|
|
| فوضى الحواس - أحلام مستغانمي | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
محمدمبارك
| موضوع: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:14 | |
| ( اهداء) إلى محمد بوضياف.. رئيسا وشهيدا. والى سليمان عميرات, الذي مات بسكتة قلبية وهو يقرأ فاتحة على روحه. فأهدوا إليه قبرا جواره. والى ذلك الذي لم يقاوم شهوة الانضمام اليهما, فذهب ذات أول نوفمبر, بتلك الدقة المذهلة في اختيار موته, لينام على مقربة من خيبتهما. من وقتها.. ورجال أول نوفمبر قهرا يرحلون. من وقتها وأنا إلى أحدهم أواصل الكتابة. إلى أبي.. مرة أخرى. أحلام
( بدءًا )
عكس الناس, كان يريد أن يختبر بها الإخلاص. أن يجرب معها متعة الوفاء عن جوع, أن يربي حبًا وسط ألغام الحواس. هي لا تدري كيف اهتدت أنوثتها إليه. هو الذي بنظرة, يخلع عنها عقلها, ويلبسها شفتيه. كم كان يلزمها من الإيمان, كي تقاوم نظرته! كم كان يلزمه من الصمت, كي لا تشي به الحرائق! هو الذي يعرف كيف يلامس أنثى. تماما, كما يعرف ملامسة الكلمات. بالاشتعال المستتر نفسه. يحتضنها من الخلف, كما يحتضن جملة هاربة, بشيء من الكسل لكاذب. شفتاه تعبرانها ببطء متعمّد, على مسافة مدروسة للإثارة. تمرّان بمحاذاة شفتيها, دون أن تقبلاهما تمامًا. تنزلقان نحو عنقها, دون أن تلامساه حقّاً. ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمّد نفسه. وكأنّه كان يقبّلها بأنفاسه, لا غير. هذا لرجل الذي يرسم بشفتيه قدرها, ويكتبها ويمحوها من غير أن يقبلها, كيف لها أن تنسى.. كلّ ما لم يحدث بينه وبينها؟ في ساعة متأخرة من الشوق, يداهمها حبه. هو, رجل الوقت ليلا, يأتي في ساعة متأخره من الذكرى. يباغتها بين نسيان واخر. يضرم الرغبة في ليلها.. ويرحل. تمتطي إليه جنونها, وتدري: للرغبة صهيل داخلي لا يعترضه منطق. فتشهق, وخيول الشوق الوحشية تأخذها إليه. هو رجل الوقت سهوًا. حبه حالة ضوئية. في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها.. ويمضي. فتجلس, في المقعد المواجه لغيابه, هناك.. حيث جلس يومًا مقابلاً لدهشتها. تستعيد به انبهارها الأوّل. هو.. رجل الوقت عطرًا. ماذا تراها تفعل بكل تلك الصباحات دونه؟ وثمة هدنة مع الحب, خرقها حبه. ومقعد للذاكرة, ما زال شاغراً بعده. وأبواب مواربة للترقب. وامرأة.. ريثما يأتي, تحبّه كما لو أنه لن يأتي. كي يجيء. لو يأتي.. هو رجل الوقت شوقًا. تخاف أن يشي به فرحها المباغت, بعدما لم يشِ غير لحبر بغيابه. أن يأتي, لو يأتي. كم يلزمها من الأكاذيب, كي تواصل الحياة وكأنه لم يأت! كم يلزمها من الصدق, كي تقنعه أنها انتظرته حقّا! لو.. كعادته, بمحاذاة الحب يمر, فلن تسأله أيّ طريق سلك للذكرى, ومن دلّه على امرأة, لفرط ما انتظرته, لم تعد تنتظر. لو.. بين مطار وطائرة, انجرف به الشوق إليها فلن تصدق أنه استدل على النسيان بالذاكرة. ولن تسأله عن أسباب هبوطه الاضطراريّ. فهي تدري, كنساء البحّارة تدري, أن البحر سيسرقه منها وأنّه رجل الإقلاع.. حتمًا. ريثما يأتي. هو سيد الوقت ليلاُ. سيد المستحيلات. والهاتف العابر للقارّات. والحزن العابر للأمسيات. والانبهار الدائم بليل أوّل. ريثما يعود ثانية حبيبها, ريثما تعود من جديد حبيبته, مازالت في كل ساعة متأخرة من الليل تتساءل.. ماذا تراه الآن يفعل؟
اليوم عاد.. هو الرجل الذي تنطبق عليه دوماً, مقولة أوسكار وايلد "خلق الإنسان الّلغة ليخفي بها مشاعره". مازال كلّما تحدث تكسوه اللغة, ويعريه الصمت بين الجمل. وهي ما زالت انثى التداعيات. تخلع وترتدي الكلمات عن ضجر جسدي.. على عجل. هيَذي عارية الصوت. تكسو كلمات اللقاء بالتردد بين سؤالين. تحاول كعادتها, أن تخفي بالثرثرة بردها أمامه. كادت تسأله: لماذا لبس ابتسامته معطفًا للصمت, اليوم بالذات, بعد شهرين من القطيعة؟ ثمّ فكرت في سؤال آخر: أينتهي الحب عندما نبدأ بالضحك من الأشياء التي بكينا بسببها يوماً؟ وقبل أن تسأل. بدا لها وكأنه غير مكترث إلا بصمتها أمام ضحكته. لحظتها فقط تنبهت إلى أنه لم يكن يرتدي معطفًا. الحزن لا يحتاج إلى معطف مضاد للمطر. إنه هطولنا السري الدائم. وبرغم ذلك, ها هي اليوم تقاوم عادتها في الكلام. وتجرب معه الصمت, كما يجرب معها الآن الابتسام. الابتسامة الغائبة, صمته. أو لغته الأخرى التي يبدو وكأنه يواصل بها الحديث إلى نفسه لا إلى الآخرين. ويسخر بها من أشياء يعرفها وحده. الذي يخفيه عنها, كثيرا ما أثار حزنها. أما الذي يثير فضولها, فلماذا تخلّى عنها ذات يوم بين جملتين, ورحل؟ تذكر أنّه, يومها أطبق على الحزن ضحكة ومضى. دون أن تعرف تمامًا ماذا كان ينوي أن يقول؟ لا تريد أن تصدق أنه تخلى عنها, لأنها رفضت يوما أن ترافقه إلى مشاهدة ذلك الفيلم الذي كان يستعجل مشاهدته. سألته أهو فيلم عاطفي.. أجاب "لا". سألته أهو فيلم ضاحك.. أجاب"لا". - ولماذا تريد أن نذهب لمشاهدته إذن؟ - لأنني أحب كل ما يثير فيّ البكاء. ضحكت يومها. استنتجت أنّه رجل غريب الأطوار, لا يعرف كيف يتدبر أمر حب. وهي لا تصدق أيضا ما قاله مرة, من أن مأساة الحب الكبير, أنه يموت دائما صغيرا. بسبب الأمر الذي نتوقعه الأقل. أيعقل أن يكون حبها قد مات, فقط لأنها لم تشعر برغبة في أن تبكي معه, في عتمة صالة سينما؟ وإنما كانت تفضل لو دعاها إلى مكان آمن, بعيدا عن فضول الآخرين, يمكنهما فيه أن يعيشا اشتعالاتٍ عالية.. ما تعتقده, هو كونه أراد إذلالها, كي يضمن امتلاكها. وربما ظن أن على الرجل إذا أراد الاحتفاظ بامرأة, أن يوهمها أنّه في أية لحظة يمكنه أن يتخلى عنها. أما هي, فكانت دائما تعتقد أن على المرأة أن تكون قادرة على التخلي عن أي شيء لتحتفظ بالرجل الذي تحبه. وهكذا تخلت ذات يوم عن كل شيء وجاءته. فلم تجده. تذكر جلست وحيدة في تلك الزاوية اليسرى, من ذلك المقهى الذي كان يعرف الكثير عنهما, والذي أصبح منذ ذلك اليوم يحمل اسمه خطأً "الموعد". أحيانا, يجب على الأماكن أن تغير أسماءها, كي تطابق ما أصبحنا عليه بعدها, ولا تستفزنا بالذاكرة المضادّة. ألهذا, عندما طلبته البارحة هاتفيا, قال "انتظريني هناك" ثم أضاف مستدركا " اختاري لنا طاولة أخرى.. في غير الزاوية اليسرى" وواصل بعد شيء من الصمت "ما عاد اليسار مكانا لنا". ألأن الحروب والخلافات السياسية طالت كل شيء, ووصلت حتى طاولات العشاق وأسّرتهم؟ أم لأنه لا يريد إذلال الذاكرة, أراد لها طاولة لا يتعرف الحب فيها إليهما, كي يكون بإمكانهما أن يضحكا, حيث لم يستطيعا يوماً البكاء؟ هاهما جالسان إلى الطاولة المقابلة للذاكرة. هناك.. حيث ذات يوم, على جسد الكلمات أطفأ سيجارته الأخيرة. ثم عندما لم يبق في جعبته شيء, دخن كل أعقاب الأحلام وقال.. لا تذكر ماذا قال بالتحديد. قبل أن يحول قلبها مطفأة للسجائر, ويمضي. منذ ذلك اليوم وهي تتصدى لشوقها الذي فخخه بالتحدي. تلهي نفسها عن حبه, بكراهيته, في انتظار العثور على مبرر مشرّف للاتصال به, مناسبة ما, يمكن أن تقول له فيها "ألو.. كيف أنت؟" دون أن تكون قد انهزمت تماماً؟ في تمويه لإخفاقات عشقيَّة, عرضت عليه يوماً أن يصبحا صديقين. أجابها ضاحكاً "لا أعرف مصادقة جسد أشتهيه". كادت تسعد, لولا أنه أضاف " أنت أشهى عندما ترحلين.. ثمة نساء يصبحن أجمل في الغياب". ولم تفهم ما الذي كان يعنيه. أما الذي كان يعنيها, فأن تستمع إليه. هوذا, لم يتغير. ما زال يتوق إلى الكلام الذي لا يقال بغير العينين. وهي لا تملك إلاّ أن تصمت, كي ينصتا معاً إلى صخب الصمت بين عاشقين سابقين. بين نظرتين, يتابع الحب تهرّبه العابث. وذاكرة العشق ترتبك. مع عاشق آخر, كان بإمكانها أن تخلق الآن ضجة وضحكاً. أن تختلق الآن للصمت صوتاً, يغطّي على صمتها. أن تخلق الآن إجابة لكل سؤال. ولكن معه, هي تحتفظ بالأسئلة, أو تطرحها عليه دفعة واحدة, دون صوت, بل بذبذبات صمت وحده يعرفها. وهو يقول دون أن يطفئ سيجارته تماماً, دون أن يشعل رماد الأحلام, دون أن يقول شيئاً بالتحديد, دون أن يقول شيئاُ إطلاقاً, كان يعترف لها بأنه تغيّر كثيراً منذ 1لك الحين. هو رجل يشي به سكوته المفاجئ بين كلمتين. ولذا يصبح الصمت معه حالة لغوية, وأحيانا حالة جوية, تتحكم فيها غيمة مفاجئة للذكرى. حتمًا.. كان به شيء من الساديّة. واللحظة أيضًا تراه مغريًا وموجعًا في آن واحد. ولم تسأله لماذا هو كذلك. أيمكن للإغراء أن يكون طيباً؟ هو الذي يوقظ شراسة الأحلام فينا.. هي كانت تريد أن تسأله فقط: كيف هو؟ ولكن قبل أن تقول شيئاً, سرق منها السؤال نفسه الذي لن يطرح غيره بعد ذلك, وقال: كيف أنت؟ بين ابتسامتين لفّ حول عنقه السؤال ربطة عنق من الكذب الأنيق. وعاد إلى صمته. أكان يخاف على الكلمات من البرد؟ أم يخاف عليها هي من الأسئلة؟ الأسئلة غالباً خدعة, أي كذبة مهذبة نستدرج بها الآخرين إلى كذبة أكبر. هو نفسه قال هذا في يوم بعيد, قبل أن.. تذكر قوله "تحاشَيْ معي الأسئلة. كي لا تجبريني على الكذب. يبدأ الكذب حقاً عندما نكون مرغمين على الجواب. ما عدا هذا, فكل ما سأقوله لك من تلقاء نفسي, هو صادق".
يومها حفظت الدرس جيّداً. وحاولت أن تخلق لغة جديدة على قياسه, لغة دون علامات استفهام. كانت تنتظر أن تأتي الأجوبة. وعندها فقط كانت تضعها أسفل أسئلتها, دون أن تنسى أن تتبعها بعلامات تعجب, وغالباً بعلامات إعجاب. تدريجيّاً, وجدت في فلسفته في التحاور, من دون أسئلة ولا أجوبة, حكمة, وربما نعمةً ما. وشكرت له إعفاءها من أكاذيب صغيرة أو كبيرة. كانت تقترفها دون تفكير. وبدأت تتمتع بلعبة المحادثة المفترضة التي لا سؤال فيها ولا جواب. ها هوذا اليوم. هو نفسه أمام السؤال. من الأرجح أنه يتساءل: أيطرحه أم يجيب عنه. وهو في الحالتين كاذب. السؤال خدعة. ومباغتة للآخر في سرّه. وكالحرب إذن, تصبح فيها المفاجأة هي العنصر الحاسم. لذا, ربما قرّر الرّجل صاحب المعطف أن يسرق منها سؤالها, ويتخلّى عن طريقته الغريبة في التحاور. تلك الطريقة التي أربكتها طويلاً, وجعلتها تختار كلماتها بحذر كلّ مرّة, سالكة كل المنعطفات اللغوية للهروب من صيغة السؤال, كما في تلك اللعبة الإذاعية التي ينبغي أن تجيب فيها عن الأسئلة, دون أن تستعمل كلمة "لا" أو كلمة "نعم". تلك اللعبة تناسبها تماماً, هي المرأة التي تقف على حافة الشك. ويحلو لها أن تجيب "ربما" حتى عندما تعني "نعم", و"قد" عندما تقصد "لن". كانت تحب الصيغ الضبابية. والجمل الواعدة ولو كذباً, تلك التي لا تنتهي بنقطة, وإنما بعدة نقاط انقطاع.
وكان هو رجل اللغة القاطعة. كانت جمله تقتصر على كلمات قاطعة للشك, ترواح بين "طبعا" و"حتما" و"دوما" و"قطعا". وبإحدى هذه الكلمات, بدأت قصّتهما منذ سنة. تماماً كما بإحداهنّ انتهت منذ شهرين. تذكر أنّه يومها, قطع المكالمة فجأة, بإحدى هذه الكلمات المقصلة, وأنها بقيت للحظات معلّقة إلى خيط الهاتف, لا تفهم ماذا حدث. اكتشفت بعد ذلك, أنه لم يكن بإمكانها أن تغير شيئا. فتلك الكلمات ما كانت لغته فحسب. بل كانت أيضا فلسفته في الحياة, حيث تحدث الأشياء بتسلسل قدريّ ثابت, كما في دورة الكائنات, وحيث نذهب "طوعاً" إلى قدرنا, لنكرر "حتماً" بذلك المقدار الهائل من الغباء أو من التذكي, ما كان لا بدّ "قطعاً" أن يحدث. لأنه "دوماً" ومنذ الأزل قد حدث, معتقدين "طبعاً" أنّنا نحن الذين نصنع أقدارنا! كيف لنا أن نعرف, وسط تلك الثنائيات المضادّة في الحياة, التي تتجاذبنا بين الولادة والموت.. والفرح والحزن.. والانتصارات والهزائم.. والآمال والخيبات.. والحب والكراهية.. والوفاء والخيانات.. أننا لا نختار شيئا مما يصيبنا. وأنّا في مدّنا وجزرنا, وطلوعنا وخسوفنا, محكومون بتسلسل دوريّ للقدر. تفصلنا عن دوراته وتقلّباته الكبرى, مسافة شعره. كيف لنا أن ننجو من سطوة ذلك القانون الكونيّ المعقّد الذي تحكم تقلباته الكبيرة, تفاصيل جدّ صغيرة, تعادل أصغر ما في اللغة من كلمات, كتلك الكلمات الصغرى التي يتغير بها مجرى حياة!
يوم سمعت منه هذا الكلام, لم تحاول أن تتعّمق في فهمه. فقد كان ذلك في زمن جميل اسمه "بدءًا". ولذا كم كان يلزمها من الوقت لتدرك أنهما أكملا دورة الحب, وأنه بسبب أمر صغير لم تدركه بعد, قد دخلا الفصل الأخير من قصة, وصلت "قطعاً" إلى نهايتها! عندما ينطفئ العشق, نفقد دائمًا شيئاَ منّا. ونرفض أن يكون هذا قد حصل. ولذا فإنّ القطيعة في العشق فنّ, من الواضح أنّه كان يتعمّد تجنّب الاستعانة به, لتخفيف ألم الفقدان. تذكر الآن ذلك اليوم الذي قالت له فيه "أريد لنا فراقاً جميلاً.." ولكنه أجاب بسخرية مستترة "وهل ثمة فراق جميل؟". أحيانا كان يبدو لها طاغية يلهو بمقصلة اللغة. كان رجلاً مأخوذاً بالكلمات القاطعة, والمواقف الحاسمة. وكانت هي امرأة تجلس على أرجوحة "ربما". فكيف للّغة أن تسعهما معاً؟
هو لم يقل سوى "كيف أنت؟" وهي قبل اليوم لم تكن تتوقع أن يربكها الجواب عن سؤال كهذا. وإذ بها تكتشف كم هي رهيبة الأسئلة البديهية في بساطتها, تلك التي نجيب عنها دون تفكير كل يوم, غرباء لا يعنيهم أمرنا في النهاية, ولا يعنينا أن يصدقوا جوابا لا يقل نفاقا عن سؤالهم. ولكن مع آخرين, كم يلزمنا من الذكاء, لنخفي باللغة جرحنا؟ بعض الأسئلة استدراج لشماتة, وعلامة الاستفهام فيها, ضحكة إعجاز, حتّى عندما تأتي في صوت دافئ كان يوما صوت من أحببنا.
"كيف أنتِ؟" صيغة كاذبة لسؤال آخر. وعلينا في هذه الحالات, أن لا نخطئ في إعرابها. فالمبتدأ هنا, ليس الذي نتوقعه. إنه ضمير مستتر للتحدي, تقديره "كيف أنت من دوني أنا؟" أما الخبر.. فكل مذاهب الحب تتفق عليه. من الأسهل علينا تقبل موت من نحب. على تقبل فكرة فقدانه, واكتشاف أن بإمكانه مواصلة الحياة بكل تفاصيلها دوننا. ذلك أن في الموت تساويا في الفقدان, نجد فيه عزاءنا.
كانت تفاضل بين جواب وآخر, عندما تنّبهت إلى أن جلستهما قد أصبحت فجأة معركة عاطفية صامتة. تدار بأسلحة لغوية منتقاة بعناية فائقة. وإذ بالطاولة المربعة التي تفصلهما, تصبح رقعة شطرنج, اختار فيها كل واحد لونه ومكانه. واضعا أمامه جيشا.. وأحصنة وقلاعا من ألغام الصمت, استعدادا للمنازلة. أجابته بنيّة المباغتة: - الحمد لله.. الأديان نفسها, التي تحثنا على الصدق, تمنحنا تعابير فضفاضة بحيث يمكن أن نحملها أكثر من معنى. أوليست اللغة أداة ارتياب؟ أضافت بزهو من يكتسح المربع الأول: - وأنت؟ ها هي تتقدم نحو مساحة شكه, وتجرده من حصانه الأول. فهو لم يتعود أن يراها تضع الإيمان برنسا لغويا على كتفيها. ظلت عيناها تتابعانه. هل سيخلع معطفه أخيراً, ويقول إنه مشتاق إليها. وأنه لم يحدث أن نسيها يوماً؟ أم تراه سيرفع قبة ذلك المعطف, ويجيبها بجواب يزيدها برداً؟ أي حجر شطرنج تراه سيلعب, هو الذ يبدو غارقا في تفكير مفاجئ, وكأنه يلعب قدره في كلمة؟ تذكرت وهي تتأمله, ما قاله كاسباروف, الرجل الذي هزم كل من جلس مقابلا له أمام طاولة شطرنج. قال: "إن النقلات التي نصنعها في أذهاننا أثناء اللعب, ثم نصرف النظر عنها. تشكل جزءا من اللعبة, تماما كتلك التي ننجزها على الرقعة". لذ تمنت لو أنها أدركت من صمته, بين أي جواب وجواب تراه يفاضل. فتلك الجمل التي يصرف القول عنها, تشكل جزءا من جوابه. غير أنه أصلح من جلسته فقط. وأخذ الحجر الذي لم تتوقعه. وقال دون أن يتوقف عن التدخين. - أنا مطابق لك. ثم أضاف بعد شيء من الصمت. - تماماً.. هو لم يقل شيئا عدا أنه استعمل إحدى كلماته "القاطعة" بصيغة مختلفة هذه المرة. فانقطع بينهما التحدي. وهي لم تفهم. فعلا.. لم تفهم كيف أن صمتا بين كلمتين أحدث بها هذا الأثر, ولا كيف استطاع أن يسرب إليها الرغبة دون جهد واضح, عدا جهد نظرة كسلى, تسلقت ثوبها الأسود, مشعلة حيث مرت فتيلة الشهوة. بكلمة, كانت يده تعيد الذكرى إلى مكانها. وكأنه, بقفا كلمة, دفع بكل ما كان أمامهما أرضا. ونظف الطاولة من كل تلك الخلافات الصغيرة التي باعتهما. هي تعرف أن الحب لا يتقن التفكير. والأخطر أنه لا يملك ذاكرة. إنه لا يستفيد من حماقاته السابقة, ولا من تلك الخيبات الصغيرة التي صنعت يوما جرحه الكبير. وبرغم ذلك, غفرت له كل شيء. "قطعا" كانت سعيدة, بهزيمتها التي أصبح لها مذاق متأخر للنصر. سعادته "حتما" بنصر سريع, في نزال مرتجل, خاضه دون أن يخلع "تماما" معطفه! أحببت هذه القصة, التي كتبتها دون أن أعي تماما ما كتبت. فأنا لم يحدث أن كتبت قصة قصيرة. ولست واثقة تماما من أن هذا النص تنطبق عليه تسمية كهذه. كل ما كان يعنيني, أن أكتب شيئا. أي شيء أكسر به سنتين من الصمت. لا أدري كيف ولدت هذه القصة. أدري كيف ولد صمتي. ولكن.. تلك قصة أخرى. منذ يومين, فاجأت نفسي أعود إلى الكتابة. هكذا.. دون قرار مسبق, ودون أن يكون قد طرأ على حياتي أي حادث بالذات, يمكن أن يكون سبباً في إثارة مزاجي الحبريّ. ربما لاشيء, عدا كوني اشتريت منذ أيام دفتراً, أغراني شكله بالكتابة. حدث ذلك عندما ذهبت كي أشتري من القرطاسية, ظروفاً وطوابع بريدية. ورأيت ذلك الدفتر مع حزمة من الدفاتر. كان البائع يفردها أمامي وهو يقوم بترتيبها, استعدادا لاقتراب الموسم الدراسي. كما يتوقف نظري أمام رجل, توقف عند ذلك الدفتر. وكأنني وقعت على شيء لم أكن انتظر العثور عليه في ذلك المحل البائس الذي لا أدخله إلا نادرا. أليست الكتابة كالحب: هدية تجدها فيما لا تتوقع العثور عليها؟ ثمة بيوت لا تستطيع أن تكتب فيها سطرا واحدا, مهما سكنتها, ومهما كانت جميلة. وهذا أمر يبقى دون تفسير منطقي. وثمة أقلام, تدري منذ اللحظة التي تشتريها فيها.. والكلمة الأولى التي تخطها بها, أنك لن تكتب بها شيئا يستحق الذكر. وأن مزاجها الكسول, ونفسها المتقطع, لن يوصلاك إلى الأنفاق السرية للكلمات. | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:15 | |
| وثمة دفاتر, تشتريها بحكم العادة فتبقى في جواريرك أشهرا دون أن توقظ فيك مرة تلك الشهوة الجارفة للكتابة, أو تتحرش بك كي تخط عليها ولو بضعة أسطر. ولأنني أعرف هذا, كلما تقدمت بي الكتابة, ازدادت قوة عندي, تلك الحاسة التي تجعلني منذ اللحظة الأولى, أحكم على هذه الأشياء أوْ لَهَا بحدس قلّما يخطئ. ولذا توقفت أمام ذلك الدفتر, مدفوعة بإحساس يتجاوزني. مأخوذة بهذا "الشيء" الذي لا يميزه عن بقية الأشياء في تلك المكتبة, سوى اقتناعي, أو وهمي بأنه سيعيدني على الكتابة. منذ اللحظة الأولى, شعرت أن بيني وبين هذا الدفتر, ذبذبات ما, تعدني بكتابة نص جميل. على هذا الورق الأبيض الأملس, الذي تضمه مفاصل حديدية. ويغطيه غلاف أسود لامع, لم يكتب عليه أي شيء. ركضت به إلى البيت. أخفيته, وكأنني أخفي تهمة ما. ولم أخرجه سوى البارحة, لأكتب فيه تلك القصة القصيرة, التي قد يكون عنوانها "صاحب المعطف". كعادتي عندما أنتهي من الكتابة ليلاً, عدت إلى قراءة ذلك النص أول ما استيقظت. كنت على عجل. أريد أن أعرف إن كانت تلك قصة جميلة حقاً, كما كانت تبدو لي لحظة كتابتها. وربما كنت أريد أن أتأكد فقط, من أنني كتبت فعلاً, شيئاً ذلك المساء. لهذا قرأتها عدة مرات, بنشوة متزايدة كلّ مرة. فقد كتبت أخيراً نصاً جميلاً. والأجمل أنه خارج ذاتي. وأنني تصورت فيه كل شيء. وخلقت فيه كلّ شيء. وقررت أن لا أتدخل فيه بشيء. وأن لا أسرب إليه بعضاً من حياتي. وهذا في حد ذاته إنجاز أدهشني. فأنا لم يحدث يوماً أن تعرفت إلى رجل يشبه هذا الرجل. في نفوره الجذاب, وحضوره المربك, رجل يغشاه غموض الصمت والتباسه, وله هذه القدرة الخرافية على خلق حالة من الارتباك الجميل, كلما تحدّث, حتى لو كان ذلك, وهو يلفظ إحدى تلك الكلمات القاطعة, التي يتسلّى باختيارها حسب المناسبة. وتلك المرأة أيضاً لا تشبهني. إنها تنطق بعكس ما كنت سأقول, وتتصرف بعكس ما كنت سأفعل. وهي تعتقد بحماقة أنثى, أن الذين نحبهم, خلقوا ليتقاسموا معنا المتعة, لا الألم, وأن على الرجل الذي يحبّها أن يبكي وحده. ثم يأتي يتمتع بها, أو معها. بل إنها من سذاجتها, وجدت في تَيْنِكَ الكلمتين اللتين لفظهما دليلاً على حبه لها. في الواقع, إن يجبها عن سؤالها "كيف أنت؟". بقوله "أنا مطابق لك.. تماماً". فهذا لا يعني سوى أنّه قرر أن لا يقول لها شيئاً. وإذا كان ما أسعدني في هذه القصة, كونها ليست مطابقة لحياتي, فإن مطابقتها للحياة أمر جعلني أنزعج من هذا المنطق العجيب للأقدار, الذي يجعل دائماً في كل علاقة, بين رجل وامرأة, طرفاً لا يستحق الآخر. وربما تمنيّت سراً, لو كان هذا الرجل لي. إنه على قياس صمتي ولغتي. وهو مطابق لمزاج حزني وشهوتي. ولكن هذه لم تكن مشكلتي. وتلك القصة لم تكن قصتي. أو بالأحرى, حتى الآن, لم تكن كذلك. ولذا, وضعت لها ذلك العنوان, الذي لم أجهد نفسي كثيراً للعثور عليه. وعدت إلى مشاغلي. لا شيء كان يهيّئني لأصبح طرفاً في هذه القصة. أو للدخول في مغامرة أدبية طويلة النفس. هذه القصة أردتها قصيرة قدر الإمكان, بعيدة عنّي قدر الإمكان, سريعة الوقع, سريعة الخاتمة. ولكن كالأعشاب البحرية, ظلت جملها الأخيرة عالقة بذهني. وعبثاً حاولت أن ألهي نفسي بأمور أخرى. كان موضوع هذه القصة يطاردني. وشيء داخلي يرفض هذه النهاية. لم يكن يعنيني لماذا افترق هذان العاشقان, وما إذا كانا سيجتمعان ثانيةً أم لا, ومن منهما خسر رهان التحدّي. قصتهما الي دخلتها مصادفة, كمن يفاجئ نافذة مقابلة لشرفته مفتوحة, فيتلصص على من فيها.. لا تثير فضولي. وحده ذلك الرجل يعنيني. بي فضول نسائي لفهمه. بي رهان لجعله يخلع ذلك المعطف.. بي تحدٍّ ليس أكثر. قبل هذه التجربة, لم أكن أتوقع, أن تكون الرواية اغتصابًا لغويًا يرغم فيه الروائي أبطاله على قول ما يشاء هو, فيأخذ منهم عنوة كلّ الاعترافات والأقوال التي يريدها لأسباب أنانية غامضة, لا يعرفها هو نفسه, ثم يلقي بهم على ورق, أبطالا متعبين مشوهين, دون أن يتساءل, تراهم حقا كانوا سيقولون ذلك الكلام, لو أنه منحهم فرصة الحياة خارج كتابه؟ اكتشافي هذا, لم يغير نيتي في إرغام هذا الرجل على الكلام, فلا شيء سواه يعنيني. صمته المكابر يربكني, معطفه السميك يزعجني. وكلماته القاطعة أصبحت مقصلة لأي مشروع نص قادم. ومن الواضح أنه لن يكون بإمكاني أن أكتب شيئا قبل أن ينطق هذا الرجل. وهكذا جلست إلى دفتري. ورحت أواصل كتابة القصة وكأنني لم أتوقف بالأمس عن كتابتها. ذات مطر.. جاء صوته على الهاتف. وبرغم البرد, بدا وكأنه خلع معطفه وهو يسألها: - كيف أنتِ؟ أما زال لك ذلك الولاء للمطر؟ ولم تدرِ, أكان لا بدّ أن تستنتج أنّ في أسئلته عودة إلى حبها, أم أن المطر هو الذي عاد به إليها؟ فهي لم تنسَ قوله مرّة "الأسئلة توّرطٌ عشقيّ". تماماً كما تذكر ذلك الموعد الذي جمعهما مرّة في سيارته, بينما كان المطر يهطل بغزارة. اكتشفت يومها جمال أن يكونا عاشقين, لا عنوان لها سوى مسكن عابر للحبّ, له حميمية سيّارة.. في لحظة ممطرة. كانت تشعر أنهما أخيراً وحيدان. ومختبئان عن كل الناس. يغطيهما ستار من الأمطار المنزلقة على زجاج النافذة. يومها كانت تريد أن تقول له أشياء لا تقال إلا في لحظة كتلك. ولكنه أوقف سيّارته إلى جانب الرصيف. وكأنه يوقف اندفاعها بين جملتين. وقال وهو يشعل سيجارة: - لا جدوى من الاحتماء بمظلة الكلمات.. فالصمت أمام المطر أجمل. لم تناقشه في رأية. اكتفت بوهم امتلاكه, مسجونا هكذا معها في يوم ممطر, داخل سيارة, تتقاسم معه أنفاسه, ورائحة تبغه, وصوت المفاتيح في جيبه, وهو يبحث عن ولّاعة. تراقبه في دفء تململه البطيء جوارها, وحضوره الهادئ المربك, بمحاذاة أنوثتها, مأخوذة بكلّ تفاصيل رجولته. لطالما دوّختها تفاصيل الرّجولة, تلك التي لها كبرياء الإيحاء, وذلك الاستفزاز الحميميّ الصامت الذي تشي به ذبذبات لا علاقة لها بالفحولة, تلتقطها الأنوثة.. وتقع في عبوديتها النساء. بعدها عادت إلى البيت باكتشاف صنع في شتاءاتٍ أخرى حزنها. فقد أدركت, من فرط سعادتها معه يومها, أنّنا لسنا متساوين أمام المطر. ولذا, عندما يغادرنا الحبّ, ونجد أنفسنا وحيدين في مواجهته, علينا أن نتجاهل نداءه العشقيّ الموجع, واستفزازه السادي لنا, كي لا يزيد من ألمنا, كوننا ندري تماما أنه يصنع, في اللحظة نفسها, سعادة عشّاق آخرين. أجل.. أحيانا, ليس أكثر ظلما من المطر! وهي ما زالت تتساءل لأيّة نشرة جوية تراه يعدها. هل عاد لأنه يريدها؟ أم هل جاء استباقا لرائحة التراب بعد المطر؟ هو الذي لا يحب من الصحو سوى تلك التربة المبللة التي يخلفها الشتاء. فيستنشق رائحتها, بحواس متوهجة, وكأنه يشتمّ أنثاه بعد الحبّ. ولكنه سألها: - هل أراك غداً؟ فكرت أنه يكون جميلاً, لو ذهبنا لمشاهدة ذلك الفيلم معاً.. في يوم ممطر. وقبل أن تسأله عن أيّ فيلم يتحدّث. واصل: - أتدرين أنّه مازال يعرض في القاعة نفسها منذ شهرين؟ إنها عمر قطيعتنا. لم تحاول هذه المرّة أن تخترع له أعذارا. سألته فقط: - أين نلتقي؟ قال: - في سينما "أولمبيك" قبل عرض الساعة الرابعة. ثم استدرك: - أو إذا شئتِ.. انتظريني عند مدخل الجامعة. سأمرّ وأخذك من هناك, عند الساعة الثالثة والنّصف هذا أفضل. وقبل أن يمنحها وقتاً تقول فيه شيئاً, كان قد وضع السماعة مودعا, ليتركها من جديد لأسئلتها. سعدت بهذه النهاية, التي لم أجهد نفسي كثيرا في العثور عليها. حتى أنني كتبتها هكذا كما جاءت. دون أن أفاضلها بأخرى, ودون أن أشطب أي سطر فيها, أو أعيد قراءتها كعادتي أكثر من مرّة. وكأنني أريد بذلك أن أقنع نفسي بأنني لست من كتبها. ولكن أليس ثمّة دائما أمر ما تخفيه الكلمات, حتى عندما تأتي بتلقائية مريبة؟ بل إن تدفقها هكذا على نحو أو آخر , هو ما يجب أن يدعو إلى الريبة. يحدث للغة أن تكون أجمل منا. بل نحن نتجمل بالكلمات نختارها كما نختار ثيابنا, حسب مزاجنا, ونوايانا. هنالك أيضا, تلك الكلمات التي لا لون لها, ذات الشفافية الفاضحة. كامرأة خارجة نواً من البحر, بثوب خفيف ملتصق بجسدها. إنها الأخطر حتماً, لأنها ملتصقة بنا, حدّ تقمّصنا. وهذا الرجل الذي كان يصرّ على الصمت, وأصرّ أنا على استنطاقه, ويصر على إبقاء معطفه, وأصر على تجريده منه, ما زال يربكني في كلّ حالاته, حتى عندما يخلع صمته.. ويلبس صوتي وكلماتي المبللة. ها قد جعلته ينطق أخيرا, ويقول كلاما أردته أنا. فهل هزمته حقاً؟ وبرغم ذلك, بإمكاني أن أعترف أنه فاجأني. لا لأنه طلب للمرّة الثانية من تلك المرأة أن ترافقه لمشاهدة ذلك الفيلم, وهو أمر لا يشبهه, ولكن لأنه أعطاها اسم قاعة سينما لم أسمع بها من قبل. ولا أدري إن كانت موجودة حقا. لكوني لم يحدث أن ارتدت السينما في هذه المدينة, أو تابعت حتى ما يعرض فيها من أفلام. فجأة خطر ببالي أن أبحث في الجريدة, إن كانت هذه القاعة موجودة حقاً. وهكذا رحت أفتّش في الصفحة المخصصة لبرامج التلفزيون والعروض السينمائية, مدققة في أٍماء قاعات السينما, الواحدة تلو الأخرى, وإذ بي أعثر على قاعة "أولمبيك" حيث يعرض فيلم أميركيّ بعنوان "Dead Poets Society", من الأرجح أنّه يعرض بنسخته الفرنسية؛ فلا أحد هنا يفهم الإنكليزية. حاولت أن أجد ترجمة لهذا العنوان, عسى ذلك يفك بعض لغزه. فعثرت على عنوان قد يكون: "حلقة الشعراء الذين اختفوا". ولأنني لم أصدق تماما أن يكون هذا هو الفيلم الذي يعنيه ذلك الرجل, فقد رحت أدقق في كلّ الجرائد القديمة المكدسة أرضاً في مكتب زوجي, والتي يحضرها كل يوم بحكم وظيفته, فتبقى ملقاة هنا أرضاً قبل أن يضعها بنفسه خارج مكتبه. رحت أقلب صفحات السينما في كلّ الأعداد التي صادفتني. وكل مرّة, كنت أعثر على ذلك الفيلم معروضاً في القاعة نفسها. آخر جريدة أوصلتني إلى ما قبل الشهر والنصف, وهو ما جعلني أستنتج أنّ عرضه قد يعود إلى بداية الشهرين الماضيين, كما جاء على لسان ذلك الرجل. وهو أمر فاجأني, إلى حدّ إذهالي. فأنا لا أعرف هذه القاعة. ولم أسمع بهذا الفيلم. وكيف لي بالتالي أن أعرف أنه يعرض منذ شهرين هناك, وأن إحدى فترات عرضه تكون في الساعة الرابعة, كما تؤكد الجريدة أيضاً؟ مفاجأة الاكتشاف جردتني من منطق الأجوبة. فأنا لم أعد أدري إن كان نزل عليّ وحيٌ ما, لكتابة أشياء لا علم لي بها.وهل يجب أن أحذر هذه القصة التي جاءت مخيفة في تفاصيلها, أم هل أجد فيها إشارة من القدر ووعداً بلقاء ما؟ كلّ أسئلتي كانت تدور حول ذلك الرجل. لماذا يعنيني أمره إلى هذا الحد؟ ولماذا يثير فيّ هذا القدر من الأسئلة؟ وهل الأسئلة حقاً.. توّرطٌ عشقيّ؟ أهو الذي قال هذا.. أم أنا؟ هو الذي لم يطرح سوى سؤال واحد "هل أراكِ غداً؟" سؤال طرحه بالتحديد عليها هي. ولكن كيف لي أن أخلف, أنا الكاتبة موعداً كهذا. ألست أنا التي أردته.. وحددته. ولا بد أن أكون هناك. كي أختلق لهما أحاديث ومواعيد وخلافات, ولقاءات جميلة وخيبات, ومتعة ودهشة.. ونهايات! إنه امتياز ينفرد به الروائي, متوهماً أنه يمتلك العالم بالوكالة. فيعبث بأقدرا كائنات حبرية, قبل أن يغلق دفاتره, ويصبح بدوره دمية مشدودة إلى الأعلى بخيوط لا مرئية. أو تحركه كغيره في المسرح الشاسع للحياة.. يد القدر! وقتها عبثًا يسبق مشاريعه قائلاً "إن شاء الله". وكأنه يمنح بذلك رشوة للأقدار, كي تكافئه بتحقيق أحلامه. أذكر, ذلك الذي كنت أقول له تعلّم أن تقول "إن شاء الله". سألته يوماً "متى نلتقي؟" كان يعدّ حقيبة حزن على عجل. فأجابني على طريقته ببيت لمحمود درويش: "نلتقي بعد قليل بعد عام... بعد عامين وجيل" ولم نلتق بعد ذلك أبداً. نسي كلانا يومها أن يقول "إن شاء الله"! ألهذا م يعد؟ أم ترى لأنه ذهب ليدفن أباه بنوايا انتحارية, في ذلك البلد الذي يقتل الشعراء.. ويكثر من المهرجانات الشعرية, فدفن جثة مشوهة جواره. وكان قبلها يقول.. إنه سيغادر الشعر, ويجرب نفسه في رواية أتراهما كانا سيلتقيان حقا؟ وبماذا تراها كانت ستجيبه لو أنني تركت لها حرية الجواب؟ أتوقع أنها كانت سترد عليه بإحدى صيغها الضبابية. كأن تقول له "ربما نلتقي", وهي تدري تماما أنها تعني "طبعا".. وتماديا في المراوغة ربما قالت "قد يحدث ذلك" لِتُوهِمَهُ أن ذلك "لن يحدث". وعندها سيرفع التحدي, ويجيبها "قطعا.. ليس هذا بالمهم" ويضع السماعة مغلقا أزرار معطفه. مرتديا صمته من جديد. الصمت لا يزعجني. وإنما أكره الرجال الذين, في صمتهم المطبق, يشبهون أولئك الذين يغلقون قمصانهم من الزر الأول حتى الزر الأخير كباب كثير الأقفال والمفاتيح, بنيّة إقناعك بأهميتهم. إنه باب لا يوحي إلي بالطمأنينة. وما قد يخفي صاحبه خلف ذلك الباب المصفح من ممتلكات, لا يبهرني بقدر ما يفضح لي هوس صاحبه وحداثة ثروته. فالأغنياء الحقيقيّون, ينسون دائماً إغلاق نافذة, أو خزانة في قصرهم.. أنما المفاتيح هوس الفقراء, أو أولئك الذين يخافون إن فتحوا فمهم.. أن يفقدوا وهم الآخرين بهم! الجميل في هذا الرجل أنّه, ككل أثرياء الحلم, يترك في أعلى معطفه السميك للصمت, زرا واحدا مفتوحا للوهم, كباب موارب وربما كان هذا بالذات هو الشيء الأكثر إغراءً فيه. فهو لا يصمت تماما, ولا يتكلم إلا بقدر كسر الصمت بكلمات قليلة, تختصر اللغة. إنه بطل جاهز لرواية. يمنحك نفسه بالتقسيط. وهل الرواية سوى المسافة بين الزر الأول المفتوح, وآخر زر قد يبقى كذلك؟ ولكن, أيكون هذا الرجل غير موجود سوى في مخيلتي؟ وإذن ما تفسير كلّ تلك التفاصيل المذهلة, التي لم أكن قد سمعت بها قبل كتابة تلك القصة؟ وبرغم كوني لا أصدق أولئك الكتّاب الذين يدّعون أن ثمة قوّة خارقة تملي عليهم ما يكتبون, ولا أعتقد أيضا, أن تكون هذه التفاصيل مجتمعة, هي من حكم المصادفة. أتراني وقعت تحت إغراء الكتابة وفتنتها لأصدق أن هذا الرجل هو الذي أملى عليّ موعداً.. كتبته بيدي؟ أحب تلك اللحظة التي يفاجئني فيها رجل. حتى عندما لا يشبه بعد ذلك وهمي به. إن كل قصة مع رجل ترسو بك على شاطئ المفاجأة. أما إذا كان هذا الرجل زوجاً, فستوصلك القصة حتما إلى سلسلة من المفاجآت. في البدء, نحن ندري مع من تزوجنا. ثمّ كما تقدم بن الزواج, لا نعود ندري مع من نحن نعيش! الأكثر غموضا ومفاجأة, ذلك الجيل من الرجال, الذين ينتمون إلى حروب طويلة النَفَس, ابتلعت طفولتهم وشبابهم دون رحمة, وحوّلتهم رجالاً عنيفين, وسريعي العطب في آن واحد, عاطفيين وجبابرة في الوقت نفسه. أولئك يخفون داخلهم دائما رجلا آخر, لا أحد يدري متى يستيقظ, وطفلا لم يكونوا على أيامه, قد اخترعوا لعبة "الليغو", ليتمكن ككل الأطفال, من التدرب على تركيب قطعها حسب مزاجه الطفوليّ, ثم فكها من جديد. أتوقع أن يكون زوجي قد ولد بمزاج عسكري, وحمل السلاح قبل أن يحمل أي شيء. فأين العجب في أن يكسرني أيضا دون قصد, تماما, كما أغراني قبل ذلك بسنوات, دون جهد؟ أليست السلطة كالثراء, تجعلنا نبدو أجمل وأشهى؟ أوليست النساء كالشعوب, يقعن دائما تحت فتنة البذلة العسكرية وسطوتها. قبل أن ينتبهن إلى أنهن بانبهارهن بها, قد صنعن قوّتها؟ صحيح أنه فعل ذلك تدريجيّاً, وبكثير من اللياقة, وربما بكثير من التخطيط, وأنني كنت أمضي نحو عبوديتي بمشيئتي, ومن الأرجح.. دون انتباه. سعيدة بسكينتي أو استكانتي إليه. تاركة له الدور الأجمل. دور الرجولة التي تأمر, وتقرر وتطالب وتحمي وتدفع وتتمادى. كنت أجد في تصرفه شيئا من الأبوة التي حرمت من سلطتها. بينما يجد هو في تسلطه استمرارية لمهامه الوظيفية, خارج البيت. أذكر.. بدأت علاقتنا بانبهار متبادل وبعنف التحدي المستتر. كان لا بد أن أتوقع أن العلاقات العنيفة هي علاقات قصيرة بحكم شراستها. وأنه لا يمكن أن نضع كل شيء في علاقة؛ لا يمكن أن نكون أزواجا وأصدقاء وآباء وأحبة ورموزا. أما هو, فمن الأرجح أنه كان في هذا المجال أيضا, يفكر بمنطق العسكر الذين, عندما يصل أحدهم على السلطة, يصر على شغل كل المناصب الرئيسية في الدولة, وكل الحقائب الوزارية الهامة, معتقدا أن لا احد غيره جدير بأن يشغلها,بل وأن وجود شخص غيره فيها هو احتمال دائم للإطاحة به. ولهذا لم يترك في حياتي مساحة حرية, يمكن أن يتسلل منها أحد. فقد سطا على كل الكراسي, دون أن يشغل أحدها بجدارة. تنبهت بعد ذلك, إلى أن أبوته هي التي كانت تعني لي الأكثر. وأن مهامه السياسية ورتبته العسكرية لم تكن تعنيني بوجاهتها, وإنما لكونها استمرارا لذاكرة نضالية نشأت عليها, وعنفوان جزائر حلمت بها. كنت أرى في قامته الوطن, بقوته وشموخه. وفي جسده الذي عرف الجوع والخوف والبرد, خلال سنوات التحرير, ما يبرر اشتهائي له.ز واحتفائي به إكراما للذاكرة. كم مر من الوقت, قبل أن أكتشف حماقة خلطي عقدة الماضي.. بالواقع المضاد. ..تماما, كخلطي الآن, بين وهم الكتابة.. والحياة, وإصراري على الذهاب على ذلك الموعد الذي أقنعت نفسي عبثا بأنني لست معنية به, وأنه سيتم بين كائنات حبرية, لا يحدث أن تغادر عالم الورق؟ ورغم ذلك أمضي.. دون أن أدري أن الكتابة, التي هربت إليها من الحياة, ـاخذ بي منحىً انحرافيا نحوها, وتزج بي في قصةٍ ستصبح, صفحة بعد أخرى, قصتّي.
( دوما )
بين الرّغبات الأبدية الجارفة.. والأقدار المعاكسة.. كان قدري. وكان الحب يأتي , متسللاً إليّ, من باب نصف مفتوح, وقلب نصف مغلق. أكنت أنتظره دون اهتمام, تاركة له الباب موارباً. متسليّة بإغلاقه نوافذ المنطق؟ قبل الحب بقليل, في منتهى الالتباس, تجيء أعراض حبّ أعرفها. وأنا الساكنة في قلب متصدع الجدران, لم يصبني يوماً, هلعٌ من وَلَعٍ مقبل كإعصار. كنت أستسلم لتلك الأعاصير التي تغيّر أسماءها كلّ مرة, وتأتي لتقلب كلّ شيء داخليّ.. وتمضي بذلك القدر الجميل من الدمار. دوماً.. كنت أحبهم. أولئك العشاق الذين يزجون بأنفسهم في ممرات الحب الضيقة, فيتعثرون حيث حلّوا, بقصة حب وضعتها الحياة في طريقهم, بعد أن يكونوا قد حشروا أنفسهم بين الممكن والمستحيل. أولئك الذين يعيشون داخل زوبعة الحبّ التي لا تهدأ, مأخوذين بعواصف الشغف, مذهولين أمام الحرائق التي مقابل أن تضيء أياما في حياتهم, تلتهم كل شيء حولهم, جاهزين تماما.. لتلك اللّحظات المضيئة خلسة, والتي ستخلف داخلهم عندما تنطفئ رماد انطفائهم الحتميّ. أحبّهم.. وربّما كنت أشبههم. ولكن هذه المرّة, توقعت أنني أذكى من أن أتعثر في قصة حب وضعها الأدب في طريقي. لا ليختبر قدرتي على الكتابة, وإنما ليختبر جرأتي على أخذ الكتابة مأخذ الحياة. كنت في الواقع, مأخوذة بمقولة لأندريه جيد "إنّ أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل". مأخوذة بها إلى درجة أنني , عندما اقترح علي الجنون أن اذهب إلى موعد ضربه بطل قصتي لامرأة أخرى, أخذت اقتراحه مأخذ الجد, وقررت أن أذهب بذريعة كتابة شيء جميل. كنت مرتبكة لعدة ساعات قبل الموعد, ذلك الارتباك الذي يسبق لقاءً لا ندري ماذا ينتظرنا فيه, ولكننا نصر على الذهاب إليه, لأن شيئا ما يأمرنا بأن نذهب. صحيح أنه كان بي فضول لمعرفة ذلك الرجل, وفضول آخر لمشاهدة ذلك الفيلم. فقد يكون الطريق الأقصر لفهمه.. ولفهم إصراره على مشاهدته. ولكن كنت أعي تماما أنني ارتكب حماقة غير مضمونة العواقب, بذهابي بمفردي لمشاهدة فيلم, في مدينة مثل قسنطينة, لا ترتاد فيها النساء قاعات السينما. فما بالك إذا كانت هذه المرأة زوجة أحد كبار ضبّاط المدينة, وتصل إلى السينما في سيّارة رسمية, لتجد في انتظارها جيشا من الرجال اللذين لا شغل لهم سوى التحرش بأنثى, على قدر كاف من الحرية أو من الجنون, لتجلس بمفردها في قاعة سينما. ولهذا تعمدت أن أصل متأخرة عن الفيلم بربع ساعة, كي لا أقف في طابور الانتظار, أو أدخل القاعة على مرأى من الناس. ... تماما كما طلبت من السائق أن يعود قبل موعد انتهاء الفيلم بربع ساعة, تفاديا لتلك الأضواء التي ترافق نهاية كل عرض, وتجعل الناس يتفحصون بعضهم بعضا بفضول كثيرا ما أربكني. ولأنني وصلت بعد فترة من بدء الفيلم كان لي حرية اختيار مكاني, وهو الأمر الذي مكنني من الوقوف لحظات وإلقاء نظرة على الجو العام للقاعة التي بدت لي نصف فارغة. كما توقعت, كان الحضور جميعه رجالا. ومن الأرجح أن يكون من الشبان الذين جاؤوا لإهدار الوقت في قاعة السينما بدل إهداره وهم متكئون على جدار. وحدهما رجل وامرأة, كانا يجلسان على انفراد في آخر القاعة ويبدو أنهما كانا هنا لسبب آخر. استنتجت أنهما "هما" فاخترت لي مكانا خلفهما تماما, وكأنني أحتمي بهما, أو أتجسس عليهما. أتوقع أن وجودي أزعجهما. ولكنهما وجدا في أنوثتي ما يبعد الرعب عنهما. ما أتعس العشاق في هذه المدينة التي يعيش فيها الحب ممسكا أنفاسه, جالسا في عتمة الشبهات على كراسيّ مزقتها بسكين أيدٍ لم تلامس يوماً جسد امرأة. أنشغل عنهما بمتابعة الفيلم الذي وصلته, مع وصول البطل إلى الصف في أول الموسم الدراسي. إنه أستاذ تجاوز سنّ الأربعين ببضع خيبات. دائم السخرية بشيء من الرومنطيقية وربما الحزن المستتر. لقد عاد بعد جيل وأكثر إلى المعهد الذي درس فيه, ليعمل مدرسا في مادة الأدب. ومن الواضح أنه جاء لينقذ الطلبة من الأخطاء التي سبق أن تعلمها على هذه المقاعد نفسها, أو تلك القناعات التي تربى عليها.. وتكفلت الحياة بتكذيبها بعد ذلك. يدخل الصف بشيء من الاستفزاز المرح, وهو يصفر أما دهشة الطلبة الذين لم يتعودوا تصرفا كهذا, في مؤسسة دراسية صارمة, ومشهورة بمحافظتها على التقاليد العريقة. يتجه مباشرة, نحو جدار علقت عليه صورة تذكارية, بالأسود والأبيض, لطلبة شغلوا هذه المقاعد الدراسية نفسها, فوجا بعد آخر, وجيلا بعد آخر, على مدى قرن كامل. هاهو يشير بيده إلى الطلبة أن يلحقوا به, ويطلب منهم أن يتأملوا تلك الصور التي لم تستوقفهم قبل اليوم, ويدققوا في وجوه أصحابها, المجتمعة في صور جماعية للذكرى. يلحق به الطلبة مندهشين, فيبادرهم وكأنه يواصل حديثا سابقا, أو كأنه يقد لهم نفسه, كواحد سيمر الآخرون أمام صورته.. على أحد جدران هذا المعهد دون انتباه: "كل اللذين ترونهم على هذه الصور, بهيئاتهم الرياضية التي تشبه هيئاتكم, وعنفوان شبابهم الذي يشبه عنفوانكم, بابتسامتهم العريضة, وطموحاتهم الكبيرة, ومشاريعهم وأحلامهم وثقتهم المطلقة في الحياة, كما هي الآن ثقتكم جميعهم الآن.. عظام تحت قبور فاخرة. لقد ماتوا كما ستموتون!". وقبل أن يستوعب الطلبة هذا الكلام الغريب, لأستاذ يرونه لأول مرة, يواصل: "كل واحد فيكم هنا, ذات يوم سيتوقف فيه كل شيء ويبرد جسده ثم تأكله الديدان وكأنه لم يكن. "انظروا.. إنهم ينظرون إليكم الآن, كأنهم في صورهم هذه, يقولون لكم كلاما لا بد أن تنصتوا إليه. تعالوا.. اقتربوا.. حاولوا أن تلتقطوا كلماتهم.." يقترب الطلبة مذهولين من جدار تغطيه الصور العتيقة, فيأتيهم صوت الأستاذ من الخلف. وكأنه يتحدث على طريقة المهرجين الذين يحركون دمية بيدهم, وهم يتكلمون على لسانها بصوت باطني, دون أن يحركوا شفاههم. "استفيدوا من اليوم الحاضر.. لتكن حياتكم مذهلة.. خارقة للعادة. اسطوا على الحياة.. امتصوا نخاعها كل يوم مادام ذلك ممكنا. فذات يوم لن تكونوا شيئا.. سترحلون وكأنكم لم تأتوا.." ثم يواصل بصوت عاديٍّ: "كان هذا درسكم الأول. بإمكانكم الآن أن تعودوا إلى مقاعدكم.. وتفتحوا كتاب الأدب.." لم يمنعني انشغالي بمتابعة الفيلم, من التفكير في الرجل والمرأة الجالسين أمامي, واللذين جئت أصلا لمتابعتهما. كانا صامتين. لا أدري أكانا حقا مشغولين بمتابعة الفيلم, ولكنهما لم يتبادلا أيّة كلمة. ورغم ذلك, كنت أشعر كأن تعليمات الأستاذ ونصائحه, قد تركت تأثيرا فيهما. وبدا لي كأن اليد اليمنى للمرأة, كانت تتحرك ببطء نحو ذلك الرجل, وتتقدم نحوه بإصرار. وهو ما شجعني على الاعتقاد بأنها هي المرأة "ذاتها". مادامت ليست معنية بهذا الفيلم بقدر ما هي معنية بالتحرش بهذا الرجل. من الواضح أنها مشتاقة إليه. وإلا فماذا عدا الحب يمكن أن يأتي بها إلى هنا, لتكون الأنثى الوحيدة, في قاعة كهذه, لمشاهدة فيلم كهذا؟ شعرت بشيء من الشفقة عليها. وربما بشيء من الشفقة على نفسي أيضا. مادمنا موجودتين هنا من أجل الرجل نفسه. هذا الرجل الذي يبدوا لي من الخلف, يقارب الأربعين, بشعر مرتب, وهيأة محترمة مقارنة ب"بني عيان" وكل الذين لا يوحي شكلهم بالأمان في هذه القاعة, من الأرجح أنه "هو". إنه يرتدي معطفا, يقف الآن ليخلعه, ويضعه على ركبتيه, بطريقة يغطي بها ركبتي تلك المرأة أيضا. ولن يكون من الصعب بعد الآن أن أتصور ما سيلي ذلك! في هذه اللحظة, حضر رجل ليأخذ مكانه على الكرسي المجاور لي تماما. وهو ما زاد في إزعاجي وجعلني أندم على حماقة مجيئي إلى هذه القاعة, معرضة نفسي للشبهات. فلا أحد هنا سيصدق أو سيفهم أن كاتبة جاء بها الفضول, وأرادت أن تتلصص على عاشقين, اعتقدت أن من حقها أن تندس بينهما, لأنها خلقتهما! هما الآن يتبادلان اللمسات المشبوهة على مرأى منها. وهي تحاول أن تقنع نفسها بأنها كاتبة, وكاتبة فقط, وأن الذي يحدث أمامها يعنيها لفهم أبطال روايتها, لا أكثر. وهي تدري أنها تكذب, وأن الذي يعنيها هو هذا الرجل, صاحب المعطف, الذي جاء بها إلى هنا لتعذيبها بمغازلة امرأة أخرى في حضرتها لا أكثر, بعد أن أغراها كامرأة بشيء غير معلن لا اسم له وأوهما ككاتبة بأنه يخفي سرا ما تحت معطف صمته, شيئا يبرر هذه المجازفة. ها قد خلع معطفه ليس لها ولا بسببها. ولكن ليصنع منه غطاءً يلامس تحته جسد امرأة جالسة إلى جواره! إنه في النهاية, ينتمي السلالة الأسوأ من الرجال, تلك التي تخفي تحت رصانتها ووقارها, كل عقد العالم وقذارته. كأولئك الذين يجلسون إلى جوار زوجاتهم, بهيبة وصمت. ثم يتركون لأقدامهم حرية مد حديث بذيء تحت الطاولة! ليس هذا الاكتشاف هو الذي صدمني, بقدر ما أزعجني غبائي في هذه القصة التي تصرفت فيها منذ البدء بحماقة مثالية. واختلقت مواقف وحوارات ومواعيد, فقط كي أعيش في رومانسية الحب الواهمة. حتى إنني صدقت أن بإمكان رجل أن يغادر دفاتري, ويضرب لي موعدا خارج الورق. من الواضح الآن أن ذلك كان ضربا من الجنون. في لحظة من الخيبة كدت أهم بمغادرة القاعة, والهروب من هذا الجو الموبوء الذي وضعت نفسي فيه, لولا أنني تذكرت أن السائق لن يحضر قبل انقضاء ساعة. وأنني لم أتمكن من متابعة الفيلم الذي تقول لافتة عند مدخل القاعة إنه حصل على عدة جوائز عالمية. وهكذا عدت لأتابع الفيلم, محاولة تجاهل ما يحدث حولي. كان الاستاذ يلقي درسا في كيفية فهم الشعر, حسب ما جاء في مقدمة الكتاب المعتمد للتدريس. والتي كتبها أحد كبار المراجع المختصة في النقد. شارحا فيها كيف يمكن تقويم قصيدة, ومقارنتها بأخرى, معتمدين على خط عمودي وآخر أفقي, يلتقيان ليشكلا زاوية مستقيمة, على كل خط فيها درجات نقيس بها عموديا المعنى, وأفقيا المبنى وهكذا, بإمكاننا أن نكتشف ضعف الشاعر أو قوته بين قصيدة وأخرى ومقارنته بشاعر أو بآخر , حسب مقاييس حسابية دقيقة. وبينما كان الطلبة منهمكين في رسم خطوط عمودية وأفقية على دفاترهم, ناقلين ما يكتبه الاستاذ على السبورة, إذ به يتوقف فجأة ويمحو كل شيء, ويفاجئهم قائلا: - طبعا.. ليس هذا صحيحا. لا يمكن أن نقيس الشعر طولا وعرضا وكأننا نقيس أنابيب معدنية.. اندهاشنا, انبهارنا, انفعالنا, هو الذي يقيس الشعر. أمام قصيدة, النسا يغمى عليهن, والآلهة تولد. والشعراء يبكون كأطفال. من يقيس دموعنا, فرحنا, وكل ما يمكن أن تفعله بنا قصيدة؟ أتدرون لماذا نقرأ أو نكتب الشعر؟ لأننا جزء من الإنسانية. كيف يمكن أن نقيس إنسانيتنا بمقاييس حسابية؟ مزَّقوا كل ما كتبتموه على دفاتركم! يصمت قليلا ثم يضيف: - ولا بأس أن تمزقوا أيضا هذه المقدمة! ينظر إليه الطلبة متسائلين عن مدى جدية ما يأمرهم به. ولكن أمام إصراره, لا يملكون إلا أن يقتلعوا الصفحات الأولى من الكتاب, ليكون كتابا لا مكان فيه لشيء عدا الشعر. أثناء ذلك, كان يمر أمامهم بسلة المهملات, طالبا بعد آخر, يجمع الأوراق الممزقة, بشيء من الغبطة التي وحده يدرك سببها. إنه لم يعطهم درسا في فهم الشعر. وإنما درسا في فهم الحياة وشجاعة في التشكيك في كل شيء حتى ما يرونه مكتوبا في كتب مدرسية تحت توقيع اسم كبير. وخاصة الجرأة على تمزيق كل ما يعتقدونه خاطئا, وإلقائه في سلة المهملات! لا أدري إلى أي مدى تجاوبت القاعة مع هذا المشهد الجميل, وهل وجد فيه البعض ما يبرر مواصلة تمزيقه للكراسيّ. | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:16 | |
