدني. إن خطورة الاستبداد لا تكمن فقط في مظهره السياسي، وإنما أيضا في قدرته على التسرب لكل مظاهر الحياة عندما يتحول إلى نمط سلوكي يحكم علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الأب بأبنائه وعلاقة الاستاذ بطلابه وعلاقة الرئيس بمرؤوسيه، إلخ. عندها يصبح الاستبداد تسلطا مؤسسياً وفكرياً ونفسياً يقتل الابداع والقدرة على النمو. ومن الخطأ احاطة ثورة أكتوبر، أو أي ثورة أخرى في واقع الأمر، بأي غِلالة رومانسية، ولكن من الضروري استكشاف ما تحتشد به أكتوبر من إمكان ومحاولة الإمساك به. ولأنّ السودان لم يخرج حتى الآن من وهدة الاستبداد العسكري فإن نموذج أكتوبر ما زال نموذجاً ملائماً، رغم التشكيك في ذلك من قبل الذين يصرّون على ضرورة حسم الصراعات من خلال فوهة البندقية.
إنّ ما كتب عن ثورة أكتوبر حتى الآن من باب التوثيق والتحليل ما زال نزراً يسيراً، والمؤسف أن الكثيرين من الذين شاركوا في صناعة أكتوبر قد ماتوا من غير أن يتركوا أثراً مكتوباً، ومن غير أن يقوم الدارسون بالتوثيق عنهم. إنّ السودانيين مطالبون بأن يعاملوا ثورة أكتوبر كحدث مركزي و(بوصلي) في تاريخهم الحديث، وأن يعاملوها مثلما يعامل الفرنسيون الثورة الفرنسية. وإن كان الاستقلال يمثل لحظة الميلاد الأولى ولحظة الانعتاق من قهر (الآتي من الخارج)، فإن أكتوبر تمثل لحظة الميلاد الثانية ولحظة الانعتاق من قهر(الآتي من الداخل). والقهر الأخير أقرب إلى السودانيين من (حبل الوريد)، وهذا هو ما يجعل أكتوبر نموذجاً مقيماً يحثّ السودانيين ويلهب وجدانهم للسهر على مكتسباتهم الديمقراطية عندما تتحقق والعض عليها بالنواجذ.