شاعر الحب مما لاشك فيه أن حب أحمد رامي لأم كلثوم كانت الجذوة التي لم تنطفئ خلال حياته والتي أوصلته إلى الخلود أحمد رامي شاعر ذو موهبة رائعة في نظم الشعر أجزل الله له العطاء في موهبة الشعر ولمع اسمه في أوائل العشرينات حتى خيل للناس أن لا خليفة لأمير الشعراء غير أحمد رامي
و في منتصف العشرينيات التقى أحمد رامي بأم كلثوم فإذا به يضعف أمام سحرها وتلين موهبته لإلهاماتها فينصرف عن الشعر إلى نظم الأغنية الدارجة لها، وتستمرئ عاطفته مرعى ذلك الصوت الخصيب حتى يكاد ينسى نفسه، وينسى موهبته الأصيلة، وينسى ما جبل عليه وما خلق له، قرباناً لوتر أم كلثوم . ولكن في نزول احمد رامي من قمة الشعر إلى سهل الأغنية الدارجة، لم يهبط عبثاً وإنما حمل رسالة أدبية وقومية ضخمة، هي رسالة الوثوب بالأغنية الدارجة من السفوح إلى القمم، في الكلمة والمعنى معا، واستطاع أن يطوع الصور والمعاني الشعرية العالية للكلمة العامية وأن يرقق عواطف العامة بالشجن والأنين والذكريات وغيرها من الكلمات التي تخلق الصور، والتي لم تعهدها الأغنية الدارجة من قبل حتى صارت أغنية رامي مميزة على كل أغنية غيرها بشيء جديد، هو قربها إلى الشعر، وحتى أصبح رامي زعيم مدرسة في الغناء، لم يتأثر فيها المؤلفون وحدهم، وإنما امتد تأثيرها إلى روح الملحن وحنجرة المغني أيضا ولكن في السنوات الأخيرة من نظمه الشعر ارتد رامي عن الكلمة الدارجة إلى الكلمة الفصحى وعاد إلى الإيمان بما خلق من أجله، وقد خلق ليكون على القمة التي يقف عليها أعلام الشعر العربي في هذا الجيل فمن هو الشاعر أحد رامي الذي جعل من شعره عرشاً تتربع عليه سيدة الغناء العربي أم كلثوم وصاغ لها أرق العبارات وأعذب المعاني من إحساس وشغف وعشق لصوتها يقول عنه أحد الشعراء : ( لم اعرف من بين سير الشعراء سيرة أكثر شاعرية من سيرة أحمد رامي الشاعر الذي انتقل من مروج النرجس في جزيرة طاشيوز اليونانية إلى الحياة بين القبور في حي الإمام ثم إلى مجامع المتصوفين في حي الحنفي، ثم إلى عشرة الشاعر الخيام تحت أضواء باريس، ثم إلى الفردوس الذي مدته لخياله أم كلثوم
أحمد رامي من مواليد القاهرة ولد والنغم ملىء أذنيه…وكان أبوه وقتها طالبا بكلية الطب .. و كان أبوه شغوفاً بالفن يجتمع لديه دائما أهل الفن والطرب وعندما تخرج والده من كلية الطب أختاره الخديوي ليكون طبيبا في جزيرة يونانية ( جزيرة طاشيوز ) كانت ملكا خاصا للعباس الثاني كانت حياة أحمد رامي في السنين الأولى من حياته في هذه الجزيرة هي سنوات التفتح في براعم الأخيلة وهكذا تفتح برعم خياله على غابات اللوز والنقل والفاكهة، والبحر والموج والشاطئ .. وكانت ملاعبه هناك بين مروج النرجس الكثيفة هذه المروج التي كانت من قبله ملاعب لهومير وغيره من شعراء اليونان الأقدمين ….. وعاد رامي من هذه الجنة وعمرة تسع سنوات ليلتحق بالمدرسة وقد وعي اللغتين التركية واليونانية تاركاً أهله في الجزيرة ليسكن عند أقاربه في مصر في بيت يقع في حضن القبور بحي الإمام الشافعي، فاستوحشت نفسه وانطوت على هم وحزن عميقين