| أما ذلك الرجل الجالس أمامي فكان منهمكا في البحث عن قلم وورقة ما كاد يعثر عليهما, حتى راح يكتب شيئا, توقعته خاطرة يسجلها على ورقة. لم أقاوم فضول استراق النظر إلى ما كتب, مصطنعة حركة تقربني إلى الأمام. ماذا لو كان يكتب شيئا بنية ان أطلع عليه؟ فلقد لاحظ وجودي خلفه وتجسسي عليه. وقبل أن ألمح على الورقة رقما, من الأرجح أنه رقم هاتفيّ, شعرت أن شيئا قد وقع مني. وتحسست أذني, وإذ به قرطي قد سقط أرضا. انحنيت لأبحث عنه, مستعينة بشعاع ضوء قادم من الشاشة, وإذ بولاعة تشتعل على مقربة مني, ورجل ينحني ليضيء لي المكان. فاجأني وجود هذا الرجل, الذي كدت أنسى أنه جالس جواري. وربما كان عطره, أو رائحة تبغه هو ما فاجأني الأكثر. فقد شعرت أنه يباغتني, وأن رجولته تقتحمني في تلك العتمة. وهو هنا, على بضعة أنفاس مني, يتابع بحثي عن شيء ما, دون أن يقول شيئا, وحتى دون أن يسألني عمّا كنت أبحث عنه. وكأن تلك الشعلة التي يمسكها بيده, ليست سوى لإضاءة وجهي. رفعت عينيّ عن الأرض, متسلقة بنظرات بطيئة صدره. ثم عندما وصلت إلى وجهه, كانت عيناه مفاجأتي. كانت لهما تلك النظرة التي أعطتها العتمة عمقاً مربكا, بقدر ما هو مُغرٍ. لم يكن بإمكاني أن أدرك, ما لونهما بالتحديد. ولكن أدركت أنه لم يكن أن أواصل النظر إليهما. فجأة قررت أن أكف عن البحث. لم يعد أمر القرط يعنيني . ولا ضياعه يزعجني. كلّ الذي يشغلني نظرات هذا الرجل, أو على الأصح حضوره المربك. أصلحت من جلستي, بعد أن قلت له بصوت خافت بضع كلمات من باب اللياقة: - أعتذر.. لقد أزعجتك. ولكنه أطفأ ولاّعته وقال وهو يعيدها إلى جيبه: - قطعاً.. وعاد إلى مشاهدة الفيلم. كلمته الفريدة شدّتني, وسمرتني في مكاني. فقد لفظها وكأنه يلفظ كلمة السر التي لا يعرفها سوانا. ألقى بها في وجهي وكأنه يرمي إليّ ببطاقة تعريفه, بنبرة موجزة فيها شيء من الاستفزاز المهذب.. أو السخرية المستترة. ولم يضف إليها شيئا. هل صمت كي يقنعني بحجة قاطعة, أنه رجل اللغة القاطعة؟ مذ تلك اللحظة, لم يعد بإمكاني أن أركز على أي شيء مما يحدث حولي.. الحب يجلس دائما على غير الكرسي الذي نتوقعه. تماما, بمحاذاة ما نتوقعه حباً. وأنا التي خبرت طويلا هذه الحقيقة, كيف جلست أكثر من ساعة, جوار رجل لم أول اهتماما لوجوده. مشغولة عنه برجل آخر, يجلس أمامي. جاء دون أن يدري, متنكرا في زي الحب, فقط لأنه يرتدي معطفا ويجلس صحبة امرأة! وهذا الذي قال "قطعا" وصمت, ماذا لو لم يكن هو؟ لو أنه قال هذه الكلمة دون تفكير؟ لو أنه جلس هنا, فقط لأنه المكان الأقرب في الصف الأخير؟ لو أن الحياة أرادت أن تسخر مني, ككاتبة, مرتين! تساءلت دائما: ما هي نوعية المسافة التي تفصلنا عمّا نشتهي؟ أتراها تقاس بالمكان؟ أم بالوقت؟.. أم بالمستحيل؟ وأي منطق هو منطق الرّغبة؟ أيكون منطقا لغوياً أم منطقا زمنياً.. أم منطق ظرف تضعك فيه الحياة؟ وهذا الرجل الذي انتقل بكلمة واحدة, من خانة الغرباء إلى الرجل المشتهى, كيف تمكّن من التنّقل في سلم الرتب بهذه السهولة؟ ترى تواطأت معه اللغة؟ أم العتمة؟ أم هذا المكان الملتبس بين الوهم والحقيقة. بين النهار والليل. بين الحلم والواقع. بين الأدب والحياة؟ لو أنه تحدّث لساعدني بعض الشيء على فهم ما يحدث. ولكنّه لم يفتح أيّة نافذة للكلام. وظلّ مشغولاً عني بمتابعة ذلك الفيلم. دون أن يتوقف أثناء ذلك عن بثّ ذبذبات حديث يقال صمتاً, في عتمة الحواسّ. وأنا نفسي, لم أجد معه شيئا يمكن أن يقال, وقد انطفأ معه الكلام, لتشتعل به مساحات الصمت. لا أدري كم قضينا من الوقت على هذا النحو, هو يتابع الفيلم, وأنا أتابعه هو. أو أسترق النظر أحيانا إلى عاشقين, لم يعد أمرهما يعنيني, ولا ما يقولان يسعفني في شيء, مذ قال هذا الرجل, كلمة واحدة.. وصمت! أثناء انشغالي به, مرّت مشاهد وأحداث, حاولت عبثاً أن أركّز عليها, غير أن أحدها استوقفني. كان الأستاذ يشرح درساً ما. عندما راح يوضح للطلبة أنّ وجهة نظرنا في أي أمر, تختلف حسب موقعنا, والزاوية التي نقف فيها. ولذا طلب منهم أن يأتوا صوبه, ويصعدوا الواحد تلو الآخر فوق مكتبه, كي يروا من حيث هم كيف أنّ قاعة الصف نفسها تبدو مختلفة, عندما نراها من فوق مكتب الأستاذ, من الجهة المقابلة لنا. فالطريقة الصحيحة لفهم العالم. هي في التمرد على موقعنا الصغير فيه, والجرأة على تغيير مكاننا وتغيير وضعيتنا, حتى بالوقوف على طاولة, عوض الجلوس أمامها والإتكاء عليها. كان يتحدث بينما كان الطلبة يتتالون على مكتبه صعوداً ونزولاً. يستبقي بعضهم قليلاً, طالبا منهم أخذ المزيد من الوقت, للنظر إلى الأشياء من حيث هم, فينظرون إلى مقاعدهم الفارغة دونهم.. ثم ينزلون مندهشين. وفجأة وبعد أجواء مرحة. يأخذ الفيلم منحى مأساوياً, بانتحار طالب قررّ أن يخوض تجربة مسرحية سراً, وضد مشيئة أبيه, الذي بعث به إلى هذا المعهد الراقي والباهظ التكاليف , كي يصبح طبيبا.. ولا شيء غير هذا. يحدث ذلك في الليلة التي يقدم فيها عرضه المسرحيّ ببراعة جعلت القاعة تصفق له طويلا, بينما يحضر أبوه الذي يسمع بالأمر, ليؤنبه ويهينه أمام الجميع, ويعود به إلى البيت. عندها اتجهت أصابع الاتّهام نحو الأستاذ الذي عدّه الأهل سبباً لانتحار ابنهم. وقررت إدارة المعهد طرده لأنه أفسد تفكير الطلبة وحرّضهم, بطريقته الغريبة في التعليم, على التمرد. وطالبت الإدارة الطلبة بتوقيع عريضة أعدتها ضدّه, مهددة كلّ من يرفض توقيعها بعقوبة الطرد. كانت بي رغبة في مشاهدة نهاية الفيلم, ومعرفة ما إذا كان الطلبة سيتخلون عن الأستاذ الذي علّمهم كلّ شيء بما في ذلك الدفاع عما يعتقدونه حقيقة, أم هل تراهم سينهزمون, أمام أول مساومة دنيئة تضعهم أمامها الحياة, لولا أنني تنبهت إلى مرور الوقت واقتراب نهاية الفيلم, الذي سيفاجئني الضوء بعده ويحرق شريط حلمي ويحوّلني كما في قصة سندريلا من سيدة المستحيل إلى امرأة عادية, تجلس في قاعة بائسة, جوار رجل قد لا يستحق كلّ هذه الأحاسيس الجميلة التي خلقها داخلي. وكنت قد يئست من مباغتة هذا الرجل لي بكلمة تؤكد أو تنفي ظنوني. ولذا قررت أن أباغته بانصرافي. فوقفت وتوجهت إليه بكلمات أردتها عاديّة قدر الإمكان: - عفواً.. هل تسمح لي بالمرور؟ وجاء جوابه كلمة واحده: - حتماً.. ووقف ليلتصق بكرسيّه, تاركا لي ما يكفي من المسافة, ليلامس جسدي جسده من الخلف, دون أن يحتك به تماما. مسافة ل أعد أدري أعبرتها في لحظة أم في ساعات. ولكنها المسافة الصغيرة والكبيرة في آن واحد, تلك التي عندما نقطعها, نكون قد تجاوزنا عالم الحلم, إلى عالم الحقيقة. أكانت كافية.. ليلتصق بي عطره, ويخترق كل حواسي حدّ إيقافي بعد ذلك أشهرا, أمام رجولةٍ لن أستدل عليها سوى بعطرها؟ أعتقد أن نظراته قد رافقتني حتى مغادرتي القاعة. فقد أحسست بها تودعني بصمت, ولكن دون أن يكلف نفسه مشقة استبقائي بكلمة.. أو بسؤال. من الأرجح أنه كان مأخوذا بنهاية الفيلم. فلحظة غادرت القاعة, كان الأستاذ يجمع أشياءه من الصف. بينما كان ينوب عنه المدير العجوز في إعطاء درس الأدب, في انتظار تعيين أستاذ جديد. كان المدير يبدو صارما ومتحمسا لإصلاح كلّ ما أفسده هذا الأستاذ. حتى أنه طلب من التلاميذ أن يفتحوا كتبهم على الدرس الأول. لأنه يريد تعليمهم كل البرنامج الدراسي منذ بديته. ولكنّه فوجئ بهم يملكون نسخا مختلفة عن نسخته؛ تنقصها تلك المقدمة النقدية. فقد ذهب الأستاذ, ولكن بعد أن ألقى ألى سلة المهملات, كل ما كان يعتقده غير صحيح. ولم يعد بإمكان أحد بعد الآن أن يقنع الطلبة بشيء مزّقوه ورموه. كان الأستاذ يراقب المشهد بصمت, وهو يغادر الصف محمّلا بأشيائه الصغيرة, على مرأى من المدير. وعندما وقف ليلقي نظرة أخيرة على طلبته, نهض أحدهم وصعد على مكتبه ليودّعه من علوّه, دون أدنى كلام, بذلك القدر من صمت البكاء. لحظتها.. كانت عدوى الشجاعة تنتقل إلى بقية الطلبة, الذين راحوا يصعدون الواحد بعد الآخر على طاولاتهم ليوّدعوا صمتأ ذلك الأستاذ الذي طرد من وظيفته, لأنه علمهم الوقوف على الممنوعات والنظر إلى العالم بطريقة مختلفة. وكما في الحياة, كان هناك قلّة فضلوا البقاء جالسين على كراسي الخضوع, تملقا للمدير. ولكنهم في انحنائهم, لم يكونوا ليستوقفوا النظر, فقد قصرت قامتهم. وسط صف أصبح كلّه على الطاولات! كان الأستاذ يغادر الصف. وكنت أغادر القاعة, واثقة من أنني تقاسمت مع ذلك الرجل الغريب لحظة بكاء, بعدما تقاسمت معه لحظة من الرغبة الصامتة. ولم يكن مهماً لحظتها أن تكون تلك المرأة التي جلست إلى جواره "هي" أم "أنا"؛ فقد حدثت الأشياء بيننا كما أرادها في عتمة قاعة سينما. ما كدت أرى السائق في انتظاري عند الباب, حتى ألقيت بنفسي داخل السيارة على عجل, وكأنني أريد أن أحتفظ بتلك الأحاسيس الجميلة في مكان مغلق. خفت على ذلك الشيء الجميل, الذي عشته بصمتٍ جوار رجل غريب أن ينطفئ داخلي بسرعة, أن يقتله أو يبعثره الشارع, بضوئه وضجيجه وفضول مارته وبؤس واقعه. كان شيئا شبيها بتلك اللحظات التي نعيشها مع شخص لا نعرف شيئاً عنه. نتقاسم معه كرسياً مجاوراً أو مقابلا في عربة ميترو أو في مقطورة, مسافة من الزمن, دون أن نتبادل شيئاً, عدا النظرات المتواطئة. ثم ننزل مكتفين بمتعة الصمت, وبلحظات شفافة مرت بنا كشال من دانتيل الشهوة. وخلفت داخلنا كل تلك الفوضى الجميلة. وإحساسا غريبا بأننا قد لا نرى هذا الوجه بعد ذلك أبداً وأنه كان يكفي قليل من الشجاعة.. وكلمات فقط.. كي يصبح لذلك الوجه اسم وعنوان. ولكن, ماذا نفعل بمتعة المجهول.. إذن؟ * * * *
في المساء كنت أرتب حقيبة يدي عندما عثرت على ذلك القرط الذي توقعته قد ضاع مني. كان قد وقع داخلها. تساءلت.. أيمكن لشيء صغير إلى هذا الحد أن يغير مجرى قصة؟ وهل كان لي أن أتنبه لوجود ذلك الرجل إلى جواري – وليس أمامي- لولا تلك الحادثة الصغيرة التي دونها كنت على الأرجح, عدت إلى البيت, واثقة من حماقة مراهنتي على الأوهام؟ نعم.. أليست حياتنا في النهاية إلا نتيجة مصادفات, وتفاصيل أصغر من أن نتوقعها على قدر من الأهمية, بحيث تغير أقدرانا أو قناعاتنا؟ تفاصيل, في حجم تينك الكلمتين, اللتين على صغرهما, جعلتاني أصدق أن الأحلام الأكثر جنونا قابلة للتحقيق, وأنه لا حدود بين الكتابة والحياة. منذ البدء, أخذت بجمالية تلك العلاقة الغريبة والمستحيلة, وبذلك الحب الافتراضي الذي قد يجمع بين رجل من حبر وامرأة من ورق, يلتقيان في تلك المنطقة المتلبسة بين الكتابة والحياة, ليكتبا معا, كتابا خارجا من الحياة وعليها في آن واحد. أكثر من انبهاري بشخصية ذلك الرجل , ومساحة الظل فيها , كنت مبهورة بلقائنا المحتمل بين عتمة الحبر .. وعتمة الحواس. كلما تعمقت في هذه الفكرة. ازددت تصديقا أو تورطا في مقولة أندريه جيد, واثقة تماما بكتابة قصة حب من الجمال إلى درجة لم يعد بها الجنون أية كاتبة قبلي! الجنون.. بدايته حلم. وحلمي الليلة, أن أسكن جسد تلك المرأة التي ذهبت نيابة عنها, لمشاهدة فيلم. أود لو استعرت جسدها لمدة كتاب, كما تستعير النساء عادة مصاغا أو ثوبا يرتدينه لعرس. في هذه المدينة التي تستعير فيها النساء من بعضهن بعضاً كل شيء ويتبادلن كلّ شيء, أنا التي أعرت الجميع كلّ ما في خزانتي, ماذا لو استعرت الشيء الوحيد الذي لا أملكه حقا؟ جسد امرأة غيري, وجهها, ملامحها , ذاكرتها العشقية, قصتها مع رجل يعنيني أمره, ويعنيني أكثر أن أتأكد من كوني لم أكن أحلم.. ولم أجنّ. وأنني جلست فعلاً إلى جواره لمدة ساعتين.. وأنه قال لي خلالهما كلمتين! أود لو كان بإمكاني أن أتنكر في زيها, ليكون لي حق رؤيته في الضوء لا في العتمة. أن نتبادل كلاما طبيعيا, لا كلمات قاطعة أو متقاطعة كتلك التي تبادلناها. أن نجلس متقابلين, لا متجاورين, في الزاوية اليسرى أو اليمنى في أي مكان كان. ولكن كيف؟ وأين؟ تستدرجني هذه التفاصيل إلى فكرة على قدر من الجنون, فأركض نحو مكتبي, أحضر الدفتر الأسود. وأشرع في قراءة تلك القصة, قافزة على الأسطر, لاهثة النظرات, بحثا عن شيء محدد, ما أكاد أعثر عليه, حتى أتوقف عن القراءة, بفرحة من عثر على شيء أضاعه في البحر. أغلق الدفتر, وأتنفس الصعداء. فقد عثرت على اسم المقهى الذي كانا يلتقيان فيه. وهذه المرة أيضا.. لم أكن قد سمعت به من قبل! سائق الأجرة الذي طلبت منه مرافقتي إلى مقهى "الموعد", بدا عليه شيء من الاندهاش جعلني أعتقد أن لا وجود لهذا المقهى. غير أنه سألني, وهو يراني محملة بالجرائد والأوراق, بنية التمويه, إن كنت أقصد المقهى القائم بجوار حي الفوبور. أجبته بالإيجاب, تفاديا لمزيد من الأسئلة. ولكنه راح يمد معي حديثا عن الأوضاع الأمنية. وعن شرطي ألقوا به ليلة البارحة من الجسر, وعن فتاة ورفيقتها اختطفتا أثناء عودتهما من المدرسة.. وذبحتا. كنت أستمع إليه وهو يسرد علي أخبار الأقارب والجيران والزبائن. وكل ما سمع به من مصائب. ولا أدري أكان من الأفضل أن أسايره بالحديث, فأشغله عن فضوله تجاهي, أم أصمت, كي لا أِجعه على تعكير مزاجي. فأنا أدري تماما أن الوضع الأمني سيئ هذه الأيام. وهو أحد أسباب زيارة زوجي للعاصمة. ولست في حاجة إلى مزيد من التفاصيل, في هذا الصباح بالذات.. كنت أعي أنني أقترف حماقة أخرى بذهابي إلى مكان لا أعرف شيئا عنه. حتى أني لست واثقة من وجود ذلك الرجل فيه. ولم أحتط, سوى في ذهابي إليه صباحا, في ساعة لا يكون مكتظا فيها بالزبائن, وهو الوقت الذي أتوقع أن يلتقي فيه اثنان, لو أنهما أرادا التلاقي في مقهى. أما الجرائد والأوراق التي أحملها, بنية التمويه, فيبدو أنها قد تكون سببا إضافيا للمتاعب, ولن تقيني من شبهات أخرى. في النهاية.. لم يكن لي من شيء أحتمي به في ذلك الصباح سوى مقولة للشاعر الإرلندي شيماس هيني "امش في الهواء..مخالفا لما تعتقده صحيحا!" وهكذا رحت أمشي نحو قدري, عكس المنطق. كان المقهى أكثر هدوءاً مما توقعت. وبرغم ذلك دخلته بارتباك واضح. فأنا لا أدري عمّن جئت أبحث, ولا أين يجب أن أجلس, ولا ماذا يجب أن أطلب, وهل أخفي أوراقي أم هل أفردها على الطاولة.. وكأنني جئت هنا لأكتب. وقبل كل هذا.. أية زاوية يجب أن أختار للجلوس. كي لا أخطئ باختيارها قصدي. هو قال "احجزي لنا طاولة أخرى.. في أية زاوية عدا الزاوية اليسرى.. ما عاد اليسار مكانا لنا". أيعني أنني يجب أن أجلس في الزاوية اليمنى من المقهى وأنتظر؟ أم أجلس في الزاوية اليسرى, ترقبا لمن سيأتي ويجلس إلى يميني؟! بدا لي المكان شاسعا. يجلس في ركن أيسر منه شاب وفتاة, مأخوذين بنقاش حول أمر ما. وفي زاويته اليمنى رجل بقميص أبيض دون ربطة عنق, منهمك في الكتابة. أمامه أوراق.. وجرائد.. وكثير من أعقاب السجائر. جلست في الزاوية المقابلة له. محافظة على مسافة ثلاث طاولات بيننا, تحسبا للخطأ. بدت منه التفاتة فضولية. نظر إلي بعض الشيء. وإلى الجرائد التي وضعتها على الطاولة. ثم عاد إلى الكتابة. لم أفهم يوما, كيف يكون بإمكان البعض أن يكتب هكذا في مقهى أو في قطار. دون أي اعتبار لحميمية الكتابة. أن تجلس لتكتب في مكان علني, كأن تمارس الحب على وقع أزيز سرير معدني. وبإمكان الجميع أن يتابعوا عن بعد, كل أوضاعك النفسية, وتقلباتك المزاجية, أمام ورقة. حاولت أن أنشغل عن ذلك الرجل, ولكنني لم أتوقف عن متابعته. أذهلني غيابه لحظة الكتابة. وأذهلني أكثر أنه يكتب كلاما في صيغته النهائية. دون تفكير, أو تردد, أو شطب. كان يتوقف أحيانا. يأخذ نفسا من سيجارته, ثم يعود إلى الكتابة. في لحظة ما, بدا لي وكأنه على وشك أن يبادرني بالكلام. فقد توقف بين جملتين. وراح ينظر إلي دون أن يقول شيئا. توقعت التفاتة تفضحه. ولكنه كان وكأنه ينظر إلى شيء وحده يراه. ولم أجد شيئا أهرب إليه من نظرته تلك, سوى فتح جريدة كانت معي.. ورحت أطالعها كيفما اتّفق. بدت منه لحظتها, ابتسامة مربكة, لم أفهمها تماما؛ أكان يسلم علي بها؟ أم يشفق علي من وحدتي؟ أم يسخر مما أقرأ؟.. أم يقول لي فقط إنه تعرف إليّ! ربما كانت تلك المرة الأولى التي أطلت فيها النظر إلى ملامحه. كان على قدر من الوسامة. وكنت أشعر بمودة غامضة تجاه هذا الوجه, وضعف تجاه هذا الحضور الرجالي الصامت الذي لا يشبه في شيء التصرفات الذكورية في هذه المدينة. إحساس ما, كان يقول لي إنني في زمن ما, أحببت رجلا يشبهه أو أنه يشبه تماما رجلا سأحبه يوما. ورغم ذلك لم أجرؤ على القول إنه "هو" قبل أن تصدر عنه أية التفاتة تشي به. أكان منشغلا عني حقا؟ أم كان فقط يتحرش بي بصمته. يجلس أمامي هكذا على مرمى قدر. ينتظر سؤلا يأخذنا إلى شيء قد يحضر؟ أنا المرأة الجبانة التي لم تبادر يوما رجلا بالكلام, كيف لي أنا أشاغبه, أن أشعل تلك الانارات الصغية التي ستجعله يوقف الكتابة ويقول لي شيئا؟ كم تمنيت لحظتها أن ينطق! ولكنه كان يعبث بي بكلام لا يقال إلا صمتا.. ويدخلني في حالة من الارتباك الجميل. أثناء تفكيري, جاء النادل وسألني ماذا أريد. لا أدري لماذا أجبته على غير عادتي "قهوة". ربما لأنسيه أنوثتي. مادام الرجال يطلبون عادة قهوة. ذهب ولم يعد. ولم يعنني كثيرا أنه لم يأت بقدر ماكان يعنيني قدوم رجل مميز المظهر, يرتدي قميصا اسود ونظارات شمس سوداء, في العقد الرابع من عمره. له خطى واثقة, وأناقة رجولة, في غنى عن أي جهد. بدا على الرجل وكأنه يعرفني, أو كأنه فوجئ بوجودي هناك؛ فقد ألقى نحوي نظرة مندهشة, ثم سلاما وديا بإشارة من رأسه. ذهب للجلوس جوار ذلك الرجل, الذي توقف أخيرا عن الكتابة. وراحا يتبادلان حديثا,لم يصلني منه شيء. داهمني شعور بالندم, وربما بالضآلة, كلما طال حديثهما, وكلما طال انتظاري لشيء لا يأتي. عندما تنتظر أحدا, أنت لا ترى شيئا بعينه, ولا تتأمل شيئا بالتحديد؛نظراتك مبعثر كمزاجك. والذي تنتظره قد يأتي من اللامكان, ويفاجئك وسط ذهولك , وفوضى أفكارك.. وأسئلتك. من هو هذا الرجل؟ هل تعرف إلي؟بل كيف أتعرف إليه؟وهذه المرأة التي سطوت على هويتها, ما شكلها, ما لون شعرها؟ ما هي عاداتها في السلام.. عاداتها في الكلام.. عاداتها في الانتظار؟ وهذا الرجل الذي بادرني بالسلام ومضى,أتراه يعرفني؟ أم يعرف أخي.. أو زوجي؟ أم تراه يعرفها؟ ولماذا يتأملني هكذا؟ تراني أشبهها؟ تراه كان ينتظرني؟ أم كان ينتظرها؟ أم تراه كان موجودا هنا للتحدث إلى هذا الصديق لا أكثر.. وماذا لو كان "هو"؟ أبحث في عينيه عن شيء ما, عن ذكرى.. عن شوق مؤجل, عن بقايا حزن سري, عن حب مات في هذا المكان. ولكن عينيه المختفيتين خلف نظارات سوداء, لا توصلانني إلى أي جواب. بينما يطالعني هو عن بعد, دون أن تفضحه نظراته. أن يسترق النظر غلي أثناء حديثه, هذا لا يعني شيئا. أي رجل غيره كان تصرف كذلك, على الأقل من باب الفضول, إن لم يكن من باب التحرش الصامت بأنثى تجازف بالجلوس بمفردها في مقهى بمدينة كهذه. وماذا لو كان صديقه, هو الرجل الذي جئت من أجله, وأنه يمثل معي دور التجاهل كما فعل طوال عرض الفيلم, إن هذا الدور يشبهه تماما. إنه رجل يشي به الصمت, وتلك الزاوية اليمنى التي أختارها للجلوس مقابلا للذاكرة. أخيرا جاء النادل بفنجان القهوة, وضعه أمامي, أو بالأحرى رمى به أمامي وذهب. انتبهت لعدم وجود السكر جواره, كما هي العادة. رفعت يدي لأناديه, ولكنني عدلت فقد كان بعيدا, ولم أشأ أن أرفع صوتي لأقول كلاما تافها مثل "ياخويا.. يعيشك.. جيبلي سكريه". شعرت أن صمتي أجمل من أن أكسره لأقول شيئا لنادل, خاصة أن عواقب ما سأقوله لن تكون محمودة, حسب ما توحي به لحيته. فقد يرفض أن يعطيني السكر. وقد يطلب مني أن أذهب إلى بيتي, واشرب القهوة بالسكر أو بالقطران.. إذا شئت. هذا إذا لم يقلب علي فنجان القهوة. فمنذ الأزل, الجزائر بلد يمكن أن يحدث لك فيه أي شيء مع نادل! كتلك الحادثة التي روتها لي صديقة صحافية كانت موجودة في السبعينات في نزل فخم بالعاصمة, مع وفد من الصحافيين الجانب, بمناسبة الذكرى الثلاثين لاندلاع الثورة. وبعد انتظار طويل, وبعد أن يئست من إحضار طلباتها, استدعت النادل, وقالت له على طريقة الشرقيين: نحن ننتظر منذ نصف ساعة, عليك أن تولينا اهتماما خاصا. إننا ضيوف لدى الرئاسة! ولكنه رد عليها بطريقة لا يتقنها غير الجزائريين: ما دمت ضيفة عن الرئاسة.. روحي لعند بن جديد "يسربيلك". ومضى ليتركها مذهولة. طبعا عندما عادت إلى سوريا وروت هذه الحاثة, لم يصدقها أحد. فعندنا فقط, يطلب النادل من رئيس الجمهورية أن يخدم ضيوفه بنفسه! أمام ما أعرفه من قصص. عدلت عن طلب أي شيء من ذلك النادل. خاصة أنني في وضع "مشبوه" بالنسبة إليه. حتى إنني, لم تكن بي رغبة في النهاية لاحتساء تلك القهوة. ولكن.. فجأة وقف ذلك الرجل ذو القميص الأسود, واتجه نحوي, وفي يده صحن عليه بعض قطع من السكر. لا أدري كيف انتبه لما كنت سأطلبه,, رغم كونه كان يبدو منشغلا بالحديث إلى صديقه. إحساس غامض انتابني وهو يقترب مني. ويمدني بذلك الصحن الصغير. عطره الذي اخترق حواسي, أعادني إلى العطر الذي شممته في السينما, عندما اقترب ذلك الرجل مني ممسكا ولاعة. فانتابني مزيج من الخوف والاندهاش. وحدها نظرته كانت تنقص, ليكتمل المشهد. ولكن كان باستطاعته أن يثير داخلي الأحاسيس نفسها, ويقول الشيء نفسه, دون أن يخلع نظارته السوداء؛ فقد اصبح لهذا العطر ذكرى تقودني في عتمة الحواس.. لأستدل عليه. ولذا لم أقاوم رغبة في استدراجه, أو في اختباره, وأنا أكرر معه المشهد نفسه, مستعملة الكلمات نفسها: - أسفة.. لقد أزعجتك.. وجاءني الرد, مذهلا في تطابقه: - قطعاً.. وكما في المرة الأولى قالها ومضى, دون ان يضيف شيئا. أما أنا, فمن ذهولي بقيت لحظات أتابع عودته إلى تلك الطاولة. وجلوسه بالتلقائية نفسها التي غادرها بها. لحظات.. أتأمله, قبل أن أصدق ردّاً لفرط ما أردته بدا لي كأنني توهمته. لم يكن قرطي هو الذي وقع مني هذه المرة. وإنما قلبي الذي أصبح بكلمة واحدة يقع مغمى عليه كلما خطر للحب أن يلعب معي لعبة الغميضة, ويضعني أمام رجلين, عليّ كل مرة أن اتعرف بكلمة واحدة إلى أحدهما! كنت ما أزال تحت وقع تلك الكلمة, عندما رأيتهما ينهضان. بدت من الرجل صاحب القميص الأبيض إشارة من رأسه كأنه يودعني بها, رافقتها نظرة غائبة تعد بشيء ما. ومضى. لاحظت انه كان يرتدي بنطلونا أبيض ايضا, بينما توجه نحوي الآخر, ممسكا جريدة, لم تكن معه عند مجيئه. وقف برهة أمامي.. ثم سألني: - أتسمحين لي بالجلوس؟ كان يجب أن أقول "لا". أو في حالة أخرى "تفضل" ولكنني أجبت: - طبعًا.. لكنه لم يجلس. قال وهو ما زال واقفا: - في الحقيقة.. أنا أكره هذا المكان.. وأفضل أن نذهب لتناول شيء معًا في مقهًى آخر.. أيزعجك هذا..؟ أجبته: - قطعًا. طبعا, كان يجب أن اقول العكس. ولكن وجدتني لا أملك من لغة سوى لغته, خاصة أنني وجدت في عدم حبه لهذا المكان, دليلا آخر على كونه "هو". أخرج من جيبه قطعة نقدية, تركها على الطاولة, ثمن قهوتي. ثم بلياقة فاجأتني, سحب الكرسي الذي أجلس عليه, ليساعدني على مغادرة المكان. ولم أملك سوى أن اتبعه. أو بالأحرى أن أتبع شيماس هيني وأواصل مشيي في الهواء, مخالفة لما أعتقده.. صحيحا! أمام باب المقهى أوقف سيارة أجرة بإشارة من يده وجلس جوار السائق. ووجدتني ألحق به, وأجلس خلف سائق شاب, فاجأتني طيبته. مما جعلني أغفر له ضيق سيارته وحرارتها القاتلة. كنت سأفتح النافذة. ولكنني خفت أن يزيد هذا من احتمال رؤية الآخرين لي. فرحت أنتظر أن ينطق هذا الرجل.. لتنطلق بنا السيارة أخيرا. - هل تعرف مكانا يمكن أن نذهب إليه؟ التفت السائق دهشا نحوه؛ فلم يحدث أن طرح عليه راكب سؤالا كهذا. تأمله بشيء من السخرية. ربما أشفق علينا, أو بارك جنوننا.. قال: - أين تريدان الذهاب؟ أجاب اللون الأسود: - إلى أي مكان لا يزعجنا فيه أحد. هل هناك مقهى, أو قاعة شاي هادئة؟ ابتسم الرجل ساخرا من طلبه. ومن الأرجح أن يكون قد استنتج أننا غرباء. أدار محرك سيارته وطار بنا. كان الطريق بعيدا بعض الشيء. ورغبة لم تفارقني أثناءه. بالجلوس أخيرا الى هذا الرجل. أن أكون جواره أو مقابلة له, لا خلفه كما أنا الآن. يصلني منه بعض عطره, تحمله نسمت سيارة مسرعة. فأتقاسم معه مجرى الهواء.. وكثيرا من صمت الأسئلة. أولها: لماذا جلس جوار السائق؟ أليضع بيننا مسافة ما.. لسبب أو لآخر, أم لأن أي سائق (أجرة) في الجزائر يشترط علي أن تجلس جواره لا خلفه؟ وقد يذكرك بهذا صارخا في وجهك "يا خو.. مانيش خدّام عندك!". أما السؤال الأهم فهو ليس سبب جلوسي وراءه وإنما طبعا سبب وجودي معه. ما الذي أوصلني إلى هنا؟ ترى فضولي الأدبي هو الذي جعلني أدخل مغامرة على هذا القدر من الغرابة؟ أم تراني أذهب نحو الحب بذريعة الأدب؟ وكيف يمكن لرجل لم يقل لي سوى بضع كلمات, أو بالأحرى كلمة, أن يأتي بي حتى هنا, دون أن أسأله حتى من يكون. وكان كل قدراتي العقلية قد تعطلت, لتنوب عنها حواسي. فألحق رجلا اختزن جسدي رائحته؟ في لحظة ما, كدت أسأله "ما اسم عطرك يا سيدي؟" ثم ترددت. جنون أن أسأل رجلا عن اسم عطره, قبل أن أسأله عن اسمه الآن, فسيأخذ السؤال بُعد الإهانة للحلم. الحلم لا اسم له. وهو, تراه يعرف اسمي؟ وأي الأسماء تراه يعرف.. اسمي أم اسمها؟ ورفقة من هو جالس.. برفقتي أم برفقتها؟ ومع من هو ذاهب إلى هذا العنوان الذي لا يعرفه, معي أم معها؟ عند "سيدة السلام" توقفت بنا السيارة, أمام مقهى شاهق الموقع, هادئ الأجواء, يطل على أودية لا نهاية لعمقها. مضى السائق محملا بشكرنا اللغوي.. والنقدي ليتركنا أمام الأسئلة. أجبنا عن سؤال النادل بالجواب نفسه: "نريد كوكا". وكأننا نقول, نريد أن تتركنا وشأننا. وصمتا لنترك المجال لأسئلة أكبر. كنت أعد نفسي لكلام كثير. ولكنه لم يقل شيئا. أشعل سيجارة, وراح يتأملني في نظرة تطالعني بين غيابين. ثم قال وهو يسكب لي المشروب, بيد ما زالت ممسكة بالسيجارة: - أخيرا أنتِ! كان في نبرته شوق, أو اندهاش جميل. كأنما لفرطه, لا يمكن أن تختصره أكثر من كلمتين. شعرت أنه يواصل الحديث إلى امرأة غيري. ربما تلك المرأة التي لم يكن يقول لها شيئا, عدا صمته. وربما امرأة أخرى غيرها. ذهلت لاستنتاج كهذا. أيعقل أن يأخذني مأخذها؟ ولكنه واصل بما يؤكد ظني: - غريب حقا.. أن أصادفك في ذلك المقهى. لولا صديقي لما حضرت إلى هناك. صمت قليلا ثم واصل: - شيء فيك تغير منذ ذلك الوقت. ربما تسريحتك... أحبك بشعرك الطويل هذا. أتدرين... كدت لا أتعرف عليك لولا ثوبك الأسود. سألته دهشة: - وهل تعرف هذا الثوب؟ أجب ضاحكا: - لا.. ولكنني أعرف لك طريقة في ارتداء الأسود.. لكأنه معك لون خلق للفتنة لا للزهد. لم أدر كيف أرد على غزل لم اكن مهيأة له, ولا أظنني كنت المقصودة به. قلت وأنا أسايره في خطاه: - أما أنا.. فاعترف أنك فاجأتني.. قبلك لم أر رجلا يلبس الأسود في هذه المدينة, حتى لو كان ذلك حدادا. لكأن الرجال يخافون هذا اللون أو يكرهونه. - وأي لون توقعت أن أرتدي؟ - لا أدري لكن الناس هنا يرتدون ثيابا لا لون لها. ثم واصلت بعد شيء من التفكير: - صديقك أيضا يبدو غريبا عن هذه المدينة. رد ضاحكا: - لماذا؟ ألأنه يرتدي قميصا.. وبنطلونا أبيض؟ - بل لأنه يرتدي الأبيض باستفزازية الفرح, في مدينة تلبس التقوى بياضا. - ابتسم وقال: - صدقيني فرحه إشاعة. إنه باذخ الحزن لا أكثر. والأبيض عنده لون مطابق للأسود تماما! وأمام صمتي واستغرابي لكلام من الواضح أنني لم أفهمه, واصل: - الأبيض هو خدعة الألوان.. ألا تعرفين هذا؟ قلت كمن يعتذر: - لا.. لا أعرف. وغرقت في لحظة صمت. كيف لي أن أواصل الحديث مع رجل يبدو هو نفسه كاذب الفرح.. بقدر ما صديقه باذخ الحزن؟ وأنا التي جئت مصادفة لهذا اللقاء.. في ثوب أسود. كيف أبرر هيأتي, ولم يحدث أن أقمت علاقات لونية مع الأشياء. حاولت أن أغادر سيرة الألوان, كي لا ينفضح جهلي به؛ قلت: -عجيبة علاقتنا التي بدأت في العتمة؛ منذ ذلك اليوم وأنا أريد أن أدخل الضوء إلى هذه القصة. - ابتسم وأجاب: - ولكننا لم نلتق في العتمة.. - كدت أسأله "أين التقينا إذن؟" ولكن سؤالا كهذا بدا لي غريبا. وقد يفضحني في حال أنه يتوقعني "هي". - رحت أستدرجه لاعتراف ما؛ قلت: - أحب قصص التلاقي.. في كل لقاء بين رجل وامرأة.. معجزة ما؛ شيء يتجاوزهما, يأتي بهما, في الوقت والمكان نفسه, ليقعا تحت الصاعقة إياها. ولذا يل العشاق حتى بعد افتراقهما.. وقطيعتهما, مأخوذين بجمالية لقائهما الأول. لأنها حالة انخطاف غير قابلة التكرار, ولأنها الشيء النقي الوحيد الذي ينجو ممّا يلحق الحب من دمار. توقعت أن يقول ما يشي بلقاء, أو بقصة ما. ولكنه قال: - كل البدايات جميلة في الحب.. وأجملها بدايتنا. قلت بمراوغة الاندهاش: - حقا؟ أجاب: - طبعا.. لأنها معجزة تتكرر معنا كل مرة. لم يقل أكثر من هذه الجملة, التي جعلتني استنتج أننا التقينا قبل عرض ذلك الفيلم. ولكن أين.. ومتى؟ تلك أسئلة لم يبد مهيأً للجواب عنها؛ فقد دخل في حالة صمت, واضعا بيني وبينه جملا من ضباب الدخان. رحت أتأمله للحظات, وهو مشغول عني, بنا.. أو بها. ثم كسرت الصمت بأول جملة خطرت بذهني. قلت: - إن رجلا يرتدي الأسود هو رجل يضع بينه وبين الآخرين مسافة ما. ولذا ثمة أسئلة, لا أجرؤ على طرحها عليك, رغم بساطتها. إنك تبدو لي رجلا يكره الأسئلة.. قاطعني شبه مندهش: - أنا أكره الأسئلة؟ من قال هذا؟ توقعت للحظة أنني أخطأت. ولكنه واصل: - أنا أحب الأسئلة الكبيرة.. الأسئلة المخيفة التي لا جواب لها. أما تلك الفضولية, فهي تزعجني بسذاجتها. وأظنها تزعج آخرين غيري.. - وكيف ترد إذن على أسئلة الناس حولك؟ سحب نفسا عميقا من سيجارته وكأنه لم يتوقع سؤالي.. ورد بنبرة لا تخلو من مسحة تهكمية: - الناس؟ إنهم لا يطرحون عليك عادة, إلا أسئلة غبية, يجبرونك على الرد عليها بأجوبة غبية مثلها.. | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:17 | |
| يسألونك مثلا ماذا تعمل.. لا ماذا كنت تريد أن تكون. يسألونك ماذا تملك.. لا ماذا فقدت. يسألونك عن أخبار المرأة التي تزوجتها.. لا عن أخبار تلك التي تحبها. يسألونك ما اسمك.. لا ما إذا كان هذا الاسم يناسبك. يسألونك ما عمرك.. لا كم عشت من هذا العمر. يسألونك أي مدينة تسكن.. لا أية مدينة تسكنك. يسألونك هل تصلي.. لا يسألونك هل تخاف الله. ولذا تعودت أن أجيب عن هذه الأسئلة بالصمت. فنحن عندما نصمت نجبر الآخرين على تدارك خطأهم. مذهل هذا الرجل, بكلامه المربك كصمته, ومنطقه المعقد والبسيط في الوقت نفسه, وأجوبته التي ليست سوى رؤوس أقلام.. لأسئلة أخرى. وبرغم أنه لم يترك لي مجالا لطرح أي سؤال "طبيعي" فقد اكتشفت في قوانين منطقة شرعية احراجه, واستدراجه لقول حقيقة.. لن تؤخذ منه إلا بالمقلوب! ولذا بادرته قائلة بشيء من السخرية: - أنت رجل يغري بطرح الأسئلة معكوسة.. فهل لديك شجاعة كافية للرد على أسئلتي؟ أجاب بتحد مازح: - هذا عائد إلى ذكائك! رفعت التحدي. وطرحت سؤالي الأول: - أي اسم كنت تريد أن تحمل؟ وجاء جوابه مدهشا: - الاسم الذي اخترته لي في كتابك.. إنه يناسبني كان يضحك وهو يجيبني. ولم أصدق ما سمعت. جوابه كان يعني أنه يدري من اكون. ولكن, من تراه يكون هو.. ليتحدث إلي وكأنه خارج توا من قصتي؟ أجبته كمن يمزح: - ولكن.. أنا لم أختر لك اسما بعد.. رد بالسخرية نفسها: - فليكن.. يناسبني تماما أن أبقى بلا اسم! - ولكن هذا يزعجني.. ألا يمكنك أن تخلع قليلا من غموضك؟ - وحده الحب يعرينا يا سيدتي.. - هل أفهم أنك لست عاشقا..؟ بقي سؤالي معلقا إلى صمته, فتداركت خطأي, وأعدت طرح السؤال بصيغة أخرى. - هل حدث للحب أن عرّاك؟ - حدث ذلك مرة واحدة. بعدها لبست خيبتي ولم أخلعها بعد. قلت بنشوة أنثى: - إذن ليس في حياتك امرأة؟ أجاب: - كم يلزمني من الصمت يا سيدتي.. لأرد على أسئلتك؟ كان علي أن أفهم "كم يلزمني من الصبر يا سيدتي لأرد على فضولك" أو ربما "لأرد على أسئلتك الغبية".. ولكن هذه الإهانة المهذبة ليست ما استوقفني. وإنما كلمة أخرى شديدة التهذيب. سألته: - لماذا تناديني "سيدتي".. من أخبرك أنني متزوجة؟ - ابتسم وقال: - ثمة نساء خلقن هكذا بهذا اللقب.. جئن العالم بهذه الرتبة. وأية تسمية أخرى هي إهانة لأنوثتهن. وقبل أن أسعد بجوابه, واصل بعد شيء من الصمت: - ما عادا هذا فحالتك المدنية لم تعد تعنيني.. صيغة النفي في جملته الأخيرة, فاجأتني. شعرت أنها تخفي سابق ما. أو أمرا لا يريد الإفصاح عنه. سألته: - لماذا قلت "لم" تعد تعنيني.. وليس لا تعنيني؟ رد بسؤال كاذب: - أقلت هذا حقا؟ وصمت.
كان واضحا أنه يعرف شيئا عني. والمزعج, أنني لم أكن قد عرفت بعد شيئا عنه. ولذا قررت أن أواصل التحدي مستعملة طرقه المقلوبة, في طرح الأسئلة. قلت: - لم يحدث أن التقيت بشخص يشبهك في هذه المدينة, بي فضول لمعرفة أي مدينة تسكنك؟ ولكنه رد ساخرا وكأنه اكتشف الهدف من سؤالي: - لن يفيدك جوابي في شيء. أنا كالكتاب الذين يسكنون مدينة كي يكتبوا عن أخرى. أسكن مدينة, لأتمكن من حب أخرى. وعندما أغادرها, لا أدري أيهما كانت تسكنني.. أيهما سكنت. أنا حالياً شقة شاغرة. غادرت قسنطينة عن حب.. وغادرتني هي عن خيبة! - أأنت من قسنطينة؟ عجيب.. توقعت أن تكون غريبا عنها. - لنقل إنني كذلك. - وماذا تعمل في الحياة؟ ..أقصد ما كنت تريد أن تكون؟ قال ضاحكا لاستدراكي, وللنبرة الساخرة التي صححت بها سؤالي: - في الواقع كنت أريد أن أكون ممثلا.. أو روائيا, كي أعيش أكثر من حياة.. إن حياة واحدة لا تكفيني. أنا أنتمي إلى جيل يعاني أزمة عمر, وأنفق حياته قبل أن يعيشها. وأضاف: - ما عدا هذا.. أنا رسام, وراض تماما عن مهنتي, لأنني لا أفعل بيدي إلا ما أريد. قاطعته مندهشة: - أنت رسام؟! - وماذا توقعت أن أكون؟ - لا أدري .. ولكن.. - ولكن ماذا؟ - كنت أعرف في السابق رساما من قسنطينة.. تذكرته اللحظة. أذكر أنه كان مهووسا بها إلى درجة أنه لم يكن يرسم سوى.. قاطعني قائلا: - سوى الجسور.! صحت: - هل عرفته أنت أيضا؟ ابتسم وقال: - لا.. ولكن, أتوقع لرسام يحب هذه المدينة, أن يرتكب حماقة كهذه. - ولماذا تسمي هذه حماقة؟ - لنقل أنني لا أحب الجسور.. - عجيب.. لقد قضى هو أشهرا في إقناعي بالعكس, توقعت أن يحب الرسامون المعالم نفسها. أطفأ سيجارته وكأنه يريد أن ينتهي من موضوع مزعج وقال: - ما أدراك.. ربما يكون قد غير رأيه منذ ذلك الحين.. وحدهم الأغبياء لا يغيرون رأيهم! استنتجت أن حديثي عن قسنطينة يزعجه؛ فرحت أبحث عن موضوع أستدرجه به إلى الكلام. وقبل أن أنطق قال وهو يتأملني: - أحبك في هذا الثوب .. الأسود يليق بك.. - حقاً؟ - حقاً. ولكن أكثر من هذا اللون. أحب المصادفة التي جعلتنا نرتد اللون نفسه اليوم أيضا. مازلت أذكر ذلك الثوب الذي كنت ترتدينه يوم رأيتك أول مرة. حتى إنني كما في قصة ذلك الأمير الذي لم يبق له من (سندريلا) سوى حذاء ليتعرف به إلى فتاة لا يعرف سوى مقاس قدمها, أتوقع أنني لو رأيت امرأة ترتدي ثوبا من الموسلين للحقت بها, متأكدا من كونها أنت. نفض سيجارته ببطء وواصل: - الذي أحزنني يومها. هو أنني لم أستطع أن أتبادل معك ولو كلمة واحدة. كل الأضواء كانت ضدنا. ربما لأننا كنا الأجمل في زفاف كان لغيرنا. أذكر.. كانت الفرقة الموسيقية تعزف أغاني للفرح, عندما توقفت فجأة, وراحت تعزف موسيقى الدخلة إيذاناً بقدوم العروسين. واصطف على الجانبين نساء في كل زينتهن التقليدية, يضربن على البندير والدفوف. في تلك اللحظة بالذات, كنا ندخل مصادفة معاً, مرتدين اللون نفسه, عندما انطلقت زغاريد النساء حولنا. لم نكن العروسين, وجدنا هناك خطأ في تلك اللحظة, وذلك المكان بالذات. فقد كنا سابقين للعروسين بخطوات فقط. ولكن كان مرورنا معا في تلك اللحظة هو الخطأ الأجمل. فبعدنا بدا الموكب الشرعي أقل تألقا في بياضه. لم يغادرني هذا المشهد أبدا بع ذلك لسنوات. لكأنهم زفوك إلي وهما في ذلك الثوب الأسود. سحب نفسًا من سيجارته ثم واصل: - أذكر يومها تبعثرنا ارتباكا في تلك القاعة. رحت تحادثين آخر, ورحت أحادث أخرى باهتمام مقصود. أخذ كل واحد منا مكانا في مجلس مختلف, تفاديا لمزيد من الأضواء والأخطاء. ولكننا لم نذهب أبعد من بعضنا بعضا. لقد كنا متقابلين حتى في تجاهلنا المتعمد أحدنا للآخر. لا أعتقد أن تكوني قد اشتهيتني في البدء, ولا أنا اشتهيتك. الحب هو الذي اشتهانا معاً, وحلم ببطلين يشبهاننا تمامًا ليمثلا دورا على هذا القدر من الغرابة. كنت أستمع إليه. دون أن أجرؤ على مقاطعته بكلمة. وجدت في صمتي ملاذاً, وإيهاما له بأنني أعرف كل هذا, إضافة إلى تلك الحالة الجمالية التي يضفيها الصمت في مواقف كهذه. شعرت أنه يتحدث عن امرأة غيري. فأنا لا أذكر أنني ذهبت إلى زفاف بمفردي ولبست ثوبا كهذا, لأنني لا أملك أصلا في خزانتي أي ثوب من الموسلين الأسود. ولو حدث هذا, ودخلت قاعة زفاف خطأ, صحبة رجل غريب على هذا القد من التميز, لما كنت نسيت ذلك. ولا كانت هذه المدينة التي تحترف الإشاعات, منحتني فرصة النسيان. خفت أن أصارحه, فأكسر كثيرا من جمالية وهم كل منا بالآخر. فبقيت صامتة, كي استمتع بوضعي الملتبس بين امرأتين, واحده يطاردها لأنها ترتدي الأسود, والأخرى تطارده لأنه قال "قطعا". في النهاية.. كان كلانا بالنسبة إلى الآخر سندريلا والأمير في الوقت نفسه. وكان هذا أغرب ما في قصتنا! لم أجد شيئا أعلق به على كلامه. سوى جملة أردتها أن تحمل أي تفسير: قلت: - كم لنا من البدايات لقصة واحدة! أجاب: - ولهذا كنت واثقا تماما, أننا سنلتقي. بل إنني تصورت لنا لقاءً مشابها لهذا.. ثم توقف قليلا وواصل: - أتدرين لماذا تركت لسائق التاكسي حرية اختيار مكان لنا, وجازفت بموعدنا الأول؟ وقبل أن أسأله "لماذا؟" واصل: - لأنه في الحب أكثر من أي شيء آخر, لابد أن تكون لك علاقة ثقة بالقدر. أن تتركي له مقود سيارتك. دون أن تعطيه عنوانا بالتحديد. أو تعليمات صارمة, بما تعتقدينه أقصر الطرق. وإلا فستتسلى الحياة بمعاكستك, وتتعطل بك السيارة. وتقعين في زحمة سير.. وتصلين في أحسن الحالات متأخرة عن أحلامك! قلت: - إن أمرا كهذا يتطلب كثيرا من الصبر. وأنا امرأة لا تعرف الانتظار. أجاب: - أنت لم تعرفي الحب إذن! قلت: - بل عرفته.. ولكن معرفتي به لم تزدني إلا عجلة. ولهذا ربما.. كثيرا ما أخطأت. علمني الحب أن لا أصدقه فما استطعت. وعلمني أن أتعرف إليه قبل أن أحتفي به, فما استطعت. مازلت أمام قطار الحب, أرى في كل نازل قدومه, فأحمل عنه أمتعته, وأسأله عن رحلته, وعن مهنته, وعن أسماء المدن التي مر بها, والنساء اللاتي مررن به, ثم أكتشف وهو يحادثني, أنه أخطأ بين قطارين وجهته.. فأذهب نحو حب آخر, وأتركه مذهولا من أمري جالسا على حقيبته! كان يستمع إلي بشيء من الاهتمام, الذي قد يكون سببه احتمال أن يكون هو أيضا, في تلك اللحظة جالسا على حقيبته.. دون علمه. ألهذا قال وهو ينفض رماد سيجارته في المنفضة ببطء مدروس: - أتمنى أن تغادري بعد الآن هذه المحطة.. ساد بيننا شيء من الصمت, الذي لم أعرف كيف أكسره سوى بسؤال بدا لي ساذجا بعد جملة كهذه. كان الأصح أن أقول "كيف؟" ولكنني سألته: - لماذا؟ وجاء الجواب مباغتا في صرامته: - لأنني آخر راكب ينزل من هذا القطار. لقد كان الطريق إليك طويلا. بعدي توقفت كل الرحلات. فلا تنتظري شيئا يا سيدتي.. لقد أعلنتك مدينة مغلقة! كيف يمكن لامرأة أن تقاوم رجلا ثملا بهذا القدر من الكبرياء؟ وهل ثمة أجمل من حب يولد بشراسة الغيرة, واقتناعنا بشرعية امتلاكنا لشخص ليس لنا.. نراه لأول مرة! كان على قد من إغراء الرجولة في تلقائيتها. وهو يلفظ هذا البلاغ العشقي الأول بهدوء مربك في ثقته, بحيث لم يبق من مجال لسؤال منطقي مثل "بأي حق تقول هذا؟" فقد وقعت بجملة, تحت سطوة الحب وجنونه, ورحت أتبادل معه حوارا خارج المنطق: - ولكنني لا أعرف عنك شيئا.. - هذا أجمل. - ولا تعرف عني أكثر من وهم الموسلين.. - لا يهم.. - وتعتقد أنك قادر على إيقاف صفير القطارات وندائها السري داخلي..؟ - قطعا.. - وهل تظن أنه من السهل أن نكون عاشقين.. في هذا الزمن المضا للحب؟ - طبعا - ولكننا نذهب نحو تورط عشقي.. - حتما يا سيدتي! - وقبل أن أجمع دهشتي لأضيف شيئا. كان يرفع يده ويطلب من النادل الحساب.. وسيارة أجرة. وما هي إلا دقائق حتى كنا متجهين معا صوب فراق, ونحن بعد مقبلان على حب. عطره كصوتي. لم يكن هذه المرة مرتفع النبرة. سألته: - متى نلتقي؟ أجاب: - سأتصل بك. لم يترك لي من فسحة سوى لعلامة تعجب. - تتصل بي؟ كيف؟ وجاء الجواب هادئا: - لا تقلقي.. أعرف كل شيء. - ولكن.. - أعرف. كانت السيارة تنزل بنا نحو ضجيج قسنطينة الاعتيادي. وكنا منعطفا بعد آخر نتسلق حبا شاهقا في صمته التصاعديّ. فجأة, طلب من السائق أن يوقفه أمام ضوء أحمر, ومدّه أمام دهشتي بورقة نقدية.. وبعنواني كاملا, طالبا منه أن يوصلني حتى الباب. ثم انحنى نحوي وكأنه سيضع قبلة على خدّي.. ولكنه لم يفعل. همس في أذني: "من الأحسن أن لا نعود معاً؛ هذا أكثر أمانا لك" ثم أضاف كمن نسي شيئاً: "سأشتاقك". وغادر السيارة.. ليتركني تحت وقع المفاجأة.
