كانت ولادة جميلة مثقفة شاعرة مغنية، لها مجلس بقرطبة يضم أشهر مثقفي وشعراء هذا العصر، أحبها ابن زيدون حبًّا ملك عليه حياته، وأحبته هي أيضًا، وعاش معها في السعادة أيامًا، ثم هجرته لسبب تافه اختلف فيه المؤرخون بغناء إحدى جواريها في حضورها فأغضبها منه ذلك.. ولكي تغيظه وجدت عاشقًا جديدًا هو الوزير أبو عامر بن عبدوس.. وحاول ابن زيدون إبعادها عن ابن عبدوس واستعادة الأيام الجميلة الماضية، لكنها رفضت، واتهمه ابن عبدوس بأنه ضالع في مؤامرة سياسية لقلب نظام الحكم وزُجَّ به في السجن.. وكتب ابن زيدون قصائد كثيرة يستعطف فيها "أبا الحزم جهور" حاكم قرطبة، كما كتب قصائد أخرى لأبي الوليد بن أبي الحزم ليتوسط لدى أبيه، وكان أبو الوليد يحب ابن زيدون، لكن وساطته لم تنفع، فهرب ابن زيدون من السجن، واختبأ في إحدى ضواحي قرطبة وظل يرسل المراسيل إلى الوليد وأبيه حتى تمَّ العفو عنه، فلزم أبا الوليد حتى تُوُفِّيَ أبو الحزم وخلفه أبو الوليد الذي ارتفع بابن زيدون إلى مرتبة الوزارة.
أثناء ذلك كله لم يَنْسَ ابن زيدون حبه الكبير لولادة التي أهملته تمامًا، فجعله أبو الوليد سفيرًا له لدى ملوك الطوائف حتى يتسلى عن حبه بالأسفار وينساه، لكن السفر زاد من حب ابن زيدون لولادة وشوقه إليها، فعاد إلى قرطبة.. وما لبث أن اتهم مرة أخرى بالاشتراك في محاولة قلب نظام الحكم على أبي الوليد بن جهور الذي غضب عليه، فارتحل ابن زيدون عن قرطبة وذهب إلى بلاط المعتضد بن عباد في أشبيلية، وهناك لقي تكريمًا لم يسبق له مثيل، ثم زادت مكانته وارتفعت في عهد المعتمد بن المعتضد، ودان له السرور وأصبحت حياته كلها أفراحًا لا يشوبها سوى حساده في بلاط المعتمد أمثال "ابن عمار" و "ابن مرتين" اللذين كانا سببًا في هلاكه في الخامس عشر من رجب سنة 463 هجرية؛ إذ ثارت العامة في أشبيلية على اليهود فاقترحا على المعتمد إرسال ابن زيدون لتهدئة الموقف، واضطر ابن زيدون لتنفيذ أمر المعتمد رغم مرضه وكبر سنه، مما أجهده وزاد المرض عليه فدهمه الموت.
ظل ابن زيدون حتى آخر يوم في حياته شاعرًا عاشقًا، فبالشعر عشق، وبالشعر خرج من السجن، وبالشعر نال حظوظه من الحياة.. ولم ينس أبدًا ذكرى ولادة وأيامه الجميلة معها.. وقد كانت حياته المتقلبة، وحبه الكبير لولادة بالإضافة إلى أعماله الشعرية والنثرية المتميزة موضوعات لدراسات وإبداعات كثيرة لعل أشهرها مسرحية الشاعر المصري فاروق جويدة "الوزير العاشق" التي قام ببطولتها عبد الله غيث وسميحة أيوب.
ومن أهم أعمال ابن زيدون الباقية للآن غير أشعار "الرسالة الجدية" التي استعطف فيها ابن جهور ليخرجه من السجن، و"الرسالة الهزلية" التي كتبها على لسان ولادة ذمًّا في ابن عبدوس حبيبها الجديد، وهي الرسالة التي زادت الهوة بينه وبين ولادة وعجلت بابن عبدوس ليزج بالشاعر في السجن.. وقد بقيت هاتان الرسالتان علامة على الموهبة الكبيرة والثقافة المتنوعة التي تميز بها ابن زيدون في أعماله الشعرية والنثرية على السواء.