وعندما رجع أهل أحمد رامي من الجزيرة اليونانية عاد أحمد مع أهله إلى حي الناصرية في القاهرة وما لبث أن تركه أبوه برعاية جده لكي يسافر إلى السودان .. فعاودت أحمد الوحشة بعد الإيناس ولولا أن خفت حدتها على نفسه إذ أنه كان يستأنس من خلال نافذته التي تطل على مسجد السلطان الحنفي حيث يمضي كل ليلة في الاستماع إلى مجامع المتصوفة يتلون أورادهم ويرددون ابتهالاتهم واستغاثاتهم في نغم جميل . وكان يأنس في النهار بمكتبة قريبه من بيت الرافعي وهو بيت علم وأدب وثقافة ووطنية … فكان أحمد يقضي بها جل وقته وكان أول كتاب وقع في يده فقرأه وتشبع به وحفظه عن ظهر قلب هو كتاب ( مسامرة الحبيب في الغزل والنسيب ) كلها مختارات من شعر العشاق والغزليين وهذا الكتاب لعب الدور الأول في حياة رامي ، فقرر مصير حياته …ومن خلال قراءاته من هذه المكتبة تعلق قلبه بحب الأدب وكان هناك جماعة أدبية اسمها جمعية النشأة الحديثة يجتمع في رواقها كل خميس جماعة من فحول ذلك الجيل .. ومنهم لطفي جمعة وصادق عنبر وإمام العبد … وقد توسم صادق عنبر في أحمد الصغير خيرا وسمعه يتلو الشعر في هذا الرواق الأسبوعي وواتته في هذا الرواق فرصة سانحة قرأ فيها أول قصيدة من نظمه وهو يومئذ في الخامسة عشرة من عمره وكانت أولى قصائده وطنية قال فيها يا مصر أنت كنانة الرحمن في أرضه من سالف الأزمان ساعد بلادك يابن مصر ونيلها .. واهتف بها في السر والإعلان وأول قصيدة منشورة له كانت في مجلة الروايات الجديدة ومطلعها
أيها الطائر المغرد رحمــاك………فإن التغريد قد أبكاني
أنت مثلت في الغناء غريبا. غاب دهرا عن هذه الأوطان
وبعد أن تخرج من دار المعلمين عين مدرسا في إحدى المدارس وبعد ذلك عين أمينا للمكتبة فاطمأنت نفسه وانصرف إلى حياة أديبة خالصة وانكب على مافي المكتبة من آداب العالم الثلاثة العربية والفرنسية والإنجليزية ثم سافر في بعثة لدراسة اللغات الشرقية وفن المكتبات بباريس 1923 وهناك في باريس عاش أسعد ذكريات شبابه وكأنه كان هناك على موعد مع شاعر التاريخ عمر الخيام وعاد إلى القاهرة على عمله بعد عامين وظل يتدرج في مناصبها حتى أصبح وكيلا لها وقد جاوز الستين ولكنه ظل يلقب في المجامع والمنتديات بشاعر الشباب وقد مارس احد رامي ثلاثة أنواع من الأدب هي الشعر الوجداني والعاطفي والوطني ثم أدب المسرح فقد زود أحمد رامي المسرح المصري بدخيرة ضخمة تبلغ نحو خمسة عشرة مسرحية مترجمة عن شكسبير الخالد منه:/ هاملت ويوليوس قيصر والعاصفة وروميو وجولييت والنسر الصغير وغيرها مما قدمته مسارح يوسف وهبي وفاطمة رشدي في زمن عزة المسرح ثم انتهى إلى نظم الأغنيات عندما ولع بأم كلثوم وبها اشتهر وطار ذكره حتى أوشك الناس أن ينسوا رامي شاعر الفصحى ، ورامي كاتب المسرح ولم يذكروا إلا شاعر الأغاني .. إلى أن ارتد إلى إيمانه بالشعر وغنت أم كلثوم القصائد له ومنها يا ظالمني ، دليلي احتار ، عودت عيني على رؤياك ، حيرت قلبي معاك ، أنت الحب ، يا مسهرني ، وحياة الحب ،…. وغيرها من الأغاني الرائعة الأصيلة والخالدة حتى يومنا هذا وهاك مقطعا من قصيدة قصة حبي ذكريات عبرت أفق خيالي … بارقاً يلمع في جنح الليالي نبهت قلبي من غفوته….. وجلت لي ستر أيامي الخوالي كيف أنساها وقلبي …. لم يزل يسكن جنبي إنها قصة حبي ذكريات داعبت فكري وظني … لست أدري أيها أقرب مني هي في سمعي على طول المدى ….. نغم ينساب في لحن أغن بين شدو وحنين ……. وبكاء وأنين ....