هو الحب إذن.. دوماً.. يقدم لي أوراقه الثبوتية على هذا النحو. في حالة من انسياب العواطف, يأتي رجل لا أحتاط من بساطته, أطمئن نفسي بكونه ليس هو الأجمل, ولا هو الأشهى, وفي تلك اللحظة التي أتوقعها الأقل, يقول كلاما مربكا, لم يقله قبله رجل. وإذ به يصبح الأهم. غالبا.. وأنا ألهو باندهاشي به تبدأ الكارثة. الحب ليس سوى الوقوع تحت صاعقة المباغتة! مرةً أخرى.. ها هو ذا يذهب ويتركني معلقة إلى علامات الاستفهام. تنتابني حالة لم أعرفها من قبل: مزيج من أحاسيس عجيبة تفاجئني وأنا أغادر تلك السيارة, وأسرع نحو البيت ببراءة امرأة عائدة من السوق, أو من زيارة, لا من موعد في مكان لا تعرفه مع رجل لا تعرفه. ولكنه يعرفها! أغلق باب غرفتي. أخلع بسرعة ثوبي الأسود, وكأنني أخلع تهمة على عجل. أجلس على طرف سريري منهكة, مبعثرة تائهة النظرات. أحاول أن أفهم ما حدث لي تماما, أن أستعيد كل الذي قاله ذلك الرجل في ساعة ونصف, كل تفاصيل حوارنا الذي لم يسألني فيه سوى سؤال أو سؤالين, بينما طاردته أنا بالأسئلة دون جدوى, ما دمت قد عدت في النهاية بأسئلة أكثر , لم أكن أتوقع معظمها. ليس أقلها: من يكون هذا الرجل؟ ومن أين له كل تلك المعلومات؟ وكيف يعرف حتى عنوان بيتي؟ طبعًا, في منطق الأشياء كان يجب أن أعرف عنه أكثر مما يعرف عني, مادام ليس إلا بطلا في قصتي. ولكن, أصبح إبداعي الآن يقتصر على التحايل عليه, لاكتشاف قصتي الأخرى وهي تُروى على لسانه. كتلك اللحظة التي حدّثني فيها عن موعدنا الأول, وعن ثوب الموسلين الأسود الذي كنت أرتديه يومها. وكان يمكن أن أصدق احتمال لقاء كهذا.. لو أنه كان يوجد في خزنتي ثوب من الموسلين الأسود. ولم أقاطعه عمدا, ولا علقت على كلامه؛ اكتفيت بالاستماع إليه باندهاش مستتر, وربما بغيرة سرية من تلك المرأة التي فجّرت فيه يوما كل هذه الأحاسيس الجميلة.
قادتني هذه الفكرة إلى اكتشاف فاجأني.
لقد ولدت قصتي معه, أيضا في لحظة غيرة. فقد كان هو الرجل الذي كنت أبحث عنه لأقيس نفسي به. ولذا منذ البدء لم يفارقني إحساس بالغيرة منه والغيرة عليه, ورغبة في قتل تلك المرأة والحلول محلها, دون أن أترك بصماتي على عنق الكلمات.
منذ البدء, لا هاجس لي سواها. حتى إنني سألته مرتين إن كان في حياته امرأة, وأجابني في المرتين بالنفي. وربما كان هذا أجمل ما قال لي. طبعًا لم يكن هناك من مبرر لسعادتي؛ فأنا ما زلت أذكر ذلك الذي سألته في أول موعد لنا: "هل في حياتك امرأة؟" وأمام فرحتي بجوابه, أضاف "لا تفرحي.. من الأفضل أن تحبي رجلاً في حياته امرأة.. على أن تحبي رجلاً في حياته قضية. فقد تنجحين في امتلاك الأول, ولكن الثاني لن يكون لك.. لأنه لا يمتلك نفسه!".
ولم أمتلكه. أخذته مني تلك القضية إلى الأبد. ولا استفدت برغم ذلك من نصيحته: ما زلت في الحياة أحب الرجال الذين في حياتهم قضية, وفي الروايات, أحب الأبطال الذين في حياتهم امرأة. وكان أجدر بي.. لو فعلت العكس!
ذات لحظة, راودني احتمال أن يكون في حياة هذا الرجل أيضاً قضية ما, تبرر حزنه الباذخ, ونوبات صمته, ونزعته إلى التهرب من الأسئلة. وهي صفات كثيراً ما خبرتها في هذا النوع من الرجال. ولكنني استبعدت احتمالاً كهذا. فقد انتهى زمن القضايا الكبيرة, والقضايا الجميلة, التي كانت تجعل جيلا كاملا من الرجال يبدو أكثر عنفوانا وتألقا مما هو.
في الدكاكين السياسية, التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية.. باعونا "أم القضايا" وقضايا أخرى جديدة, معلبة حسب النظام العالمي الجديد, جاهزة للالتهام المحلي والقوميّ. فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثاليّ. ثم متنا متسممين بأوهامنا, لنكتشف, بعد فوات الأوان, أنهم مازالوا هم وأولادهم على قيد الحياة يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا .. ويخططون لحكمنا للأجيال القادمة.
ولذا.. منذ "تلك القضية" انقرض الحالمون, وسقط فرسان الرومانسية من على خيولهم!
توصلني هذه الخواطر إلى زوجي الذي لم أمتلكه أيضاً. لا لكوني أقتسمه مع امرأة أخرى "شرعية".ولكن لأنه ملك للمسؤولية. ولأن الكرسي هو قضيته الوحيدة.
في النهاية, أكاد أصل إلى نتيجة مخيفة: الحب قضية محض نسائية. لا تعني الرجال سوى بدرجات متفاوتة من الأهمية, بين عمرين أو خيبتين, وعند إفلاس بقية القضايا "الكبرى".
أمن هنا يأتي حزن النساء.. أمام كل حب؟
فجأة ينتابني إحساس بالخوف من هذه القصة التي ستؤلمني حتماً. وبرغم ذلك أتوقع أن أنجرف نحوها دون رادع, ودون الاستفادة من كل ما تعلمته في الحياة. في مواجهة الحب, كما في مواجهة الموت, نحن متساوون. لا يفيدنا شيء: لا ثقافتنا.. لا خبرتنا.. ولا ذكاؤنا.. ولا تذاكينا. نذهب نحو الاثنين. مجردين من كل الأسلحة.. ومن كل الأسئلة. وأنا التي واجهت الحب عزلاء دائما, أتوقع أن يأخذ بعين الاعتبار, شغفي بهزائمه. ويعوضني عن ل خسارة معه بخسارة جميلة أخرى. ولذا لم يعنني يوما, أين هو ذاهب بي حصان الحب الجامح. مادامت حريتي معه تقتصر على الموت بسببه.. أو الموت دونه!
ما يشغلني حقا هو كيف أواصل كتابة هذه القصة بالنزاهة نفسها. كيف لي بعد الآن, أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي. والروائي لا يروي فقط. لا يستطيع أن يروي فقط. إنه يزور أيضا. بل إنه يزور فقط. ويلبس الحقيقة ثوبا لائقا من الكلام. ولذا فإن كل روائي يشبه أكاذيبه, تماما كما يشبه كلّ امرئ بيته.
وصلت إلي هذه الفكرة وأنا أتذكر ما قرأته عن الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي أصبح أعمى تدريجيا, والذي كان عندما يصل إلى مكان, يطلب من مرافقه, أن يصف له لون الأريكة, وشكل الطاولة فقط. أما الباقي, فكان بالنسبة إليه "مجرد أدب". أي بإمكانه أن يؤثثه في عتمته.. كيفما شاء. عندما تعمقت في منطقه, اكتشفت أن كل رواية ليست سوى شقة مفروشة بأكاذيب الديكور الصغيرة, وتفاصيله الخادعة, قصد إخفاء الحقيقة, تلك التي لا تتجاوز, في كتاب, مساحة أريكة وطاولة. نفرش حولها بيتا من الكلمات, منتقاة بنوايا تضليلية, حد اختيار لون السجاد.. ورسوم الستائر.. وشكل المزهرية.
ولذا.. تعلمت أن أحذّر الروائيين الذين يكثرون من التفاصيل: إنهم يخفون دائما أمراً ما! تماماً, كما يحلوا لي أن أتسلى بقراء يقعون في خدعتها, بحيث لا ينتبهون لتلك الأريكة التي يجلسون فوقها طوال قراءتهم لذلك الكتاب متربعين على الحقيقة. منذ الأزل.. وأنا أبحث عن قارئ يتحداني, ويدلني أين توجد "الطاولة" و"الأريكة" في كل كتاب! زوجي مثلاً, لم يوفق يوما في تمييز الأثاث الحقيقي عن الأثاث المزيف في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة, بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لا يأتي, دون أن يعترف تماما بأن ما يزعجه هو الكتابة في حد ذاتها. كعمل مواجهة, ومراوغة صامتة. لم يستطع _ برغم إمكانياته البوليسية_ التجسس على مصداقيتها. وبدل أن يواجهني بحقيقة أفكاره, راح يوجّهني من طبيب إلى آخر. ويبعث بي من مدينة إلى أخرى, ليحوّل الأمومة مشكلتي وقضيتي الأولى. لم أعد أذكر كم زرت من الأطباء بتوصيات خاصة, وكم من أضرحة للأولياء أجبرتنني أمي على التبرك بها.
سنتان وأنا أرافقها دون اقتناع. وحتى دون رغبة حقيقية في "الشفاء" من عقمي. يمكنني أن أقول بأنني كنت أذهب فضولاً.. وربما استسلاماً لا أكثر. أحيانا, أحب استسلامي. يمنحني فرصة تأمل العالم دون جهد. وكأنني لست معنية به. في الواقع, أثناء ذلك أكون في حالة كتابة.. صامتة. كهذا المساء, أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة, صمتًا, وأنا أتفرج على زوجي, وهو يخلع بذلته العسكرية, ليرتدي جسدي للحظات, ثم.. يغرق في النوم.
دوماً, كان ضابطاً يحب الانتصارات السريعة حتى في سرير. وكنت أنثى تحب الهزائم الجميلة, والغارات العشقية التي لا تسبقها صفارات إنذار.. ولا تليها سيارات إسعاف, وتبقى إثرها جثث العشاق أرضاً. بي افتتان بقصف عشوائيّ, يموت فيه الأبرياء عشقاً.. على مرمى اشتهاء, دون أن يكون لهم الوقت ليسألوا: لماذا؟ تمنيت أحيانا, لو أنه مارس الحب معي دون أن يخلع بذلته. ربما كان ببذلته تلك, فتح له طريقا إلى جسدي بالقوّة. فقد كنت دائما مأخوذة بقوته. ولكنّه هذه الليلة أيضاً لن يفعل. لأنه يخاف عليها أن "تتجعلك". وربما –فقط- لأنه رجل بلا خيال. بل بالأحرى هو ينفق خياله وذكاءه خارج هذا السرير. في النهاية, الرجال الذين خلقوا لكرسيّ, لم يخلقوا بالضرورة لسرير. والذين يبهروننا بثيابهم ليسوا الذين يبهروننا بدونها. والمشكلة أننا نكتشف هذا فيما بعد! الليلة أيضاً, سأسترق النظر إليه وهو يخلع قوته ويرتدي منامته. وأستعيد دون قصد ذلك الحوار الجميل في مسرحية ألبير كامو "حالة حصار". - اخلع ثيابك!.. عندما يغادر رجال القوة بذلتهم لا يكونون جميلين للرؤية. ويأتي الجواب: - ربما.. ولكن قوتهم تكمن في اختراعهم لتلك البذلة!
طبعا.. فاللباس ليس سوى "الإشعار" الذي نريد إيصاله إلى الآخرين. ولذا ككل إشاعة, هو يحمل دائما نية التضليل, حسب منطق ذلك الرجل الباذخ الحزن, والذي يرتدي الفرح إشاعة. وهكذا, تكمن عبقرية العسكر, في اختراعهم البذلة العسكرية التي سيخيفوننا بها. ويكمن دهاء رجال الدين, في اختراعهم لثياب التقوى التي سيبدون فيها وكأنهم أكثر نقاءً وأقرب إلى الله منّا. وذكاء الأثرياء, في اختراعهم توقيعات لكبار المصممين. كي يرتدوا من الثياب ما يميزهم عنّا, ويضع بيننا وبينهم مسافة واضحة! وهو.. لماذا تراه اختار الأسود؟ أم ليأتي مطابقا للون جئته فيه مصادفة. واختارته لي الحياة بنية التضليل, كي أعطيه إشعارا كاذبا.. بأنني "هي"! عشرة أيام من الترقب الصامت. حاولت خلالها أن أتجاهل أنني أنتظر شيئا. ولكنني لم أستطع أن أفعل غير ذلك. كنت لسبب غامض, واثقة من أنه سيتصل بي, بطريقة أو بأخرى. ولكن الحياة كانت تكذب حدسي يوما بعد آخر. هو نفسه لم يقل شيئا وهو يودعني عدا "سأشتاقك". كان رجلا يعيش خارج الزمن. فكيف وجدت في هذه الكلمة وعداً بشيء ما؟ كان اليأس يتسلل إلي تدريجيا, ليكتسح مساحات شاسعة, ملأتها أملا. حتى إنني أصبحت لا أغادر البيت خوفا من أن يأتي هاتفه أثناء غيابي. ولكن الهاتف لم يكن يحمل سوى ثرثرة أمي ومشاريعها العادية. منذ قليل طلبتني لتخبرني بأنها ستحضر لقضاء اليوم معي, مستفيدة من تغيب زوجي ليومين. ما إن فتحت لها الباب.. حتى أطلقت علي وابل أسئلتها وهي تتأملني مذعورة كعادتها: - واش بيك يا بنتي.. زيّك ما عجبنيش.. "ماذا بي؟" أكاد أضحك لسؤال كان لابد أن تطرحه عليّ بالمقلوب, على طريقة ذلك الرجل, كي أجيبها عما ليس بي. فذلك أسهل عليّ. أصمت لأنها في جميع الحالات لن تفهم. تواصل: - راني جبت لك معاي شوية "بسيسة" حمصتها لك البارح.. درُك ندير لك بيها صحن "طمّينة".. غير تاكليها تولّي زي الحصان.. من قال لأمي أنني أريد أن أصبح مثل الحصان؟ هذه المرة لا أمنع نفسي من الابتسام وأنا أراها تهجم على المطبخ, معتقدة أن مشكلتي هي الأكل لا غير؛ وان لا احد يهتم بي ويطبخ لي ما أحب. ولأنني حدث أن أحببت يوما هذه "الطمينة" فستظل أمي تطاردني بها حتى أخر أيامي, أو أخر أيامها. والطمينة هي صحن مكون من خليط من العسل والسمن وطحين الحمص. وهي تقدم للنفساوات ليستعدن قوتهن بعد الوضع. وتقدم أيضا للضيوف الذين يأتون ليطمئنوا إلى النفساء. وربما يكون اسمها قد جاء من هنا. ولا اذكر كم من كميات أكلت من هذه "الطمينة", مع فطور الصباح وقهوة بعد الظهر, دون أن أتساءل مثل اليوم أكانت أمي تعدها لي كل فترة بنية تغذيتي أم بنية استدراج القدر كي تحل البركات في هذا البيت وتسعد يوما بتقديم "طمينتها" لضيوف سيأتون ليطمئنوا إلي.. والى حفيدها! حول فنجان قهوة, وصحن طمينة, ها نحن نجلس لنطمئن إلى بعضنا بعضا, وكأننا لم نتحدث يوميا على الهاتف, أو كان في هذه المدينة ما يستحق الحديث كل يوم. تسألني عن أخبار زوجي. أجيب انه جيد. وأكاد لا أجيب. مرة أخرى أتذكر فلسفة ذلك الرجل الذي كان يجيب بالصمت عن الأسئلة الغبية. لأن الناس يسألونك عن أخبار زوجتك.. لا عن أخبار المرأة التي تحب. ولكن كيف لأمي أن تسألني عن أخبار رجل لا أعر أنا نفسي اسمه, ولا تعرف هي أنه حبيبي. وماذا تراها ستجيب لو قلت له في نوبة جنون, إنني أحب رجلاً آخر.. غير زوجي؟ تراها عرفت الحب لتفهمني. هي التي لم تعرف حتى معنى الزواج. وتحملت نتائجه فقط. كم مرة تراها مارست الحب في حياتها؟ خمس سنوات من الزواج. كانت خلالها تسكن في بلد وأبي في آخر. ولم يكن يعود من الجبهة إلى تونس, إلا مرة كل بضعة أشهر, ليقضي معها بضعة أيام لا أكثر, يعود بعدها إلى قواعد المجاهدين. حيث كانت تنتظره مسؤولية إدارة العمليات في الشرق الجزائري. ذات يوم, ذهب ولم يعد. كان له أخيرًا شرف الاستشهاد, ولها قدر الترمل في العمر الذي تتزوج فيه الأخريات. في الثالثة والعشرين من عمرها, خلعت أمي أحلامها. خلعت شبابها ومشاريعها, ولبست الحداد اسمًا أكبر من عمرها ومن حجمها. لقد وقعت في فخ الرموز الكبرى, بعدما وقعت قبله في فخ الزواج المدبر. وهذه المرة أيضا لم يستشرها أحد, إن كان هذا الاسم الكبير يناسبها ثوبا أسود حتى آخر عمرها, وإن كانت تفضل أن تكون زوجة لرجل عادي, أو أرملة لرمز وطني. لقد وجدت نفسها أمام الأمر الواقع, بطفلين صغيرين.. واسم كبير! ومنذ ذلك الحين, وهي تواصل طريقها هكذا, بجسد ليس لها, وبقدر يرضي كرامة الوطن, الوطن الذي يملك وحده,متى شاء, حق تجريدك من أي شيء, بما في ذلك أحلامك, الوطن الذي جردها من أنوثتها, وجردني من طفولتي.. ومشى. وها هو ذا, يواصل المشي على جسدي وجسدها, على أحلامي وأحلامها, فقط بحذاء مختلف. إذ لبس معي جزمة عسكرية.. ومعها حذاء التاريخ الأنيق. أتأملها في أنوثتها المعطوبة, في جمالها المسالم, في مرحها البسيط الذي يجاور الحزن. ها هي ذي غامضة وهادئة كالجوكوندا. وأنا أكره الجوكوندا. أكره الملامح الهادئة, والأنوثة المسالمة,والأجساد الباردة. فمن أين جاء أمي كلّ هذا الصقيع؟ أمن استسلامها للقدر أم من جهلها؟ ومن أين جاءتني أنا كلّ هذه الحرائق؟ أمن تمردي على كل شيء؟ أم من براكين الكلمات التي تنفجر داخلي باستمرار؟ وكيف يمكن لهذا الرماد الجالس أمامي ملتفا بملاءة سوداء.. أن يلد كل هذه النيران التي تسكنني؟ يقول مثل: "النار تلد الرماد" وكثيرًا ما تكذب الأمثال! ها هو ذا مسحوق الرماد. يلد كلّ هذا الجمر, كلّ هذه السيول النارية التي أحرقت في داخلي كلّ شيء, كلّ القناعات الجاهزة, كل الأكاذيب التي توارثتها النساء. توصلني أفكاري من جديد إلى ذلك الرجل. وتراودني فكرة حاولت مقاومتها منذ عشرة أيام. فأستفيد من وجود أمي لأقترح عليها مرافقتها صحبة السائق حتى البيت. وهكذا يمكنني أثناء العودة أن أطلب منه التجول بي في المدينة. وأدري أن إمكانية العثور على ذلك الرجل في مدينة كهذه, ضئيلة جداً. ولكن لماذا لا أحاول؟ فأنا لا أخسر شيئًا سوى بعض الوقت. وهو الشيء الوحيد الذي أملك من رتابته, ما يفوق قدرتي على الإنفاق. وهكذا بسرعة, كنت قد ارتديت فستاناً جميلاً. وتزينت تهيؤاً للقاء محتمل.
ها أنا في سيارة رسمية. أجلس جوار سائق سلّمته مقود القدر. أشعر براحة, لأنني لم أجهد نفسي في البحث عن مكان لهذا الموعد. مادامت التفاصيل الصغيرة مهمة القدر, فلأترك للقدر إذن حقّ التصرف, أو التسلي ببرنامجي. لن أتدخل هذه المرة إطلاقاً لأختار وجهة السائق, أو أقترح عليه بالتحديد, الطريق الذي سيسلكه ليوصلني إلى قدري. تركض بي السيارة نحو المجهول. السائق الذي يعرفني ويعرف هذه المدينة جيدا, يعجب لأمري. ولا يفهم طلبي العجيب "خذني حيث شئت.. أريد أن أتفرج على المدينة". إنه مجرد جندي متقاعد, تعوّد أن يتلقى الأوامر فينفّذها, وليس مؤهلا لأداء دور القدر. ولذا لا يفهم أن أجرب معه وصفة ذلك الرجل نفسها, عندما طلب من سائق غريب أن يأخذنا حيث شاء, ويمنح القدر فرصة قيادة سيّارتنا. فجأة سألني وقد لفّ بي نصف شوارع المدينة, متوهما أنني أريد أن أتفرج على واجهات المحلات: - ودُرك.. وين نروحوا؟ حاولت أن أستدرجه لاختيار مكان بالتحديد؛ قلت: - والله ماني عارفة يا عمي أحمد.. راني شوية قلقانة إذا عندك بلاصة تحبّها أنت.. اديني ليها. أجاب ظقد فاجأه طلبي: - أنا نحب كل شيء في قسنطينة.. راني ولد البلاد. رحت ألح في حشره: - وواش تحبّ أكثر في قسنطينة؟ أجاب بعد شيء من الصمت: - نحب القناطر.. ما كان حتّى بلاد عندها قناطرها.. أصابني جوابه بشيء من الخيبة. ولكنني احترمت قانون اللعبة, وقلت: - إديني نحوّس في كاش قنطرة تحبّه.. وراحت السيارة من جديد, تسرع بي من جسر وهم إلى آخر, معلقة بين السماء والأودية التي يتدحرج نحو هاويتها أملي الضئيل في العثور على ذلك الرجل. لقد قال أنه لا يحب الجسور. وربما قال إنه لم يعد يحبها. فلماذا جئت أبحث عنه فوقها؟ أتمادياً في نزاهتي مع القدر, كي أثبت له حسن نيتي وثقتي المطلقة به؟ أم لأنني اعتقدت برغم ذلك –أو بسبب ذلك- قد أجده هناك, وأنه يحدث أن نتردد على الأماكن التي لم نعد نحبهاو فقط لنبرر كراهيتنا لها, ونتأكد من أننا على حق؟ وهو تصرف يشبهه تماماً! في الواقع, كنت لا أصدق كراهيته لهذه الجسور. وبرغم ما قاله أحسه مشابهاً لذلك الرسام الذي عرفته في الماضي.. والذي كان مهووساً بها حدّ الجنون. أذكر أنه كان يحبني بقدر حبه لها, ويصرّ على كوني أشبهها كلّما رسمها. وأنا لم أكن أحبها, ولا كنت أشبهها. كنت أحبه, وأشبه صديقه الشاعر لا غير. أو ربما بالعكس, كنت أشبهه هو, وأحب صديقه. أو على الأصح, كنت أشبه نفسي.. وأحبهما معاً. فافترقنا. كان هناك حب زائد في قصتنا. وكان ثمة قدر مضادّ. مات الشاعر ميتة فلسطينية. | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:21 | |
|
عدل سابقا من قبل محمد مبارك الماحي يوسف في الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:29 عدل 1 مرات | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:24 | |
| والخبر السعيد في كلّ هذا، ليس الأخير. وإنما ستجده في صفحة داخلية بخط كبير. "إقدام الديوان الجزائري للحوم بمناسبة عيد الأضحى على استيراد 220 ألف رأس غنم من استراليا, وصلت معظمها سالمة". وسالمة تعني فقط أنها مازالت على قيد الحياة. رغم قضائها شهرا في البحر مكدسة في باخرة وأن معظمها لا ينتظر سوى رحمة الذبح صباح العيد, تماما كما ينتظر الجزائريين منذ أشهر، متزاحمين مكدسين بالعشرات امام سفارة استراليا، رحمة الحصول على تأشيرة الهروب إلى بلد، تقول إشاعة كاذبة إنه يبحث عن يد عاملة! وتماشيا مع حدث وصول هذه الباخرة, بحمولتها المباركة من الأكباش, خصصت الجريدة صفحة كاملة, يتجادل فيها البعض ويجتهدون لحل الإشكال الديني الذي طرحته أذيال الأغنام الأسترالية المبتورة، التي لا تشبه ما تعوده الجزائريون من أغنام ذات ألية سمينة. وهل تجوز التضحية بها؟ لينتهي بهم الأمر إلى فتوى تقول "إن بتر الذنب كله أو جزء منه، بمقدار الثلثين، يعد عيبا في الأضحية، سواء بتر الذنب كله أو بعضه، خلقة أو بعد خلقة" وليصبح السؤال بعد ذلك "ماذا نفعل إذن بالأغنام؟ وبماذا نضحي صباح العيد؟". في الواقع، الإشكــــــال الحقيقي لم يكن في أذناب الأغنام الأسترالية، التي شغلت عامتنا وفقهائنا لأيام، وإنما في تلك الأكباش البشرية المكدسة أمام سفارة أستراليا، وفي سؤال كبير ومخيف: كيف.. وقد كنا شعباً يصدر إلى العالم الثورة والأحلام, أصبحنا نصدّر البشر، ونستورد الأغنام؟