أَضْـــحَــــى الـتَّــنَــائِــي بَـــدِيْــــلاً مِــــــــنْ تَــدانِــيْــنــا
وَنَــــــــــابَ عَــــــــــنْ طِـــــيْـــــبِ لُــقْــيَـــانَـــا تَــجَــافِــيْــنَــا
ألا وقـــــــد حـــــــانَ صُـــبــــح الــبَـــيْـــنِ صَــبَّــحــنــا
حِــــــيــــــنٌ فــــــقــــــام بــــــنــــــا لـــلـــحِـــيــــن نـــاعِـــيـــنــــا
مَـــــــــــــن مُــــبــــلـــــغ الـمُــبْــلِــســيــنــا بــانــتـــزاحِـــهـــم
حُــــزنًـــــا مـــــــــع الــــدهـــــر لا يَـــبـــلـــى ويُــبــلــيــنــا
أن الـــــزمـــــان الــــــــــذي مــــــــــا زال يُــضــحــكــنـــا
أنــــــسًـــــــا بـــقـــربـــهــــم قـــــــــــــد عـــــــــــــاد يُــبـــكـــيـــنـــا
غِيـظَ العِـدى مــن تساقيـنـا الـهـوى فـدعـوا
بــــــــــــأن نَــــــغُــــــصَّ فــــــقــــــال الــــــدهــــــر آمــــيــــنــــا
فـــانـــحــــلَّ مــــــــــا كــــــــــان مـــعـــقــــودًا بــأنــفــســنــا
وانـــــبـــــتَّ مــــــــــا كــــــــــان مـــــوصــــــولاً بــأيـــديـــنـــا
لــــــــــم نــعــتـــقـــد بـــعـــدكــــم إلا الـــــوفــــــاءَ لـــــكــــــم
رأيًــــــــــــــــا ولـــــــــــــــــم نــــتــــقــــلـــــد غــــــــيـــــــــرَه ديــــــــنـــــــــا
مـــــــا حــقــنـــا أن تُـــقــــروا عـــيــــنَ ذي حــــســــد
بــــــنــــــا، ولا أن تــــــســــــروا كــــاشــــحًــــا فــــيــــنــــا
كــــنــــا نــــــــرى الــــيــــأس تُـسـلــيــنــا عــــوارضُــــه
وقـــــــــــد يــئـــســـنـــا فـــــمــــــا لــــلــــيــــأس يُـــغـــريـــنـــا
بِـــنــــتــــم وبـــــنــــــا فـــــمــــــا ابـــتــــلــــت جـــوانـــحُـــنـــا
شــــــــوقًــــــــا إلـــــيـــــكــــــم ولا جــــــــفــــــــت مــــآقــــيــــنــــا
نـــــــكــــــــاد حـــــــيــــــــن تُـــنـــاجـــيـــكـــم ضــــمــــائــــرُنــــا
يَــقـــضـــي عــلــيــنــا الأســــــــى لــــــــولا تــأسِّــيــنـــا
حـــــــــالـــــــــت لــــفــــقـــــدكـــــم أيــــــامــــــنـــــــا فَـــــــــغَــــــــــدَتْ
سُـــــــــودًا وكـــــانـــــت بـــــكـــــم بـــيـــضًــــا لــيــالــيــنــا
إذ جــــانــــب الــعـــيـــش طَــــلْــــقٌ مــــــــن تــألُّــفــنــا
ومـــــــــوردُ اللهو صـــــــــافٍ مــــــــــن تــصــافــيــنــا
وإذ هَــصَـــرْنـــا غُــــصــــون الــــوصـــــل دانــــيـــــة
قـــطـــوفُـــهـــا فــجــنــيـــنـــا مــــــنــــــه مــــــــــــا شِــــيــــنــــا
لــيـــســـقِ عــهـــدكـــم عــــهــــد الــــســــرور فــــمــــا
كــــــــنــــــــتــــــــم لأرواحــــــــــــنــــــــــــا إلا ريــــــاحــــــيــــــنـــــــا
لا تـــحــــســــبــــوا نَـــــأْيـــــكـــــم عـــــــنــــــــا يُــــغــــيِّــــرنــــا
أن طــــالــــمـــــا غــــــيَّـــــــر الــــــنـــــــأي الــمــحــبــيــنـــا
والله مـــــــــــــــــا طـــــلــــــبــــــت أهـــــــــواؤنـــــــــا بــــــــــــــــــدلاً
مـــنـــكــــم ولا انـــصـــرفــــت عـــنــــكــــم أمــانـــيـــنـــا
يـا سـاريَ البـرقِ غـادِ القـصـرَ فـاسـق بــه
مـــن كـــان صِـــرفَ الــهــوى والــــود يَسـقـيـنـا
واســـــــــــأل هـــــنــــــاك هـــــــــــل عـــــنَّــــــي تــــذكــــرنــــا
إلــــــــــفًــــــــــا، تــــــــــذكــــــــــره أمــــــــــســــــــــى يُــــعــــنِّــــيــــنـــــا
ويــــــــــــا نــــســــيــــمَ الــــصِّــــبــــا بــــــلــــــغ تــحــيـــتـــنـــا
مــــن لــــو عــلــى الـبـعــد حــيًّــا كــــان يُحـيـيـنـا
فــــهـــــل أرى الــــدهـــــر يَـقــصــيــنــا مُــســاعَـــفـــةً
مــــــنـــــــه ولــــــــــــــم يـــــــكـــــــن غِـــــــبًّـــــــا تــقـــاضـــيـــنـــا
ربـــــــــيــــــــــب مـــــــــلــــــــــك كـــــــــــــــــــأن الله أنـــــــــشــــــــــأه
مـــســـكًـــا وقـــــــــدَّر إنـــــشـــــاء الــــــــــورى طـــيـــنــــا
أو صــــــاغـــــــه ورِقًـــــــــــــا مــــحــــضًـــــا وتَــــــوَّجَـــــــه
مِـــــــن نـــاصــــع الــتــبـــر إبـــداعًــــا وتـحـســيــنــا
إذا تَـــــــــــــــــــــــــــــــــأَوَّد آدتــــــــــــــــــــــــــــــــــه رفـــــــــــاهـــــــــــيَــــــــــــة
تُـــــــــــومُ الـــعُــــقُــــود وأَدْمَـــــتــــــه الــــــبُــــــرى لِــــيــــنــــا
كـــانـــت لــــــه الــشــمــسُ ظِـــئْـــرًا فـــــــي أَكِــلَّــتِـــه
بـــــــــــــل مـــــــــــــا تَــــجَــــلَّـــــى لــــــهـــــــا إلا أحـــايـــيـــنــــا
كـــأنـــمـــا أثـــبـــتــــت فــــــــــي صـــــحـــــن وجـــنـــتــــه
زُهْـــــــــــــــرُ الـــــكـــــواكـــــب تـــــعـــــويـــــذًا وتـــزيــــيــــنــــا
مــــــا ضَـــــــرَّ أن لـــــــم نـــكــــن أكـــفــــاءَه شـــرفًــــا
وفـــــــــــي الـــــمــــــودة كـــــــــــافٍ مــــــــــــن تَــكَــافــيـــنـــا
يـــــــــا روضـــــــــةً طـــالـــمـــا أجْــــنَـــــتْ لَــوَاحِــظَــنـــا
وردًا أجـــــــــلاه الـــصـــبـــا غَــــضًّـــــا ونَــسْــريــنـــا
ويــــــــــــــــــــا حــــــــــيــــــــــاةً تَــــمَــــلَّــــيْــــنـــــا بـــــزهـــــرتـــــهــــــا
مُــــــــنًـــــــــى ضُــــــــرُوبًـــــــــا ولــــــــــــــــــذَّاتٍ أفــــانِــــيـــــنـــــا
ويــــــــــا نــعــيـــمًـــا خَـــطَـــرْنــــا مــــــــــن غَـــضَـــارتــــه
فـــــي وَشْـــــي نُـعــمــى سَـحَـبْـنــا ذَيْــلَـــه حِـيــنــا
لـــــســـــنــــــا نُــــسَــــمِّــــيــــك إجــــــــــــــــلالاً وتَـــــكْـــــرِمَــــــة
وقـــــــــــدرك الــمــعــتــلـــى عــــــــــــن ذاك يُــغــنــيـــنـــا
إذا انـــفـــردتِ ومــــــا شُـــورِكْــــتِ فـــــــي صـــفــــةٍ