طبعًا..لم يكن زمنًا للحبّ ولكن أليست عظمة الحب في قدرته على الحياة في كل الأزمنة المضادّة؟ الدّليل أنّ لاشيء مما قرأته أو مما حدث لي بسبب هذا الرجل، فكرة أعدل عن فكرة حبّه. شيء يجرفني نحوه هذا المساء. شيء يحملني. شيء يركض بي. شيء يجلسني جوار هاتف. على حافة السرير أجلس ، دون أن أجلس تمامًا. وكأننّي أجلس على حافّة قدري. امرأة ليست أنا، تطلب رجلاً قد يكون "هو". ورجل اسمه "هو"، يرتدي أخيرًا كلماته، لا كلماتي. يصبح صوتًا هاتفيّاً. قد يقول "ألو". قد يقول"نعم" قد يقول" من؟". امرأة عجلى تطلب أرقامه الستة. وتنتظر كلمة منه؟ تقرر هكذا أن تبادره بالصّمت. وكأنها تتذكر أنها لا تعرف هي من تطلب بالتحديد. صوته يخترق صمتها. لا يقول" ألو". لا يقول "نعم". لا يقول "من؟". يقول: _كيف أنتِ؟ يواصل أمام دهشتها. _انتظرت هاتفك. يضع شيئًا من الصمت بين الكلمات يواصل: _جميل أن يأتي هاتفك ليلاً.. هي لم تقل شيئًا بعد .. وهو يتحدث إليها كأنه يراها بتداخل الحواسّ.. صوته يختزل المسافة بين حاسّة وأخرى. يعيد تنقيط الجمل. بعد تنقيط الأحلام. تعرفه من نقاط الانقطاع في كلامه. تعرفه، وتحبه بنبرته الهاتفية الجديدة، دافئًا، كسولاً. تقول له أول جملة تخطر في ذهنها: _أحب صوتك يجيب: _وأحب صمتك.. _هل أفهم أنّك لا تحب كلامي؟ _بل أريد أن أسمع منك ما أشاء ، لا ما تقولين. _ولكنّني لم أقل شيئًا بعد. _هذا أجمل. أتدرين أن الحيوانات لا تكذب لأنّها لا تتكلّم. وحده الإنسان ينافق. لأنه حيوان ناطق.. أي حيوان ممثل. _بأي حقّ تقول هذا؟ _بحق معرفتي بالحياة .. وحق معرفتي بك. _وماذا تعرف عني؟ _أعرف ما يكفي لأحذرك .. وما يكفي أيضًا لأحبك. _وهل يجب أن أحذرك أيضًا؟ _بل يجب أن تحذري الحب.. وتحبيني _ولكننّي أحبك _حقّاً؟ _.... _لاحظي أنكِ بدأتِ تتراجعين صمتًا. الكلمات الجميلة سريعة العطب . ولذا لا يمكن لفظها كيفما اتفق! لا تدري كيف تواصل الحديث إليه. وكل ما ستقوله سيصطدم بذكائه الحادّ. وبنظرته الفريدة إلى الأشياء.. تقول: _أريد أن أتعلم منك فلسفتك في الحياة. يضحك: _أنا.. أعلمك فلسفة الحياة؟ أنت تطلبين أمرًا مستحيلاً. أنا أعطيك رؤوس أقلامٍ فقط. نحن لا نتعلم الحياة من الآخرين. نتعلمها من خدوشنا.. ومن كل ما يبقى منا أرضًا بعد سقوطنا ووقوفنا. _وهل يحدث هذا دومًا؟ _طبعًا.. ستتعلمين كيف تتخلين كل مرة عن شيء منك، كيف تتركين خلفك كل مرة أحدًا..أو مبدأً..أو حلمًا. نحن نأتي الحياة كمن ينقل أثاثه وأشياءه. محملين بالمباديء.. مثقلين بالأحلام.. محوّطين بالأهل ولأصدقاء. ثم كلما تقدم بنا السفر فقدنا شيئًا ، وتركنا خلفنا أحدًا، ليبقى لنا في النهاية ما نعتقده الأهم. والذي أصبح كذلك، لأنه تسلق سلم الأهميات، بعدما فقدنا ماكان أهم منه! تجد في حديثه بعض ما يساعدها على استدراجه للحديث عن نفسه. تسأله: _ماذا تركت خلفك؟ يصمت. ويطول صمته. تتذكر أنه يجيب هكذا عن الأسئلة التي لا تستحق الجواب . فتصحّح خطأها. _أقصد.. وما هو الشّيء الأهم بالنسبة إليك الآن؟ يجيب بصوت غائب: _أنتِ.. يفاجئها الجواب، وكأنها لم تكن تتوقعه، هي كانت تتوقع أن يسألها "وأنتِ؟" ولكنه لا يفعل.. يواصل: _سأنتظر موت الأوهام حولك. فربما يومها أصبح الأول في سلّم أولويّاتك عن جدارة.. أو عن مصادفة! تقاطعه: _لست في حاجة إلى خيبات أكثر لأحبك. أنا لا أملك غيرك. _بل أنت تملكين الكتابة، أيْ وهم التّفوق. ولن نتساوى إلا عندما تكتب قصتنا الحياة.. لا أنتِ! تسأله: _أعدت بنيّة معاكستي..؟ _بل عدت بنية حبك. افتقدتك كثيرًا كل هذا الوقت. لا أفهم لماذا جاءت قصتنا معقدة إلى هذا الحدّ. أتدرين؟ لو كنّا أمّيّين لسعدنا بحبّنا. الأميّ يعرف ما يريده من امرأة، وتعرف هي ما تنتظره منه. ولكن نحن استهوتنا لعبة الكلمات. فرحنا نقسو على الحب إكرامًا للأدب. تصوّري.. لو كنّا أمّيّين لقلت لك من البدء "أشتهيك" وانتهى الأمر. ولكن، هانحن بعد منتصف الّليل نتحدث على الهاتف لا لنحبّ بعضنا بعضًا.. وإنّما لنفسّر هذا الحب . _لنكن أمّيّين إذن! _لا نستطيع .. الجهل ترف لم يعد في متناولنا. _وماذا نفعل إذن؟ _لنكن رجلاً وامرأة لا غير. لنحب بعضنا بعضًا بمنطق الحبّ، لا بمنطق الأدب. لا يمكن أن نخرج من عتمة الحبر لندخل عتمة الليل. أطالب لحبنا بشرعيّة الضّوء. أريد أن أراكِ..أن ألمسك.. أن أقول لك أشياء دون أن نكون مجبرين على الكلام. _ولكنّني لا أدري أين يمكن أن نلتقي؟ _ثمّة مقاهٍ ومطاعم جميلة حيث أنتِ.. يمكن أن تتقي فيها. _ولكن كلّ جيراني هم من الضّبّاط.. وهم يعرفون زوجي. ولا يمكن أن أجازف بموعد هنا. يصمت بعض الوقت ثم يقول: _إذا شئت بإمكاننا أن تلتقي عندي في البيت. ولكنّي أسكن في العاصمة. على بعد ساعة منك بالسّيارة.. لا أدري إن كان هذا يناسبك؟ أقول: _دع لي يومًا للتفكير.. سأتدبّر الأمر. ثم أواصل كمن تذكّر شيئًا: _ولكن قبل ذلك.. أريد أن أعرف من تكون. يجيب وكأن السؤال ليس على هذا القدر من الأهمّية: _أحبّيني دون أسئلة.. فليس للحب أجوبة منطقيّة. _ولكن كيف تريد أن أزور رجلاً لا أعرف حتّى اسمه؟ _ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب . _ولكنّني امرأة لا تعرف الانتظار. _خسارة.. لأن الأشياء تأخذ قيمتها من انتظارنا لها. ثم يواصل: _وبهذا المقياس أنت المرأة الأشهى، لأنك المرأة الّتي انتظرتها الأكثر. لقد انتظرتك عمرًا، وبإمكانك أن تنتظري أيامًا أو أسابيع. دعي للوهم عمرًا أطول. لا أذكر ماذا قال بعد ذلك، كي تفاجئنا حالة لغويّة زجّت بنا في رغبة مباغتة، عمد إلى تمديدها إلى أقصاها دون جهدٍ واضح، عدا جهد رغبته في التساوي بأي رجلٍ أمّي.. يشتهي امرأة! استيقظت في اليوم التالي مأخوذة بحالة عشقيّة، لولا أن نشرة الأخبار الصباحيّة عكّرت مزاجي.. فقررت أن أطلب زوجي لأعرف منه ما يحدث في قسنطينة. ولكنّني فوجئت بالهاتف معطّلاً، وهو ما زاد قلقلي وجعلني أتّجه نحو أول فيلاّ مجاورة. لاستعمال هاتفهم. ولكن صاحبة البيت استقبلتني ببرود، وهي تتفحصني بنظرة لا تخلو من الإهانة. وهو ما زاد في إرباكي. وجعلني أفسر نظراتها في البدء بكوني جئتها في ثياب البيت.. وربما في زيّ غير لائق بزيارة. أمام الباب الذي فتحته لي دون أ ن تدعوني إلى الدخول ، رحت أشرح لها أنني أسكن الفيلا المجاورة وأن هاتفي معطل. وقبل أن أواصل ، قالت وهي تقاطعني بلهجة لا تخلو من لومِ نسائي: أنت الجارة الجديدة.." كل يوم عند العازبة عرس"! أجبتها وأنا أتوقع أنها تخلط بيني وبين أخرى: _أنا أسكن في الفيلا 68 على يمينكم. وموجودة هنا منذ أسبوع فقط. أجابت بلهجة ساخرة: _عادة تبقى النساء هنا.. ليلة أو ليلتين لا أكثر! تجمدت مكاني. وكأن كلماتها صفعتني. ولكنني جمعت شجاعتي . وقلت: _أنا زوجة العميد... جئت لأسألك فقط عن سبب تعطل الهاتف لأنني لم أتمكن من الاتصال بزوج في قسنطينة. ولا علم لي بما يحدث في هذا البيت قبل مجيئي. بدا على المرأة ارتباك واضح. وراحت فجأة تفتح الباب، وتدعوني معتذرة إلى الدخول، وقد ندمت على ما قالته. معتقدة أنني إحدى الزائرات العابرات لهذا البيت، بعد أن شجعتها هيأتي الصباحية.. على مثل هذا الاعتقاد. وراحت تبحث عن كلمات تقنعني بها أنها توقعت أن أكو ن مقيمة في فيلا أخرى. وأنه نظرًا إلى خلو هذه الفيلات من المصطافين في باقي أيام السنة، تعود البعض اصطحاب عشيقاته وصديقاته إلى هنا، وهو أمر يزعجها لأنها تسكن هنا على مدار السنة. أبديت لها تفهمي، واعتذرت لها عن الإزعاج وأنا أودعها بأدب. ولكنها ظلت تلح لأتصل بزوجي من بيتها. وقالت إن لا ضرورة لإزعاجه بمشكلة الهاتف. فسيتكفل زوجها بالاتصال بالجهات المعنية لإصلاحه فورًا. عند عودتي لم أخبر فريدة بما قالته لي الجارة. احتفظت بتلك الإهانة بنفسي. وماذا عساها تقول وهي تحتفظ في أعماقها أن من حق أخيها أن يتصرف كيفما يشاء، ليس فقط لأنه رجل بل لأنه أيضًا رجل دولة. العجيب أنني لم أشعر بالغيرة. إحساسي كان أقرب إلى الغثيان منه إلى إحساس آخر. فلم أشأ أن أفكر في النساء اللاتي تناوبن على هذا السرير. ولم أكلف نفسي مشقة وضع ملامح لوجوههن. شكلهن لا يعنيني. فأنا أتصورهن من النوع الساقط والبذيء المظهر. وربما كن شقراوات مزيفات. عادة هذا النوع يروق لزوجي وربما كان يروق لكل الرجال. وهو أمر أتفهمه تمامًا. ولكن مالا أفهمه،هو لماذا تزوج زوجي سمراء، إذا كان يحب الشقراوات؟ ولماذا تزوج مرة ثانية.. إذا كانت لا تشبعه سوى الوجبات التي يتناولها خارج البيت؟ أتذكر صديقة لي كان زوجها مغرمًا بالشقراوات. وكان يزعجها أن تطاردها الألسن هامسة دائمًا "لقد رأينا زوجك صحبة شقراء" فقامت المسكينة بصبغ شعرها .لا أملاً في إغرائه أو استعادته، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في ذلك ، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في هذه الحالات إنقاذ المظاهر! أكبر عقاب حلّ بي يومها، لم يكن ما سمعته من تلك المرأة، وإنما عدم تمكني من سماع صوت ذلك الرجل. في اليوم التالي، استيقظت على صوت زوجي الذي أعلن لي عودة الخط الهاتفي. جاء صوته ليخرجني من كوابيس ليلتي . ولكن من دون أن يوقظ الأحلام الجميلة داخلي. للأحلام صوت داخلي. أسميته"هو". هو الذي لا اسم له. والذي ليس سوى حرفين للحب. تتناوب عليها حروف النهي وحروف النفي.. وحروف التحذير.. وحروف التساؤل. "هو" ليس أكثر من "لا" و"لن" و"هل" و"لِمَ" .. و"متى؟"..و"كيف؟". "هو" ليس أكثر من حرفين وستة أرقام. ليست أرقام هاتفه . إنها أرقام اليانصيب التي ألعب بها قدري. _اشتقتك.. لِمَ لم تطلبيني البارحة؟ _كان الهاتف معطلاً.. _وهل حسمت أمر لقائنا؟ _أجل إذا كان يناسبك سأزورك اليوم بعد الظهر. يضع شيئًا من الصمت بيننا ثم يقول: _أنا ليس لي برنامج غيرك. وبإمكانك أن تأتي متى شئتِ، ولكن.. _ولكن ماذا..؟ _الوضع لا يوحي بالأمان اليوم. أطمئنه: _لا يمكن أن يكون أسوأ مما عرفته في قسنطينة. يجيب: _لا أعتقد أن تكوني عرفت شيئًا كهذا. يثير فضولي. أسأله: _مالذي يحدث؟ يجيب: _لقد تحولت ساحات العاصمة في الليل إلى غرف نوم ضخمة. افترش فيها الإسلاميون الأرض. لا ينهضون منها إلا في الصباح لإطلاق الشعارات والتهديدات.. والأدعية إلى الله.. _ومتى حصل كل هذا؟ _البارحة.. لقد جاءت بهم الباصات بالعشرات حتى هنا. نساءً ورجالاً.. أسأله متعجبة: _النساء أيضًا ؟ يجيب: _لقد وصلن في أتوبيسات مسدلة الستائر. لا يبان منها إلا القرآن المرفوع خارج النوافذ. أسأله وقد بدأت أفقد شيئًا من حماسي: _وهل ما يحدث قريب منك؟ يجيب: _طبعًا.. أنا أسكن شارع العربي بن مهيدي.. إنه شارع متفرع عن ساحة الأمير عبد القادر حيث يتم الاعتصام.. أقاطعه: _أعرف هذا الشارع جيدًا. كدت للحظة أتخلى عن مشروعي الجنوني. ولكنني كنت على درجة من الإحباط، أصبح معها عدم اللقاء به هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي. توقعت أن أفاجئه وأنا أقول: _سأسلك طريق البريد المركزي للوصول إليك. أعطني العنوان فقط. ولكنه أجاب بفرح أسعدني: _توقعت منك جوابا كهذا.. إنه يشبهك. ثم واصل: _أفهمت لماذا أحبك؟ قلت وأنا أمازحه: لا.. لم أفهم . ستشرح لي ذلك عندما أجيء!
إنها الثالثة أخيرًا. أخيرًا إنها الثالثة. أيها الحب تأخرت كثيرًا. فلماذا تستعجلني الآن إلى هذا الحد. وتركض بي في سيارة ستوصلني إلى منتصف الرغبة، لأواصل وحدي المشي لاهثة في شارع الخوف، متحايلة تارة على عيون سائق يحترف التجسس، وتارة على نظرات مارة متفرغين للفضول. ولكن من يملك ما يكفي من الحدس، لقراءة خطى امرأة ذاهبة أو عائدة من موعد حب؟ ذلك أنه عكس كل الذين يملكون وقتًا كافيًا لتبذيره، الحب معك لا صبر له؛ يعلمك كل شيء دفعة واحدة، والشيء ونقيضه في تجربة واحدة.يعلمك أن تكون أنت وآخر في آن واحد. ويجعلك ممثلاً من الدرجة الأولى. أجتاز ساحة الأمير عبد القادر راجلة بخطًى رصينة وداخل ثياب محتشمة. أتعلم المشي داخل هذه العباءة.. وهذا الشال الذي يغطي شعري، وكأنني لم أخلعهما يومًا. أشعر بأمان، وسط عشرات الرجال ذوي الأزياء العجيبة والملامح العدوانية، والمشغولين عن همومي الأرضية، بهموم الآخرة. مرددين هتافات وشعارات دينيّة وسياسيّة. وكنت أردت تفادي المرور بهذه الساحة . ولكن كان لا مفر من مروري بها، وقد ازدحمت كل الشوارع المؤدية إليها، وتلك المحيطة بها. وهو ما كان سيؤخر موعدي بساعة على الأقل. لا أذكر أني مررت من هنا، إلا وصدمتني مقاييس تمثال الأمير عبد القادر. ووضعتني في حالة عصبية. واليوم أيضًا على عجلتي، يلفت انتباهي، وجوده وسط بحر من الحشود البشرية التي لا يكاد يعلو عليها سوى بمترين أو ثلاثة. حتى أن بعضهم تسلقه بسهولة وحمّله أعلامًا خضراء.. وسوداء. ما يحزنني حقًا، هو أحجام تلك التماثيل الهائلة التي تزين العواصم العربية. لحكام لم يقدموا لشعوبهم غير المجازر والدمار. مقارنة بهذا التمثال المتواضع لرجل وهبنا كبرياء التاريخ. وأسس لنا أول دولة جزائريّة أذهلت فرنسا نفسها. رجل لم يطالبنا بأن نعيد رفاته من الشام، ولا بأن نصنع له تمثالاً في ساحة هو أكبر منها. إنه زمن عجيب حقًا، اختلّت فيه المقاييس، وأصبحت فيه الشعوب تصنع تماثيل لحكامها. على قياس جرائمهم.. لا على قياس عظمتهم! لذا مازال الأمير منذ ربع قرن، غير راضٍ عن وجوده بيننا، مولّيًا ظهره إلى مقر حزب جبهة التحرير.. ووجهه صوب البحر.. وهو ما غذّى كثيرًا من النكت السياسيّة لدى سكان العاصمة. أجل..حدث أن كنا يومًا شعبًا يتقن السخرية، فكيف فقدنا الرغبة في الضحك؟ وكيف أصبح لنا هذه الوجوه المغلقة.. والطباع العدائية .. والأزياء الغريبة التي لم تكن يومًا أزياءنا؟ كيف أصبحنا غرباء عن أنفسنا ، وعن بعضنا بعضًا، غرباء إلى حد الخوف، وحد الاحتياط من عيون تتفحصنا، أو خطى تسير خلفنا. أمشي. يقودني الخوف إلى السرعة تارة. وإلى التأني تارة أخرى. محتمية بثياب لا تشبهني، استعرتها هذه المرة من امرأة أخرى. ليست سوى فريدة. ها أنا أعيش بين ثياب امرأتين. إحداهما تحترف الإغراء .. والأخرى التقوى. أذهب لملاقاة ذلك الرجل مرة في ثوب أسود ضيق، ومرة في عباءة فضفاضة، لا يبدو منها سوى وجهي . تتناوب عليّ امرأتان، كلتاهما أنا. ولأننا نفكر، ونتصرف كل مرة حسب ما نرتدي وحسب ما نخلع، فانا الآن، أمر بهذا الحشد من الناس بتواطؤٍ غامض. أكاد أشاركهم حماسهم وهتافهم، لولا أن عيني تواصلان البحث عن رقم البناية التي ينتظرني فيها ذلك الرجل.. وعقلي يواصل السؤال. لماذا يوجد هذا الرجل دائمًا بمحاذاة السياسة ويعود بتوقيت التاريخ؟ ولماذا معه، يحتاط فرحي من الحزن؟ أمام مقهى "الميلك بار" الذي اجتازه بخوفٍ بالغ، أتذكر فجأة "جميلة بوحيرد" التي، أثناء الثورة، جاءت يوما إلى هذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب أوروبية. وقد طلبت شيئا من النادل, قبل أن تغادر المقهى تاركة تحت الطاولة, حقيبة يدها الملأى بالمتفجرات، تلك التي اهتزت لدويها فرنسا، مكتشفة- هي التي كانت تطالب برفع الحجاب عن المرأة الجزائرية- أن هذا السلاح أصبح يستعمل ضدها. وأن امرأة في زي عصري، قد تخفي.. فدائية! بعد أربعين سنة، ها أنا الوريثة الشرعية لجميلة بو حيرد. أمر بهذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب التقوى.بعد أن اكتشفت النساء-هذه المرة أيضًا – أن ثياب التقوى قد تخفي عاشقة. تخبئ تحت عباءتها جسدًا مفخخًا بالشهوة. بخوفها نفسه، بتحديها وإصرارها نفسه. أمشي هذا الشارع. بعد أن أصبح الحب هو أكبر عملية فدائيّة تقوم بها امرأة جزائريّة. دومًا، كنت أقول لامرأة كانت أنا: لا تمري عندما تشعل الحياة أضواءها الحمراء. تعلمي الوقوف عند حاجز القدر. عبثًا تزوّرين إشارات المرور. لا تؤخذ الأقدار عنوة. وكنت أقول.. لقلب كان قلبي: حاول أن لا تشبهني. لا تكن على عجل. أنظر يمينك ويسارك، قبل ان تجتاز رصيف الحياة. لا تركب هذا القطار المجنون أثناء سيره . الحالمون يسافرون وقوفًا دائمًا، لأنهم يأتون دائمًا متأخرين عن الآخرين بخيبة! وكان يردّ: "كل من عرفتِ مشت على أحلامهم عجلات الوطن. والذين أحببتِ، تبعثروا في قطار القدر. فاعبري حيث شئت. ستموتين حتمًا.. في حادث حبّ!". في كل خطوة، كنت أشعر أنني حققت معجزة البقاء على قيد الحياة. وأعجب لأن قلبي مازال مكانه، رغم تسارع دقاته التي تدقّ في اللحظة نفسها، دقة شوقًا، ودقة خوفًا، على إيقاع هتافات تحملني وتغطي على كل صوت داخلي: "لا دراسة.. لا تدريس، حتى يسقط الرئيس" وتردّ أخرى "لا ميثاق.. لا دستور.. قال الله.. قال الرسول".
ها هي ذي البناية أخيرًا. أكاد لا أجتاز بابها حتى أشعر أنني أغادر عالماً.. وأدخل آخر. درجها المتسخ لا يعنيني. مصعدها المعطل لا يثنيني. والطوابق الأربعة التي سأصعدها تزيد من حماسي. إن أجمل لحظات الحبّ.. هي عندما نصعد الدرج! أمام باب ينتظرني خلفه المجهول، أستعيد أنفاسي وأحاول أن أتفقد هيأتي. ولكن قبل أن أدق الباب، أراه يفتح أمامي. وقامة أعرفها تختفي قليلا خلفه. وكأنها تشير إليّ بالدخول. فأدخل.. وينغلق الباب خلفي. أنا التي خبرت عناوين الحب جميعها، أدري أن الحب لا يقيم في الفنادق من فئة خمسة نجوم، ولا في البيوت الباذخة البرودة. ولذا أسعدني أن يكون هذا البيت في بساطة عش ودفئه. أتجه منهكة دون استئذان نحو أول غرفة تقابلني. ألقي بحقيبة يدي على الأريكة. أوشك أن ألقي بنفسي أيضًا جوارها. ولكنني أبقى واقفة لحظة أتأمله. وكأنني أبحث فيه عن سبب يبرر كل هذا الجنون. يقترب مني، وتمتد يداه لترفع عن رأسي غطاء نسيت أن أخلعه. يوشك أن يقول شيئاً. ثم تسبق كلماته ابتسامة، يليها اعتراف لا يخلو من الحسرة: - كم اشتقتك..! ولا أملك إلا أن أجيبه: - وأنا.. ماذا غير الشوق جاء بي إليك؟ ليتك تدري كم كان المجيء إليك صعباً! يجلس على الأريكة المقابلة لي. يعبث بهدوء بذلك الشال الذي ما زال ممسكا به. يتأملني في هيأة لا تشبهني وكأنه يتعرف إلي، بينما أتأمل أنا تلك الغرفة التي يغطيها أثاث بسيط منتقى بذوق عزوبي، لا يتعدى أريكة كبيرة من المخمل، تشغل وظيفة الصالون. وطاولة، ومكتبة تمتد على طول الجدار المقابل. ولا تترك فيها الكتب المصطفة بنظام، سوى مكان لجهاز التلفزيون. ولجهاز موسيقى، تنبعث منه معزوفة خافتة على البيانو لريشار كليدرمان. أحبّ تطابق ذوقي مع ذوق هذا الرجل. وأحب أكثر، تطابق مزاجنا الغريب في التصرف عكس المنطق، كالاستمتاع إلى معزوفة موسيقية في يوم على هذا القدر من الجنون الصارخ. الأمر الوحيد الذي فاجأني. هو عدم وجود أية لوحات في هذا البيت. وهو ما كان سيساعدني على اكتشاف هذا الرجل. أسأله: _ماذا تستهلك عدا السجائر؟ _أستهلك الصبر.. والصمت. _وكيف يمكنك أن ترسم بهذه الأحاسيس الثلجيّة؟ _ومن قال لك إنني أرسم.؟ أن ترسم يعني أن تتذكّر.. أنا رجل يحاول أن ينسى. أقول: _أريد أن أرى بعض أعمالك..هل يمكن أذلك؟ يجيب: لا..ليس معي شيء منه. _وماذا فعلت بها..؟ _لقد تركتها في مدينة أخرى. يساورني فجأة إحساس بالشكّ في ما يقوله، بل إحساس بأنه يخفي شيئًا ما، أو يكذب، وأنه لم يكن يوماً رساماً. أسأله: _أين تعلّمت الرّسم. يجيب بما يؤكد ظنّي: _إن أسوأ شيء بالنّسبة إلى رسّام، هو دخول مدرسة للرّسم! كنت أريد أن أجادله في هذا الرأي. أو ربما فقط أستدرجه للحديث عن نفسه. ولكنه صمت. ولم يغادر صمته إلاّ ليحدّثني بعد ذلك عن الأوضاع السياسية. ويسألني إن كنت وجدت صعوبة في الوصول إليه.
كان يتحدث. وكنت مشغولة عنه، بالإنصات إلى يديه. كانتا الشيء الوحيد الذي يتكلم كثيراً عليه. تعلّمت أمام أجوبته الهاربة، أن أستجوبهما. وجدت فيهما المدخل الوحيد الذي يؤدي إليه. إنهما بدءًا تفضحان كسله؛ فهو لا يستعمل منهما سوى واحدة: اليمنى دائمًا. أتأمل طويلاً أصابعه، أشعر أنها في امتلائها وطولها تقول الكثير عن رجولته. وأن طريقته في تقليم أظافره، باستدارة مدروسة، كأنه لا يريد أن يؤلم أحداً ولو عشقًا. تطمئنني، وتثير شهيّتي للمسات حميميّة، ولكنها لا تساعدني إطلاقًا على معرفة مهنته الحقيقيّة. هذا الرجل ليس رسامًا. يده أكثر رصانة من يدين تعيشان بعصبيّة الخلق. نحن نعرف عازف البيانو من رشاقة أصابعه. ونعرف النجار الذي غالباً ما يكون فقد إصبعًا من أصابعه. ونعرف الدهّان ونعرف الجزّار. ونعرف المعلم من الطباشير العالقة به، والفلاح الذي انغرس التراب في أظافره، وعامل المطبعة الذي أصبح الحبر جزءًا من بصمات أصابعه. مذهل هو عالم الأيدي، في عريه الفاضح لنا. ولا عجب أن يكون الرسامون والنحاتون، قد قضوا كثيرًا من وقتهم في التجسس على أيدٍ، كانوا يدخلون منها إلى لوحاتهم ومنحوتاتهم، حتى إن النحات "رودان" الذي أخذت الأيدي كثيرًا من وقته وتركت كثيرُا من طينها على يديه، كان يلخص هوسه بها قائلاً: "ثمة أيدٍ تصلي وأيدٍ تلعن، وأيدٍ تنشر العطر وأيدٍ تبرد الغليل.. وأيدٍ للحبّ". فكيف له إذن أن ينحت واحدة دون أخرى؟ ذلك أن اليدين، تقولان الكثير عن أشيائنا الحميمة. تحملان ذاكرتنا، أسماء من احتضنا يوماً. من عبرنا أجسادهم لمسًا أو بشيء من الخدوش. تقولان عمر لذتنا، عمر شقائنا. تفضحان العمر الحقيقي لجسدنا. تفضحان كلّ ما مارسناه من مهن. كلّ ما مارسنا أو لم نمارس من حبّ. ولذا ثمة أيدٍ، كأصحابها، ليست أهلاً للحياة. ما دامت لم تفعل شيئاً بحياتها. أتأمل يديه، وأدري تماما أنني أتأمل يدين عرفتا الحياة. حبكتاها، عجنتاها، حدّ الولع. منحتا النساء كثيراً من المتعة. ومنحتهما الحياة كثيراً من الخيبة، التي تبدو واضحة من كسلهما المتعمد. يدان داعبتا.. اكتشفتا..عبثتا.. أشعلتا أكثر من أنثى. وهما تشعلانني الآن خلف دخان سيجارة الصمت. تضرمان النار في أسئلتي. تشعلان حرائق غيرتي. هاتان اليدان اللتان لم يعلق بهما شيء. هل حدث أن تعلقتا بأحد؟ وما اسم آخر امرأة أحبتا؟ آخر امرأة عرّتا؟ ما عمر لذتهما؟ أنا التي تأملته كثيرًا, أدري أنه رجل متعدد الأعمار. ولذا كان بإمكاني أن أسأله "ما عمر عينيك؟ ما عمر شفتيك؟ أو.. ما عمر صمتك يا سيدي؟". ولكنني سألته: -ما عمر يديك؟ ولكنه أجاب دون انبهار واضح بسؤالي: -عمرهما.. عمر خيبتي. قلت: -ولكنني برغم هذا أحبهما. أجاب وهو ينهض فجأة ليقلب الشريط. وكأنه يقلب موضوع حديثنا. -لقد أحببتِ دائمًا عقَدي! لم أفهم ما يعنيه.ولم أحاول التعمق في الفهم. اكتفيت بالوقوف متجهة بدوري نحو المكتبة التي كان بي فضول لاكتشافها، مستفيدة من جهل هذا الرجل لتلك المقولة الجميلة لرولان بارت "على المرء أن يخفي عن الآخرين صيدلية بيته.. ومكتبته!". استدرجتني كثرة كتبها إلى إلقاء نظرة على عناوينها. وكأنني أطالع أخيراً هذا الرجل الذي استفاد من انشغالي بها لينسحب قائلا: -أتوقع أن لا تفتقديني كثيرًا.. لو أنا ذهبت لأعدّ لك قهوة! ضحكت.. أجبته: -طبعا لا.. لا يمكن للكتب إلا أن تقربنا!
منذ النظرة الأولى. فاجأتني شساعة المواضيع التي تضمها هذه المكتبة، والتي تفضح ثقافة عالية باللغتين، واهتمامات تاريخيّة وسياسية متشعبة, لم أتوقعها في هذا الرجل. بينما تعجبت لعدم وجود أي كتاب عن الفنون التشكيلية أو عن الرسم، في بيت رسام، تضم مكتبته كتباً متعددة الاهتمامات, تتناول حياة بعض رجال التاريخ والصراع العربي الإسرائيلي، وحتّى السطوة العالمية للشركات المتعددة الجنسية، ولا يوجد للإبداع مكان فيها، سوى في رف سفليّ، تمتد على طوله كتب صغيرة للجيب، ضمن سلسلة الشعر الفرنسي المعاصر. بينها كتاب "أزهار الشرّ" لبودلير و"المركب الثمل" لرامبو.. وآخر لجان كوكتو وشعراء آخرين.
كنت أتصفح بعضها بفضول، عندما وقعت على كتاب لهنري ميشو "أعمدة الزاوية". وهو كتاب لم يحدث أن قرأته أو سمعت به. رغم أنني أحببت في زمن بعيد هذا الشاعر. لا أدري أية مصادفة قادتني إلى ذلك الكتاب بالذات. فقد كان، بين ما تصفحته من كتب، هو الوحيد الذي وضع علي هذا الرجل بعض ملاحظاته، وإضافات أو إشارات إلى مقاطع دون غيرها. شعرت وأنا أتصفحه أنني وقعت على المفتاح الذي يفتح سر هذا الرجل. وصدّقت تماما مقولة رولان بارت. فإذا كانت صيدلية بيتنا تفضح للآخرين أمراضنا، فإن مكتبتنا قد تقول لهم أكثر مما نريد أن يعرفوه عنّا. خاصة إذا وقعوا على كتاب شاركنا في مواصلة كتابته على الهامش. كنت ما أزال أتصفحه عندما عاد محملاً بالقهوة. سألته: -أيمكنني أن أستعير منك هذا الكتاب؟ قال دون أن يكلف نفسه مشقّة سؤالي عن عنوانه. -طبعاً! واصل وهو يضع القهوة على الطاولة: -طلباتك متواضعة. كنت أريد لك طلبات أجمل! أجبته وأنا أعيد الكتب الأخرى إلى الرف: -أكتفي بالمتواضعة.. الأجمل لا تطلب! قال وكأنه يتدارك خطأً: -الأجمل يأتي دائماً متأخراً.. يا سيدتي! كان صوته ملامساً لمسمعي. ما كدت ألتفت خلفي حتّى وجدتني على حافة جسده. بيننا مسافة أنفاس وقبلة. ولكنه لم يقبلني. امتدت يده اليمنى نحو شعري، تلامسه مروراً بعنقي ببطء وعبث مثير. ثمّ انزلقت نحو أذنيّ، تخلع عنهما الواحدة بعد الأخرى قرطهما. وضع القرطين على رفّ المكتبة، بتلقائية من تعود أن يخلع عن امرأة أشياءها الصغيرة. وكأنه كان يهيئني لطقوس عشقية. ثم راحت شفتاه تبدآن حيث توقفت يداه. ها هما تعبرانني ببطء متعمد. على مسافة مدروسة للإثارة. تمرّان بمحاذاة شفتيّ, دون أن تقبلاهما تماما. تنزلقان نحو عنقي، دون أن تقبلاه حقاً، ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمد نفسه. وكأنه كان يقبلني بأنفاسه لا أكثر.
هو يعرف كيف يلامس أنثى. تماما كما يعرف ملامسة الكلمات، بالاشتعال المستتر نفسه. يحتضنني من الخلف، كما يحتضن جملة هاربة، بشيء من الكسل الكاذب. فأبقى متكئة على الجدار حيث استدرجني منذ البدء، وقد خدرتني زوبعة اللذة، دون أن أسأل نفسي. ماذا تراه فاعلاً بي؟ تراه يرسم بشفتيه جسدي؟ أم يرسم قدري؟ تراه يملي عليّ نصي القادم؟ أم تراه يلغي لغتي؟ هذا الرجل الذي يكتبني ويمحوني بقبلة واحدة, أو حتى من دون أن يقبلني، كيف أقاومه وهو يعبر بشفتيه الممرات السرية للرغبة، ثم يجتاحني بشراسة مفاجئة، يلتهم شفتيّ مبتلعاً كلّ ما كنت سأقوله له؟ أكتشف أنه بدأ الآن فقط بتقبيلي. ممسكاً بي من شعري المنفلت في يده، خالطًا ريقي الممتزج بريقه.. مثيراً لعرقي الذي يطغى على عطره، قاطعاً لأنفاسي التي ضاعت في فمه، حتّى لكأنني أتنفس منه ومعه. كنت أتمنى لو ضمّني إليه كي يمنعني من السقوط. ولكنه كان يتلذذ بانبهار أنوثتي به، حتّى أنه لم يستعمل لضمّي سوى ذراع واحدة. ثمّ كما في قبلة عنقودية.. راح يضع على عنقي قبلات تنازلية متدرجة، متلاحقة، وكأنه يضع نقاط انقطاع عند نهاية نصّ قد يعود إليه ومضى.
رحت أستعيد أنفاسي. أتنبه للثوب الذي أتصبب تحته عرقًا، وأنا أراه يخلع جاكيته، يشعل سيجارة، ويجلس على تلك الأريكة لاحتساء قهوته. عاودتني أسئلتي.. وأنا أنظر إليه كما تقرأ غجرية الكف، رحت أقرأ هيأته. بحدسي وحواسي فقط. لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوباً عليه، قدراً متعب الشفاه، فوضويّ الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقض الرغبات، كرجل في الأربعين. يسألني: -فيم تفكرين؟ أجيب: -أحب الرجال في الأربعين يبتسم.. يردّ: -ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين! يلقي برماد سيجارته في المنفضة. ويمد نحوي يده: -تعالي.. اجلسي قريباً مني أتردد بعض الشيء قبل أن أعترف: -إنني أتصبب عرقاً. أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات. أتوقع أن يقول اخلعيها مثلاً. لكنه يقول وهو يسحبني إلى جواره: -أحب رائحتك.. لقد أحببت دائماً لغة جسدك! ثم يواصل وكأنه يطمئنني: -إن جسداً لا رائحة له.. هو جسدٌ أخرس! أقول وأنا أجلس على مقربة منه: -أخاف أن يأتي يوم يصبح فيه جسدي أكثر بلاغة مني! يردّ: -في جميع الحالات هو أكثر صدقًا منك.. فوحدها حواسنا لا تكذب يواصل: -لكن العجيب.. أنّ لي إحساساً ثابتاً بأنني قابلتك في بيت آخر، وقبّلتك في زمن آخر، وأنّ هذه الرائحة أعرفها من ضمة أخرى، وهذا المذاق خبرته في قبلة أخرى.. كيف تفسرين أنّ بإمكاننا أن ننسى الجسد الذي امتلكناه ولكننا لا ننسى الجسد الذي اشتهيناه.. ولم نمتلكه؟ طبعاً لم أكن أملك جواباً لأسئلة كهذه. خاصةً أنني لم أكن أبادله الإحساس بأن هذا قد حدث في زمن سابق. أكتفي بالقول: -جميلة هي هذه الحالة العالية من الرغبة. ثمة بطولة ما، في البقاء على قيد الوفاء.. لِوَهْم! ولكنّه وضع رجليه على الطاولة المقابلة له وقال بشيء من السخرية وهو ينفث دخانه بيننا: -أية بطولة؟ مازلت تأخذين الحياة مأخذ الأدب، لأن الناس يحبون القصص التي تنتهي بخيبة، والتي تكثر فيها المبادئ، ويصمد فيها "البطل" حتى الصفحة الأخيرة، لأنهم في الحياة عاجزون عن الصمود إلى هذا الحدّ.. وأضاف: -انتهى زمن القضايا الجميلة. لقد خذلتنا البطولات في الحياة. فلتكن لنا في الروايات بطولات أجمل. كلّ بطولات الفضيلة.. وكلّ انتصارات الحكمة. لا تساوي شيئاً أمام عظمة السقوط في لحظة ضعف أمام من نحبّ. السقوط عشقاً، هو أكثر انتصاراتنا ثباتاً! يمسك بيدي كأنه يستوقفني يقول: -هذه المرّة.. أريد لنا بطولات بسيطة وجميلة.. في متناول الجميع. كأن تكون لنا أطول قبلة في تاريخ الأدب الجزائري.. ثم يسألني أمام دهشتي: -أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك منذ قليل؟ قلت بفضول: -بماذا؟ أجاب: -فكرت أنّ الحياة بدأت معنا في تقليد الأدب. كأن الحبّ أومأ لنا، لنواصل في الحياة، قبلة بدأناها في كتاب سابق. كما في تلك الرواية. ها نحن في موعدنا الأول نفسه. نواصل قبلة أمام المكتبة إياها. وأنت تستعيرين أحدها. أحب مصادفة هذه القبلة العابرة للكتب، العابرة لقصّتين. تصوّري روعة قبلة يبدأها رجلٌ وهميّ في كتاب.. ويواصلها في الحياة رجل آخر، تطابق مع الأول حتّى لكأنّه يعرف مذاق شفتي هذه المرأة. في زمن البطولات الخارقة، والصواريخ العابرة للقارات والأقمار العابرة للكواكب... قبلةٌ عابرةٌ للزمن، عابرة للروايات، تظلّ أهم إنجاز قد يفتخر به المرء. أقول: -جميل كلّ هذا.. ولكن لا أفهم لماذا تصرّ على تحطيم هذا الرقم القياسيّ بالذات. عادةً يزهو الرجال بتحطيم أرقام قياسية أخرى! يضحك وكأنّ سؤالي فاجأه. يقول بعد شيء من الصمت وكأنه جمع كلماته استعداداً لمرافعة: -لأن القبلة هي الفعل العشقيّ الوحيد الذي تشترك فيه جميع حواسنا. نحن في حاجة إلى حواسنا الخمس لتقبيل شخص. ولكن لسنا في حاجة إليها جميعها لنمارس الجنس. القبلة تفضحنا. لأنها حالة عشقية محض، لا علاقة لها بالرغبات الجنسية التي نشترك فيها مع كلّ الحيوانات. ولذا، نحن قد نمارس الحبّ مع شخص لا نشعر برغبة في تقبيله. وقد نكتفي بقبلة من امرأة تمنحنا شفتاها من الحمّى، ما تعجز أجساد كلّ النساء على منحنا إياه!
تعلو وجنتيّ حمرة مفاجئة. أرتبك لهذه الكلمات التي يتكهرب لها جسدي. ولكنني لا أقول شيئاً، وكأنني أصبحت فجأة أخرى. يرفع عن وجهي خصلة أسدلها الارتباك. يقول: -مارست الحبّ كثيراً.ولكنني الآن أنتبه أنّني لم أقبّل امرأةً منذ زمن طويل، وأنّ عمر لذتي توقف على شفتيك عند الصفحة 172. أوشكت أن أسأله، عن أي كتاب يتحدّث؟ وكيف يذكر رقم الصفحة بالتحديد؟ ولكنني لم أعد أجد لي صوتاً أضيف به شيئاً إلى ما قاله. فأقف وكأنني أبحث عن جواب قد أعثر عليه واقفة. قد يكون أساء فهمي. فقد نظر إلى ساعته وسألني: -متى يحضر السائق؟ أجبته: -إنه ينتظرني عند الخامسة.. في الشارع الخلفيّ. ردّ: -أمامك ربع ساعة. أنصحك بالذهاب. لا أجادله في شيء. فأنا أعرف عادته في قطع موعدنا في لحظته الأجمل. كما ينقطع تيار كهربائي أثناء احتفال. أضاف وكأنه انتبه لشؤون أنساه إياها الحبّ: -الوضع سيء، وقد تحدث مواجهات في الساعات القليلة القادمة بين المتظاهرين والجيش. سألته كمن يبحث عن عذر للبقاء. -لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟ قال: -لأن زعيم الإنقاذ خطب اليوم واصفاً الشاذلي بأنه مسمار مزروع في كعب الجزائر لابدّ من اقتلاعه، وأنّ مسيرة من الملتحين تتوجه نحو القصر الرئاسيّ مطالبة بتقديم تاريخ الانتخابات الرئاسية. سألني وهو يرى اندهاشي لهذه الأخبار: -ألا تستمعين إلى الإذاعة؟ قلت كمن يعتذر: -لا يوجد مذياع حيث أنا، ولأنك نصحتني بأن لا أطالع الجرائد. فأنا معزولة عن العالم منذ أسبوعين، في ذلك المصيف. رحت على مرأى منه أجدد هيأتي أمام مرآة. أضع من جديد ذلك الشال على رأسي. أشياء حوله أحسدها. أتركها خلفي وأتجه نحو الباب.
استوقفني حاملاً ذلك الكتاب. قال مازحاً وهو يمدّني به: -يبدو لي الآن أنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية. ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب.. مادام ليس ديواناً لزياد! عجبت لذاكرته، ولغمزته الساخرة، وأدهشني أن يعرف إحدى رواياتي إلى هذا الحدّ. قلت وأنا أطمئنه: -لقد مات هنري ميشو منذ عدّة سنوات. ولا خطر عليك منه! ردّ مازحاً: -لا أدري.. ولكنّني تعلمت أن لا أطمئن إلى قراءاتك! ضحكت. تذكّرت أن في تلك الرواية تستعير البطلة من خالد ديوان شعر لصديقه الفلسطيني زياد، الذي لا ينفك يحدثها عنه وعن شعره بإعجاب. مطمئناً إلى وجوده في الجبهة. ثم يصادف أن يحضر زياد من لبنان لزيارة باريس لبضعة أيام، فتقع البطلة في حب الشاعر وتتخلّى عن الراوي، الذي خسرها منذ بدأت في قراءة ذلك الكتاب.
أمام الباب الذي ما زال مغلقاً على سرّنا، ضمّني إليه دون أن يقول شيئاً. وكأنّ ذلك الشال الذي يغطّ رأسي أعادنا إلى خانة الغرباء. افترقنا دون قبلة, دون سلام. كلمات قليلة فقط قالها وأنا أغادر البيت: -أنتظر هاتفك.. اطلبيني حال وصولك لأطمئن إليك.. أجبت بصوت غائب: -سأفعل.. توقفت لأنظر إلى الباب وهو ينغلق خلفي، على لحظة مسروقة من شرعيّة القدر. ونزلت الدرج بخطى سارق يرى في كلّ من يصادفه، عيوناً تشتبه في أمره. وهو نفسه يبدأ بالاشتباه في سعادته، وفي لذة وقد مضت، لم تعد تستحقّ كلّ تلك المجازفة. وفي لحظة حبّ وقد انتظرها طويلاً، وخطط لها عدّة أيام، وإذا بها في لحظة صغيرة، لا تتجاوز ما يستغرقه إغلاق باب من وقت، قد أصبحت خلفه. أجل.. لا أتعس من عاشق يهبط الدرج! أعود إلى البيت سالكة الطريق نفسه، ولكن بخوف أكثر، وحماس أقلّ. تسكنني فسحة غامضة للفرح.. وأخرى للندم. أن تخلو بنفسك ساعتين في سيّارة يقودها سائق عسكريّ يعود بك من موعد حبّ، سالكاً شوارع الغضب وأزقّة الموت، ليس سوى سقوط مفجع نحو الواقع، ووقت كافٍ للندم. يساعدك في ذلك زيّ التقوى الذي تلبسه. وإذا به يلبسك إذا بك تفكر ضدّ نفسك! ولذا ما كدت أصل إلى البيت، حتّى أسرعت بخلع تلك العباءة، واعدتها إلى صاحبتها. عساني أتصالح مع جسدي. منذ قرن، لكي تستطيع الكتابة، تبنّت جورج صاند اسمًا رجالياً، وثياباً رجالية. عاشت داخلها كامرأة. ولأنّ هذا لم يعد ممكناً، فأنا أستعير كلّ مرة ثياب امرأة أخرى، كي أواصل الكتابة داخلها. الأدب يعلّمنا أن نستعير من الآخرين حيواتهم قناعاتهم، وهيأتهم الخارجية. ولكن ليس السطو على أشيائهم الحميمية هو الأصعب. الأصعب عندما نغلق بعد ذلك دفاترنا، ونخلع ما ليس لنا، ونعود لنقيم في أجساد لم تعد تعرفنا، لكثرة ما ألبسناها ثياباً لا تشبهها! أرتدي ثوب بيتي الصيفيّ. وأجلس لأفكر في ما حلّ بي. اللّذة كالألم. تجبرك على إعادة النظر في حياتك، على مراجعة قناعاتك السابقة، بل وقد تذهب بك إلى حدّ سؤال جنونيّ: "ما جدوى حياتك بعدها؟". ثمّة قُبل إن لم تمت أثناءها، فأنت لست أهلاً لأن تعيش بعدها. وفي الحالتين تقع على اكتشاف مدهش: أنت لم تكن قد جئت إلى الحياة قبلها. ..كذلك الذي كان يتطاول على الموت، ويردّ ضاحكاً على خوفي عليه قائلاً "إنني في حاجة إلى أن أموت أحياناً.. لأعي بعد ذلك أنني ما زلت على قيد الحياة".
كنت عندما تأتيني الحياة بكلّ هذه المتعة، أخاف أن أعي أنني كنت قبل ذلك في عداد الأموات. قُبلة واحدة، وإذا بي أكتشف الحياة دفعة واحدة. وأكتشف حجم خسائري السابقة. كنت أودّ لو كان بإمكاني أن أملأ هذا الدفتر الأسود. وأنا أصف فقط هذه اللحظة الفاصلة بين عمرين. أن أوقفها. أن أحنطها داخل الوقت. أود لو كانت لي يدا النحات الشهير رودان وموهبته، كي أخلد عاشقين، توقف بهما الزمن إلى الأبد في لحظة شغف، وهما منشغلان عن العالم، ومنصهران في قبلة من حجر. لو كانت لي قدرة بروست في رائعته البحث عن الزمن الضائع على كتابة عشرين صفحة في وصف قبلة واحدة لا أكثر. ألأنّ قبلة بروست لم تحدث حقاً، وانتهت بعد طول السرد على خدّ الحبيبة، استطاع أن يصفها إلى ذلك الحدّ؟ ولأن رودان لم يكن وفيّاً تماماً لكاميل كلوديل النحاتة التي أقامت معه علاقة عاصفة أوصلتها إلى مصحّ المجانين حيث ماتت، أراد منذ البدء أن يعوض عن غيابها الحتميّ في محترفه وفي حياته، بتمثال مربك في عريه يخلد به قبلة لن تتكرر بينهما. هل وعى الخذلان المبكر شرط إبداعي؟ والعودة بسلال فارغة وحدها يمكن أن تملأ كتاباً؟ الجواب عن هذا السؤال لا يعنيني الآن.. وفي جميع الحالات أنا عاجزة عن الجواب عنه. هذه الرغبة التي تسكنني الآن تمنعني من التفكير. تشعلني، تحرق أصابعي. تمنعني من الكتابة. بل ربما كانت أرغمتني على الكتابة، لو لم يكن أمامي هذا الهاتف، الذي يمنحك بأرقام سحرية وجبة حبّ فورية، تجعل من الحماقة الجلوس أمام ورقة لاستحضار حبيب بالكتابة!
أتّجه نحو الهاتف، لأطلب ذلك الرجل. وأنا أفكر في ما سبّبه هذا الجهاز من خسارة للأدب. فكم من نصوص جميلة.. وكم من رسائل حبّ لن تكتب، قتلتها كلمة "ألو"! ولكن قبل أن أرفع السماعة، دقّ الهاتف وهزّني. كان زوجي على الخطّ. يحدث لكلمة "ألو" أن تقتل الوهم أيضاً! جمل عجلى نتبادلها، وكأننا نتحدث على بعد قارات. أو كأن الهاتف الذي يتحدث منه ليس مدفوعاً من طرف الدولة. فليكن! إنه دائماً على عجل. وربّما كانت الأحداث حوله هي التي تسرع، ما دام يأمرني بالعودة إلى قسنطينة، بعد غد، على متن الطائرة، لا في السيارة، نظراً إلى تدهور الوضع الأمنيّ في العاصمة. أسأله ماذا أفعل بالسائق. يقول: -ليعد وحده بالسيارة. بعد أن يوصلك أنت وفريدة إلى المطار. لقد حجزت لكما على الرحلة الصباحية. الساعة التاسعة والنصف. أغلق السماعة وأبقى للحظات جامدة.
كانت عودتي متوقعة، نظراً إلى حلول العيد بعد ثلاثة أيام. ولكن كنت أتوقع معجزة ما، أو حادثاً طارئاً ما، يجعل زوجي يطلب مني البقاء إلى حين عودة أمي من الحج. وهو ما سيمنحني فرصة لقاء ذلك الرجل ولو مرّة أخرى. فكرة الوقت الذي بدأ بمطاردتي جعلتني أستعجل في طلبه، وكأنني أدخل فوراً في سباق مع الزمن. ستة أرقام.. هاتف يدق دقتين لا أكثر.. وصوت يردّ، وكأنه هنا في انتظاري: -هل وصلت بسلامة؟ -نعم.. وأنت؟ -لم أغادر البيت. فضّلت أن أستفيد من ذاكرة الأمكنة. رائحتك ما زالت تسكن هذا البيت. إنها عقابك الجميل لي. -لم أقصد ذلك.. -كان يمكن أن تفعلي، لو قرأت ما فعلت جوزفين بنابليون، عندما أجبرها على مغادرة القصر. -ماذا فعلت؟ -رشت بعطرها غرفته، بما يكفي لإبقائه خمسة عشرة يوماً محاصراً بها، رغم وجوده مع أخرى. وقبلها كانت كليوبترا ترشّ أشرعة باخرتها بعطرها، حتّى تترك خلفها خيطاً من العطر حيث حلّت. أقول ضاحكة: -حسناً.. سأستفيد من هذه المعلومات للمّرة القادمة. ولكنّه يردّ بعد شيء من الصمت: -لن يكون هناك من مرة قادمة. -لماذا؟ يردّ دون أن يؤثر انفعالي في نبرة صوته: -لأنني مسافر غداً.. -أنت ذاهب إلى قسنطينة؟ -لا.. إلى فرنسا. أصرخ من جديد بعجب: -إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟ يجيب ضاحكاً: -ما يفعله الآخرون عندما يسافرون إلى هناك. -ولكنّك.. يقاطعني: -ولكنني لا أشبههم.. أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبريّ أسافر بين دفاترك ومعك فقط. ومن قسنطينة إلى العاصمة.. لا أكثر. وليس من حقّي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد.. ولوجهة ليست وجهتك. يصمت ثمّ يواصل: -ولكنني لست البطل الذي تتوهمين. أبطالك لا يمرضون ولا يشيخون، وأنا متعب ومريض يا سيدتي. أقول بخوف مفاجئ: -ممّ تعاني؟ يردّ متهكماً، كما لفرط حزنه: -أعاني الوقوف.. لقد قضيت عمري واقفاً، لأنني لا أحسن الجلوس على المبادئ. لا أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله. سؤال واحد يعنيني: -ومتى تعود؟ -لا أدري.. أنا رجل عابر. -ولكنني معنية بحياتك.. يجيب ساخراً: -أيّ حياتيَّ تعنيك؟ أصمت لا أفهم ما يقصد. يواصل: -أنا لم أوفق في حياتي. ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني الحياة في المشهد الأخير؟ أصرخ: -ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟ يضحك: -ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته. نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة.
يستدرجني كلامه إلى حالة من التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته: -أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟ -بماذا؟ -فكرت.. أنه إذا كانت كلّ القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة. -عجيب.. هل تصدق أنني عندما عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش بعدها". يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول: -لقد أدركت وحدك.. أنه دون ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيه الكفاية لتسمّى عشقاً. أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليها أن تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من اللامبالاة! هذا كلّ ما علق في ذهني من هاتفه. لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد. قال فقط، إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر. وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل. ولكن في اليوم التالي، كانت الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة. كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيهة بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة الحبّ الدائمة التكرار. الآن فقط، يمكن للصمت أن يبكي.