فـحـســبــنــا الــــوصــــف إيـــضـــاحًـــا وتَـبــيــيــنــا
يـــــــــــا جـــــنــــــةَ الـــخــــلــــد أُبـــدلــــنــــا بــسَــلْــسِــلــهــا
والــــكــــوثــــر الــــــعــــــذب زَقُّــــــومًـــــــا وغِــســلـــيـــنـــا
كــــأنــــنــــا لــــــــــــم نَــــــبِــــــت والــــــوصــــــل ثـــالـــثـــنــــا
والـسـعــد قــــد غَــــضَّ مــــن أجــفــان واشـيــنــا
سِــــــــرَّانِ فــــــــي خــــاطــــرِ الــظَّــلْــمــاء يَـكـتُــمُــنــا
حــــتــــى يــــكــــاد لــــســــان الـــصـــبـــح يُـفــشــيــنــا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ
عـــنـــه الــنُّــهَــى وتَــركْــنـــا الــصــبـــر نـاسِــيــنــا
إذا قــــرأنــــا الأســــــــى يــــــــومَ الــــنَّــــوى سُــــــــوَرًا
مـــكـــتــــوبــــة وأخـــــــذنـــــــا الـــــصـــــبـــــر تَـــلْـــقِـــيـــنـــا
أمَّـــــــــــــا هــــــــــــــواكِ فـــــــلـــــــم نـــــــعـــــــدل بــمـــنـــهـــلـــه
شِــــــرْبًــــــا وإن كــــــــــــان يــــرويــــنــــا فــيُــظــمــيــنــا
لـــــــم نَـــجْــــفُ أفـــــــق جـــمــــال أنــــــــت كــوكـــبـــه
ســـالــــيــــن عـــــنــــــه ولـــــــــــم نـــهــــجــــره قـــالـــيـــنـــا
ولا اخــــتـــــيـــــارًا تــجـــنـــبـــنـــاه عــــــــــــــن كَـــــــثَــــــــبٍ
لــــــكــــــن عــــدتــــنــــا عــــــلــــــى كــــــــــــره عــــواديــــنـــــا
نـــــأســــــى عـــلــــيــــك إذا حُـــــثَّــــــت مُــشَــعْــشَــعـــةً
فـــــيـــــنــــــا الـــــشَّـــــمُــــــول وغـــــنَّـــــانــــــا مُـــغَـــنِّـــيــــنــــا
لا أَكْــــــؤُسُ الــــــراحِ تُـــبـــدى مـــــــن شـمـائـلــنــا
سِـــيــــمَــــا ارتـــــيــــــاحٍ ولا الأوتـــــــــــارُ تُــلــهــيـــنـــا
دُومِـــي عـلــى الـعـهـد، مـــا دُمْـنــا، مُحَـافِـظـةً
فــالـــحُـــرُّ مَـــــــــنْ دان إنـــصـــافًـــا كــــمـــــا دِيــــنَـــــا
فـــمـــا اسْـتَـعَـضْـنــا خــلــيـــلاً مِـــنــــك يَـحْـبـســنــا
ولا اســـتـــفـــدنـــا حـــبـــيـــبًـــا عــــــنـــــــك يُــثْــنـــيـــنـــا
ولــــــو صَـــبَـــا نَــحْــوَنـــا مـــــــن عُـــلْــــوِ مَـطْــلَــعِــه
بــــدرُ الــدُّجَــى لــــم يــكــن حــاشــاكِ يُصْـبِـيـنـا
أَوْلِـــــــــي وفــــــــــاءً وإن لــــــــــم تَـــبْـــذُلِــــي صِـــــلَـــــةً
فـــالـــطـــيــــفُ يُــقْــنِـــعُـــنـــا والـــــــذِّكْـــــــرُ يَــكْـــفِـــيـــنـــا
وفــــــي الـــجـــوابِ مـــتــــاعٌ لـــــــو شــفــعـــتِ بـــــــه
بِــيْـــضَ الأيـــــادي الــتـــي مـــــا زلْـــــتِ تُـولِـيـنــا
عـــلـــيــــكِ مِـــــنـــــي ســــــــــلامُ اللهِ مـــــــــــا بَـــقِــــيَــــتْ
صَـــــبَـــــابـــــةٌ مـــــــنــــــــكِ نُـــخْـــفِـــيـــهـــا فَــتُــخــفـــيـــنـــا