حتمًا
نأتي الحب متأخرين قليلاً، متأخرين دومًا. نطرق قلبًا بحذر، كمن مسبقًا يعتذر، عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة، يعيد الحب نفسه، ببدايات شاهقة لأحلام.. وانحدارات مباغتة الألم. وعلينا أن نتعلم كيف ننتظر أن يوصلنا سائق الحب الثمل إلى عناوين خيبتنا. حتمًا.. نضج الحلم. ولكن الزمن هو الذي لم يستو بعد. فما جدوى أن يبلغ القلب رشدًا سريعًا؟! جاء العيد.. ولقسنطينة عيد آخر. أعود إليها بقلب متعدد الانكسارات. ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم. أتنفس م | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:35 | |
| أتنفس من تحت ركام هائل من الأوهام. وهاهي تفاجئني بوجه لا أعرفه . وقد تراكمت فيها القمامة على امتداد الشوارع بعد أن أضرب فيها عمّال البلديّة والتنظيفات الذين صادر الإسلاميون شاحناتهم المخصصة لنقل النفايات، لإرغامهم على الإضراب المفتوح.. مما جعل القطط هي المحتفلة الوحيدة بالعيد. أستعجل العودة إلى بيتي. حيث أنا لا شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي تستعدّ لفرحها..و"ثغاء" الخرفان التي تنتظر فجرًا موتها. أكره الأعياد. وهذا العيد كان أكثر الأعياد حزناً. كان عيد الغياب. انتابني هذا الإحساس، وأنا أستيقظ ذلك الصباح، فلا أجد أحداً في البيت لأعايده عدا الشغّالة. ولا أحد يمكن أن أطلبه على الهاتف، عدا زوجة عمّي أحمد التي زادني سماعها حزناً. وأيقظ إحساسي بالذنب تجاهها. زوجي كان قد غادر البيت باكراً. تحسّبًا لمظاهرات أو لأحداث طارئة قد تحدث بعد صلاة العيد. فريدة ذهبت كعادتها لقضاء العيد مع أهلها. " مّا " لم تكن قد عادت بعد من الحجّ.. وناصر لم يكن في البيت ليردّ على هاتفي. والخرفان نفسها التي كانت في البيت، لم تعد هنا. ولم يبق منها سوى آثار دمٍ على الأرض، وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ جلدها. ماذا يفعل الناس صباح عيد الأضحى غير الانقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً.. وتقسيماً. فهنا لا يمكن لأحد أن يتصور عيد الأضحى دون أضحيّة. مهما كانت إمكانيّاته الماديّة، أو نوع البيت الذي يسكنه. ولذا تعودت أن أراهم صباح العيد مسرعين جميعهم: الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو المطابخ، يقسّمن أجزاء الشاة حسب حاجتهنّ ويتصدقن بما زاد عنهنّ. هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه،الذي لا يكلّف هذه الأيام أكثر من رصاصة.. أطلب زوجي على الهاتف لأعايده. أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده. أسأله إن كان أرسل شيئًا إلى بيت عمّي أحمد.. يقول أنه نسي ذلك، نظراً إلى مشاغله. أجيبه أنني سأتكفل بالأمر. وقبل أن أواصل كلا مي يدق في مكتبه هاتف آخر.. ويتوقف بيننا الكلام. أطلب من السائق أن يأخذ نصف الشاة إلى بيت ذلك المسكين. ثمّ ألحق به.. وأطلب منه أن يوصلني قبل ذلك إلى المقبرة. لم يحدث إلاّ نادرا أن زرت قبر أبي صباح العيد. كنت أحب أن أذهب إليه وحدي. كما نذهب إلى موعد حبّ. أكره أن أزوره في المناسبات. ربما من كثرة ما تقاسمته مع الآخرين، كتلك المرات التي أعبر فيها شارعاً أو مدرسة تحمل اسمه، فأشعر باليتم يجتاحني، ويكاد يغطي على زهوي بحمل الاسم نفسه. كان بيني وبين هذا الرجل، الذي يقيم تحت هذا الرخام، تواطؤ ما. ولذا صنعت له ضريحاً صغيراً داخلي، لا علاقة له بوجاهة مقامه هنا، ضريحا كان يكبر معي سنة بعد أخرى. وإذا به في غيابه، أكبر مما حولي من أحياء. كنت أجلس إليه بين الحين والآخر، كما تجلس النساء إلى ضريح الأولياء، يشكون همومهن،ويستنجدن ببركات الأموات على مصائب الحياة. وأحيانًا أغلق على نفسي باب غرفتي. وأفتح له ذاكرة حزني وأخطائي. وأدعوه إلى الجلوس على طرف سريري. أقص عليه بعض ما حلّ بي. أستشيره. وأتوقع أجوبته. وعندما لا يأتي جوابه، وتبقى صورته صامتة، أجهش بالبكاء. أخاف أن أكون قد قلت له الكثير عني. أخاف ألا أكون عند حسن ظنه. فلا أصعب من أن نبقى عند حسن ظن الأموات. اليوم أيضًا، ككل المرات التي كان يضيق بي فيها القدر، وتخذلني الحياة، تقودني خطاي نحو هذا الشبر من التراب ، أنبش فيه عن جواب لأسئلتي الكثيرة. ولكني هذه المرة لم أعثر على جواب. وإنما عثرت على ناصر، وهو يهم بمغادرة المقبرة. ومما زاد من اندهشي، ألا تكون زيارة قبر أبي في الأعياد إحدى عاداته. بل نقلت لي أمي منذ مدة ، أنه أفتى لها بأن زيارة القبور والأضرحة غير مستحبة. وكعادتي، لم أجادله في معتقداته، ولا في وجوده هنا ، حيث لم أتوقعه.. كالعادة. اكتفيت بإبداء اندهاشي لوجوده، وفرحي بلقائه. ولكنني لم أمنع نفسي وأنا أقبله، من أن أسأله عن مظهره الذي بدا لي قد تغير، دون أن أتمكن من معرفة ما تغير فيه بالتحديد. رد بشيء من السخرية: _لقد فقدت كثيرًا من وزني في الفترة الأخيرة.. ثم أضاف: _كي لا أفقد معتقداتي! لم أفهم ما يعنيه. أجبته بلهجة فرحة: _هذا أفضل.. أنت تبدو أكثر شبابًا هكذا.. أجاب بالسخرية نفسها: _وواش اندير بشبوبيّتي..؟ هوذا كعادته ، يستدرجني إلى موضوع لن يكون من السهل الخوض فيه. كتلك المرة التي طلبت منه فيها، منذ سنوات أن يأخذ الساعة الجدارية لإصلاحها، لأنها تتأخر عدة دقائق كل مرة، ولكنه رد هازئًا: _ روحي.. يا بنتي روحي، إحنا رانا عايشين متأخرين على العالم بقرن. وأنت قاعدة عقاب الساعة، تحسبي لي في الدراج والدقائق. قرن كامل ما قلقكش.. وقلقوك الدقائق. حتى الراجل إذا نديها لو يموت من الضحك.. في هاذ البلاد.. الناس ما يأخذولو ساعة غير لما تحبس! أتفادى الدخول معه في جدل سيهزمني فيه لا محالة. لأنه يرد على منطقي في الحياة، بمنطقه في معايشتها. وهو ما يجعل الحق دائمًا إلى جانبه. أقول كمن يعتذر: _كنت على سفر. ولم أعد سوى منذ يومين. طلبتك هذا الصباح لأعايدك.. ولكنني لم أجدك. ردّ: _أنا لا أقيم في البيت. كلنا على سفر كما ترين، وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه الأيام! يواصل بعد شيء من الصّمت: _لأنه لم يعد لهم من شيء يخافون عليه.. أو يخافون منه. أسأله مستفيدة من هذا السياق: _وممّ أنت خائف؟ يرد بثقة وكأني وجهت إليه تهمة: _من الله.. من الله وحده. أرد: _كلنا نخاف الله.. يجيب: _كيف يخاف الله من يطيع أعداءه؟ أصمت. لا لأنني لا أقدر على جوابه. ولكن لأنني أجد جدلنا هذا، أمام مقبرةٍ ذات عيد، ضربًا من الجنون. فنحن لم نأت هنا لنتناقش ولا لنتشاجر. جئنا لنقرأ الفاتحة على قبر والدنا، وهاهي ذي السياسة تطاردنا الآن في كل مكان، حتى في أسرتنا، وحتى في دفاترنا، وحتى في المقابر. أقول: _ناصر خويا.. الناس تلتقي اليوم لتتعايد، وتتصالح، وتتسامح،وأنت لا أكاد أسلم عليك حتى تنفجر في وجهي.. كن أخي ولو صباح العيد. يقول متذمّرًا: أي عيد؟ أنظري حولك القبور كلها جديدة، كلها طريّة، تستقبل كل يوم دفعة جديدة من الأبرياء. _وما ذنبي أنا؟ _ذنبك.. أنك تقتسمين مع الشيطان بيته وسريره. أرد: _لا أدري إن كان هذا الرجل ملاكًا أو شيطانًا. لا أعتقد أنه يختلف عن الآخرين، سوى بكونه ضابطًا ساميًا تقع على أكتافه مسؤوليات الدفاع عن الوطن، هذا الوطن الذي أؤمن به أكثر من إيماني بالملائكة.. والشياطين. _ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ هذه القبور، ما فائدة ما تعلمته إذن، عن حريّة الناس في اختيار مصيرهم؟ _ما تعلمته لم يفدني في شيء. ولا حتى في اختيار مصيري، فكيف تريد أن أقرر مصير الآخرين؟ ثمة أكثر من ستين حزباً معترفاً بها رسميًا. ومهمتها تمثيل الشعب، والدفاع عن اختياره. أما أنا فلا يوجد حزب ليدافع عني. وحتى أنت.. لم تسألني قبل اليوم عن رأيي في شيء، فلماذا تعجب أن لا يكون لي اليوم رأي؟ يصمت. وكأنه لا يجد ما يقوله، أو لا يجد جدوى من الكلام. يستعيد لهجة أكثر حناناً. ويقول وكأنه يودعني سراً. -حياة.. انخاف عليك أتمتم: -من واش؟ يجيب: -من كلّ شيء! أرد بالحنان نفسه: -لقد خفت عليّ دائماً من كلّ شيء. يجيب: -ولكن هذه المرة أدري تمامًا ما أقول. أتركي هذا الرجل، اطلبي منه الطلاق ما دام ليس لك أطفال منه. أبتسم ثم أضحك لكلامه. يسألني عاتباً: -ما الذي يضحكك؟ أقول: -تذكرت "ما" لو كانت هنا وسمعتك تنصحني بالطلاق لجنّت. هي التي تعتبر زواجي من هذا الرجل أكبر مفاخرها. يردّ: -لا تهتمي بأمي. إنها تعيش حياة مستندة إلى حقيقة واحدة (الآخرين). في الواقع هي تستند إلى جدار من الوهم الكبير. استندي إلى الله في أي قرار تتخذينه فهو لن يخذلك. أقول: -لقد استندت إليه دائماً.. وإلى هذا القبر. وقدري نتيجة هذا. وكنت أتمنى أن تكون أنت أيضاً سندي. إنك كلّ ما أملك في هذه الدنيا. ولكن ها نحن كالغرباء نلتقي مصادفة في المقابر.. لا تطلبني ولا تزورني، وعندما أزورك لا أجدك. يقاطعني بشيء من المرارة: -ذات يوم.. لن تجدي صعوبة في العثور عليّ. سيكون لي أخيراً عنوان ثابت هنا. أصرخ: -ما هذا الذي تقوله.. أجننت؟ يقاطعني: -الموت أقرب إلينا مما تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها شيئًا، على مقربة من شرطيّ. عندما قتلوه، اكتشفوا انه لم يكن يحمل في جيبه شيئاً. تصوري: الآن بإمكانك أن تموتي لا بسبب جريمة ارتكبتها، وإنما لأن هناك افتراضاً أن تكوني مجرمة. حسب المكان، أو الزمان، أو الهيئة التي يصادف أن تكوني عليها وقتها. أي أننا جميعاً متهمون مفترضون. يكفي أن تتوافر فينا إحدى هذه المصادفات.. وتتطابق مع "أعراض إرهابية"! أقول: -لا أطن أن أحداً يحب إيذاء الآخر، أو قتله لمتعة القتل. ولكن كلّ واحد أصبح يعتقد أنه إن لم يكن القاتل، فسيكون القتيل. إنها قضية ثقة. لقد فقدنا الثقة ببعضنا بعضاً. إنه زمن الانجراف نحو الشر. يجب أن لا ننساق فيه إلى ركوب هذا القطار المجنون. الحياة جميلة يا ناصر، صدقني.. يكفي أن نضع فيها شيئاً من الحب. يصمت ناصر. ثم يحتضنني ويقول: -أحياناً أتمنى أن أشبهك -وأنا أتمنى دائماً أن أشبهك. لقد باعدتنا الحياة أحياناً. ولكن لن يفرقنا شيء. أليس كذلك؟ يجيب: -لا.. لن يحدث هذا. يمشي خطوات ثم يعود، وكأنه تذكر شيئاً. أو كأنه قرر أن يقول لي شيئاً، تردد في قوله. يهمس: -حاولي أن تأتي لزيارتنا في البيت خلال اليومين القادمين. إنّ أمي ستعود بعد غد من الحج. إنني أنتظر عودتها لأسافر. وأود أن أودّعك قبل سفري. أسأله دهشة: -تسافر إلى أين؟ -سأقول لك هذا في ما بعد. لا تخبري أحداً بهذا الأمر. ما يكاد يختفي، حتى أجلس منهارة عند أقدام ذلك القبر. ويفاجئني البكاء. أيّ زمن هذا الذي أصبح فيه الإخوة، يلتقون فيه مصادفة في المقابر صباح العيد. فيتشاجرون ويتصالحون على مسمع من الموتى. ثمّ يفترقون، دون أن يدروا متى سيكون لقاؤهم القادم.. وفي أي عالم!
أنا التي ذهبت يومها أبحث عن أجوبة، عدت بأسئلة أكثر، بعد أن قضيت نصف نهاري في مواساة عائلة عمي أحمد، والنصف الآخر في مواساة نفسي، عن رجال لا يأتون إلا ليرحلوا، ولا يسلمون علي إلا ليودعوني..ولا يتحدثون إلي إلا ليضعوا الموت طرفًا ثالثًا بيننا. أثمّة في هذا البلد، عدوى انتشرت بين الرجال.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟ في المساء، جلست لياقةً لأشارك زوجي العشاء. في الواقع، كنت قد قررت منذ أيام أن لا آكل شيئًا من لحم تلك الخرفان، التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام، بسبب ما عانته من دوار البحر، لقضائها شهرًا ونصفًا، محشورة في الطبقات السفلية لباخرة. زوجي كان مرهقًا بدوره إلى درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي. تبادلنا أحاديث عاديّة، عن أشياء عامة دون تحديد. وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم ويخلع ثيابه. وكأنه يخلع عبئًا كان يحمله طوال النهار. ويلقي بنفسه على السرير. قلت له وأنا أعلق ثيابه على المشجب: _كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم معي.. لا أفهم لماذا لا بد ان تقضي كل الأيام في مكتبك ..حتى الأعياد. أجابني: _إذا قضيت معك العيد، فمن يضمن الأمن في مدينة يتجاوز عدد طلابها في جامعة واحدة 23 ألف طالب. أما مساجدها فلا أحد يعرف عددها.. إنها تنبت كل يوم.. قلت: _كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي أبدًا. حتى العطل والأعياد، أصبحنا نقضيها كل على حده. أوصلني هذا السياق إلى ناصر. تذكرته وتذكرت حديثي معه. احتفظت بمشروع سفره لنفسي. ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة، برغم علمي أن زوجي يتحاشى الحديث عنه، وكأنه يبادله مشاعر الكراهية نفسها. ولكنه فاجأني هذه المرة، وهو يقول بشيء من الارتياح: _حسنًا أن تكوني قد التقيت به.. ثم يضيف: _كيف وجدته؟ أعجب لسؤاله.. أجيب: كالعادة.. ربما نحف بعض الشيء، ولكنه بصحة جيدة. يسألني : _ألم يخبرك بشيء؟ أصمت. أرتبك. يذهب فكري إلى كل الاحتمالات. تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟ أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ أحدًا. وماذا لو كان يستدرجني ليعرف مني ما يجهله؟ أجيب: _لا.. لم يخبرني شيئًا، عدا أن أمي عائدة بعد غدٍ من الحج.. كي أستعد لاستقبالها. يسألني وهو يصلح من جلسته مستندًا على السرير: _ألم يخبرك أنه اعتقل؟ أصرخ دهشة: _اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟! _أثناء غيابك. لم أشأ أن أخبرك بذلك حتى لا أشغل بالك. أصاب بحالة ذهول. أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم لم يعثروا على حجة كافية لإدانته، و إلا لما كانوا أطلقوا سراحه. أسأل: _ماذا فعل؟ يجيب: _إن كثيرًا من الشبهات تدور حوله، لإقامته علاقات مع جهات أصولية.. أجبت بعصبية: _ولكن أن يتعاطف مع هؤلاء لا يعني أنه إرهابي. لا يمكن لناصر أن يحمل السلاح ليقتل أحدًا. أنا أعرف أخي. يقاطعني بلهجة صارمة: _إن أخاك يتكلم كثيرًا . ولولا لسانه لوفر عليّ وعليه كثيرًا من المتاعب. إنه يعتقد أن الاسم الذي يحمله يمنحه حصانة. ويعطيه حق شتم السلطة وتحريض الآخرين. لقد تدخلت هذه المرة لإطلاق سراحه، ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا دائمًا. نحن نعيش حالة من التوتر الأمني يجب ألا يكون فيها استثناءات حتى لأقرب الناس إلينا.. لابد أن تشرحي له هذا! ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم أتوقع أن خبر سجنه سيحرك فيّ كل ذلك الوحل. تركت لزوجي فرصة استعراض قوته أمامي، وإشعاري بأني مدينة له بالكثير. لم تكن عندي رغبة في الدخول معه في أي جدل، ولا كنت مستعدة لأن أنهي يوم العيد بالتشاجر مع زوجي.. وقد بدأته بالتشاجر مع أخي. رأيته فجأة يغرق في نوم عميق. فلم أملك إلا أن أنزلق جواره. وأحاول بدوري أن أنام مذهولة من أمري. لا أدري كيف مات غضبي. الآن فقط اكتشفت أنه مات. وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل، الذي كثيرًا ما أشعل قلمي وأشعلني في وجه الآخرين. ألا تكون لك قدرة على الغضب، أو رغبة فيه، يعني أنك غادرت شبابك لا غير. أو أن تلك الحرائق غادرتك خيبة بعد أخرى. حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في شيء. ولا حتى في قضايا كانت تبدو لك في السابق من الأهمية، أو من المثاليّة، بحيث كنت مستعدًا للموت من أجلها! كانت عودة أمي من الحج، هي كل ما يعنيني الآن . ولا أدري أي شعور بالتحديد جعلني أستعجل لقاءها: شوقي إليها؟ أم حاجتي إليها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر، ومعرفة ما يخبئ لي من مفاجآت؟ وأنا التي تعودت رؤية أمي ذاهبةً أو عائدة من الحج، لم يفاجئني جلوسها في الصالون بزيها الأبيض، وغطاء رأسها الأبيض إياه. بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون حاشيتها من النساء، اللاتي يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب وإياب. ولذا سعدت بالانفراد بها.. وربما الالتصاق بها، وكأنني أسرق منها بعض بركاتها، قبل أن تعود امرأة عاديّة. لا تكاد تراني حتى تبادرني بالسؤال: هيأتك لا تعجبني.. هل بك شيء؟ أرد: _لا تواصل: _لم تستفيدي من سفرك إلى العاصمة.. لقد عدت أكثر شحوبًا.. ربما البحر لا يناسبك. أرد: _بلى هو يناسبني.. ولكن هذه المدينة هي التي تتعبني. فتعود إلى حديثها عن الحج، وقد اطمأن بالها أخيرًا لعدم وجود مشاكل في غيابها. تحكي عن الحرارة التي لا تطاق هذا العام في مكة.. وعن الحجيج الذين ماتوا دعسًا.. وعن الدينار الجزائريّ الذي انهار.. وعن أسعار الذهب التي ارتفعت.. أستوقفها: _"مّا" .. هل رفعت لي دعاءً هناك؟ تجيبني متعجبة: _طبعًا يا ابنتي.. إنني أفعل ذلك دائمًا.. أقاوم رغبة جارفة في البكاء، وكأنني كنت أنتظرها لأنهار باكية. ولكنني لا أفعل؛ أواصل الاستماع إليها تحكي.. وأنا سرًا أبكي. أثناء ذلك، تحضر إحدى الجارات ثم نساء أخريات. فأتركها لهن. وأذهب نحو ناصر.. كعادتي. أحب ناصر في صمته. في رجولته الموروثه من قامة أبي وملامحه. واليوم بالذات يبدو لي أكبر من عمره. أحسه رجلاً فوق العقد، فوق الشبهات. إنه لا يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في الأصولية حلاً لكل عقدهم الرجالية، أو مشاكلهم الأرضية. ووجدوا في تطرفهم ردًا على عجز عاطفي.. أو انتقامًا لذاكرة طبقيّة أو تنفيسًا عن عقدة وطنيّة. لقد أثار هذا الطريق تاركًا كل شيء خلفه، بينما لحق ب الآخرون، لأنهم لم يكونوا يملكون شيئًا ليخسروه! كان بإمكانه الحصول على أية بنت، وأية وظيفة، وأية ثروة، ولم يفعل. ولا أدري أين كان يجد ثروته الداخليّة. ومع أية قضية تزوج سرًا. إلى أي بلد كان يهاجر كل يوم، وهو جالس يحتسي قهوته بتذمر صامت، وأمي تحثه كل مرة على الكسب، واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه بمقارنة حياته بحياة من هم أدنى منه، ونجحوا في حياتهم. نجحوا في الحياة؟ في الواقع لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيليات شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها. لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليها. وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم يكن في أناقة أحلامه! أكان يدخل هو أيضًا حزب الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا من سجن يتربص بالملتحين. جاء زمن شفرات الحلاقة إذن_أخيرًا أصبحت متوافرة_ نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟ نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب. أسأله بنبرة منخفضة: _أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟ يجيب: _إني أسافر كي أعود. ولكن إن بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي.. فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري. ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي. _ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟ _طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت المباغت.. والاغتيالات الملفقة. أقول: _لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي. يقاطعني: _وأبلغك أيضًا أنه تدخل للإفراج عني. _وهل هذا غير صحيح؟ _نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ، وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك من قتله خارج السجن، تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟ استمعت إليه، كمن لا يصدق أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا "آمنًا" أسميته الوطن! فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر، ريثما يمر قطار الجنون. أنا التي لم أقتنع يومًا بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب وحججًا لإقناع أمي بذلك. عدت يومها محملة بقبل ناصر.. وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ، الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة، تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيه.. وأستنجد به عندما أضع مولودي! في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم. وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز على أي شيء عداه. أكثر من كلماته، علقت بي رائحته الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما كان اسمه: هو. وأذكر أن ديدرو الذي وضع سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية، والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا، والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها، لأنها حاسة يحكمها اللا شعور، وليس المنطق. المخيف مع هذا الرجل. أنه جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من هذه الحواس. بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه، أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق. ولذا قررت يومًا التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو، والذي وضع جوار مقاطعة إشارات أو ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في كتاب. أن تعيش مأخوذا بلغز رجل غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك في كتابة رواية جميلة. هذا إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك الأخرى. ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيه وحاضره، وأسماء من أحب ومن أحبوه، عناوين البيوت التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي مارسها، والأماكن التي يرتادها. تطارده بالأسئلة لتعرف برجه، وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته، فقط لمتعة التجسس على قراءاته! إن في الحب كثيرًا من التلصص والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق! سؤالي الأول كان. مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة أخرى. وكل حياته كانت مبنية على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد ظل يرفض الجوائز الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في طبعات شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال حياته إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى: "في ردهة روحك، ظنًّا منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من يتحول بالتدريج خادمًا. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث" على هامشها كتب: " لا تبحث.. ستضع ذكاءك في خدمة الجنون" ثم خاطرة أخرى: " في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد" وأضاف باللون الأزرق أسفلها " أو في جريدة!" . ثمّ: "إذا كنت الإنسان المقدم على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت مقدمًا على الموت فلا تهتم!". أن يطالع أحد هواجسك في كتاب، تركت عليه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو يتلصص عليك من حيث لا تتوقع . الأشياء الحميمة، نكتبها ولا نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي. بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ، في وقت واحد. أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على البيانو بأربع أيدٍ، وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري ميشو": "في استطاعتك أن تكون مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع أن تدنس كل شيء ! " ويدخل العزف الآخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " . أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة "ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" . وترد أصابع واثقـة.. بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو . ويواصل القلم الأزرق بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته. "لا تتعجل أخطاءك.لا تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟ " أو " لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه" أو "النوم في النهاية، هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر، تأتي كما لو أنها الجملة الأولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن ؟". ويصمت الأزرق. قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة بتطابق هذين الرجلين في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود الذي كان غالبا ما لا يرسم هنري ميشو إلا به، أو عليه ، لوحاته. إضافة إلى كراهيتهما للأسماء أو للأضواء. وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا. اكتشافي الآخر كان ، أن هذا الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه من الرجال . ألأنني كنت مسكونة بهاجس ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليه من بين فكرتين ؟ ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة . تكتشف فيها نفسك ، و مساحات منك لم تكن تعرفها. و أخرى شخصًا آخر، لم تكن تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها. كذلك البيت : "لا اسم لي. اسمي تبذير للأسماء" وهل كان ناصر عبد المولى إلا تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم الطاهر عبد المولى؟ كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ حياتك. قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية، والنصف الآخر للذاكرة الوطنية. أنا التي ذهبت يومها أبحث عن أجوبة، عدت بأسئلة أكثر، بعد أن قضيت نصف نهاري في مواساة عائلة عمي أحمد، والنصف الآخر في مواساة نفسي، عن رجال لا يأتون إلا ليرحلوا، ولا يسلمون علي إلا ليودعوني..ولا يتحدثون إلي إلا ليضعوا الموت طرفًا ثالثًا بيننا. أثمّة في هذا البلد، عدوى انتشرت بين الرجال.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟ في المساء، جلست لياقةً لأشارك زوجي العشاء. في الواقع، كنت قد قررت منذ أيام أن لا آكل شيئًا من لحم تلك الخرفان، التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام، بسبب ما عانته من دوار البحر، لقضائها شهرًا ونصفًا، محشورة في الطبقات السفلية لباخرة. زوجي كان مرهقًا بدوره إلى درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي. تبادلنا أحاديث عاديّة، عن أشياء عامة دون تحديد. وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم ويخلع ثيابه. وكأنه يخلع عبئًا كان يحمله طوال النهار. ويلقي بنفسه على السرير. قلت له وأنا أعلق ثيابه على المشجب: _كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم معي.. لا أفهم لماذا لا بد ان تقضي كل الأيام في مكتبك ..حتى الأعياد. أجابني: _إذا قضيت معك العيد، فمن يضمن الأمن في مدينة يتجاوز عدد طلابها في جامعة واحدة 23 ألف طالب. أما مساجدها فلا أحد يعرف عددها.. إنها تنبت كل يوم.. قلت: _كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي أبدًا. حتى العطل والأعياد، أصبحنا نقضيها كل على حده. أوصلني هذا السياق إلى ناصر. تذكرته وتذكرت حديثي معه. احتفظت بمشروع سفره لنفسي. ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة، برغم علمي أن زوجي يتحاشى الحديث عنه، وكأنه يبادله مشاعر الكراهية نفسها. ولكنه فاجأني هذه المرة، وهو يقول بشيء من الارتياح: _حسنًا أن تكوني قد التقيت به.. ثم يضيف: _كيف وجدته؟ أعجب لسؤاله.. أجيب: كالعادة.. ربما نحف بعض الشيء، ولكنه بصحة جيدة. يسألني : _ألم يخبرك بشيء؟ أصمت. أرتبك. يذهب فكري إلى كل الاحتمالات. تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟ أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ أحدًا. وماذا لو كان يستدرجني ليعرف مني ما يجهله؟ أجيب: _لا.. لم يخبرني شيئًا، عدا أن أمي عائدة بعد غدٍ من الحج.. كي أستعد لاستقبالها. يسألني وهو يصلح من جلسته مستندًا على السرير: _ألم يخبرك أنه اعتقل؟ أصرخ دهشة: _اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟! _أثناء غيابك. لم أشأ أن أخبرك بذلك حتى لا أشغل بالك. أصاب بحالة ذهول. أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم لم يعثروا على حجة كافية لإدانته، و إلا لما كانوا أطلقوا سراحه. أسأل: _ماذا فعل؟ يجيب: _إن كثيرًا من الشبهات تدور حوله، لإقامته علاقات مع جهات أصولية.. أجبت بعصبية: _ولكن أن يتعاطف مع هؤلاء لا يعني أنه إرهابي. لا يمكن لناصر أن يحمل السلاح ليقتل أحدًا. أنا أعرف أخي. يقاطعني بلهجة صارمة: _إن أخاك يتكلم كثيرًا . ولولا لسانه لوفر عليّ وعليه كثيرًا من المتاعب. إنه يعتقد أن الاسم الذي يحمله يمنحه حصانة. ويعطيه حق شتم السلطة وتحريض الآخرين. لقد تدخلت هذه المرة لإطلاق سراحه، ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا دائمًا. نحن نعيش حالة من التوتر الأمني يجب ألا يكون فيها استثناءات حتى لأقرب الناس إلينا.. لابد أن تشرحي له هذا! ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم أتوقع أن خبر سجنه سيحرك فيّ كل ذلك الوحل. تركت لزوجي فرصة استعراض قوته أمامي، وإشعاري بأني مدينة له بالكثير. لم تكن عندي رغبة في الدخول معه في أي جدل، ولا كنت مستعدة لأن أنهي يوم العيد بالتشاجر مع زوجي.. وقد بدأته بالتشاجر مع أخي. رأيته فجأة يغرق في نوم عميق. فلم أملك إلا أن أنزلق جواره. وأحاول بدوري أن أنام مذهولة من أمري. لا أدري كيف مات غضبي. الآن فقط اكتشفت أنه مات. وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل، الذي كثيرًا ما أشعل قلمي وأشعلني في وجه الآخرين. ألا تكون لك قدرة على الغضب، أو رغبة فيه، يعني أنك غادرت شبابك لا غير. أو أن تلك الحرائق غادرتك خيبة بعد أخرى. حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في شيء. ولا حتى في قضايا كانت تبدو لك في السابق من الأهمية، أو من المثاليّة، بحيث كنت مستعدًا للموت من أجلها! كانت عودة أمي من الحج، هي كل ما يعنيني الآن . ولا أدري أي شعور بالتحديد جعلني أستعجل لقاءها: شوقي إليها؟ أم حاجتي إليها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر، ومعرفة ما يخبئ لي من مفاجآت؟ وأنا التي تعودت رؤية أمي ذاهبةً أو عائدة من الحج، لم يفاجئني جلوسها في الصالون بزيها الأبيض، وغطاء رأسها الأبيض إياه. بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون حاشيتها من النساء، اللاتي يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب وإياب. ولذا سعدت بالانفراد بها.. وربما الالتصاق بها، وكأنني أسرق منها بعض بركاتها، قبل أن تعود امرأة عاديّة. لا تكاد تراني حتى تبادرني بالسؤال: هيأتك لا تعجبني.. هل بك شيء؟ أرد: _لا تواصل: _لم تستفيدي من سفرك إلى العاصمة.. لقد عدت أكثر شحوبًا.. ربما البحر لا يناسبك. أرد: _بلى هو يناسبني.. ولكن هذه المدينة هي التي تتعبني. فتعود إلى حديثها عن الحج، وقد اطمأن بالها أخيرًا لعدم وجود مشاكل في غيابها. تحكي عن الحرارة التي لا تطاق هذا العام في مكة.. وعن الحجيج الذين ماتوا دعسًا.. وعن الدينار الجزائريّ الذي انهار.. وعن أسعار الذهب التي ارتفعت.. أستوقفها: _"مّا" .. هل رفعت لي دعاءً هناك؟ تجيبني متعجبة: _طبعًا يا ابنتي.. إنني أفعل ذلك دائمًا.. أقاوم رغبة جارفة في البكاء، وكأنني كنت أنتظرها لأنهار باكية. ولكنني لا أفعل؛ أواصل الاستماع إليها تحكي.. وأنا سرًا أبكي. أثناء ذلك، تحضر إحدى الجارات ثم نساء أخريات. فأتركها لهن. وأذهب نحو ناصر.. كعادتي. أحب ناصر في صمته. في رجولته الموروثه من قامة أبي وملامحه. واليوم بالذات يبدو لي أكبر من عمره. أحسه رجلاً فوق العقد، فوق الشبهات. إنه لا يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في الأصولية حلاً لكل عقدهم الرجالية، أو مشاكلهم الأرضية. ووجدوا في تطرفهم ردًا على عجز عاطفي.. أو انتقامًا لذاكرة طبقيّة أو تنفيسًا عن عقدة وطنيّة. لقد أثار هذا الطريق تاركًا كل شيء خلفه، بينما لحق ب الآخرون، لأنهم لم يكونوا يملكون شيئًا ليخسروه! كان بإمكانه الحصول على أية بنت، وأية وظيفة، وأية ثروة، ولم يفعل. ولا أدري أين كان يجد ثروته الداخليّة. ومع أية قضية تزوج سرًا. إلى أي بلد كان يهاجر كل يوم، وهو جالس يحتسي قهوته بتذمر صامت، وأمي تحثه كل مرة على الكسب، واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه بمقارنة حياته بحياة من هم أدنى منه، ونجحوا في حياتهم. نجحوا في الحياة؟ في الواقع لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيليات شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها. لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليها. وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم يكن في أناقة أحلامه! أكان يدخل هو أيضًا حزب الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا من سجن يتربص بالملتحين. جاء زمن شفرات الحلاقة إذن_أخيرًا أصبحت متوافرة_ نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟ نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب. أسأله بنبرة منخفضة: _أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟ يجيب: _إني أسافر كي أعود. ولكن إن بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي.. فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري. ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي. _ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟ _طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت المباغت.. والاغتيالات الملفقة. أقول: _لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي. يقاطعني: _وأبلغك أيضًا أنه تدخل للإفراج عني. _وهل هذا غير صحيح؟ _نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ، وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك من قتله خارج السجن، تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟ استمعت إليه، كمن لا يصدق أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا "آمنًا" أسميته الوطن! فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر، ريثما يمر قطار الجنون. أنا التي لم أقتنع يومًا بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب وحججًا لإقناع أمي بذلك. عدت يومها محملة بقبل ناصر.. وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ، الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة، تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيه.. وأستنجد به عندما أضع مولودي! في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم. وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز على أي شيء عداه. أكثر من كلماته، علقت بي رائحته الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما كان اسمه: هو. وأذكر أن ديدرو الذي وضع سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية، والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا، والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها، لأنها حاسة يحكمها اللا شعور، وليس المنطق. المخيف مع هذا الرجل. أنه جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من هذه الحواس. بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه، أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق. ولذا قررت يومًا التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو، والذي وضع جوار مقاطعة إشارات أو ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في كتاب. أن تعيش مأخوذا بلغز رجل غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك في كتابة رواية جميلة. هذا إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك الأخرى. ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيه وحاضره، وأسماء من أحب ومن أحبوه، عناوين البيوت التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي مارسها، والأماكن التي يرتادها. تطارده بالأسئلة لتعرف برجه، وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته، فقط لمتعة التجسس على قراءاته! إن في الحب كثيرًا من التلصص والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق! سؤالي الأول كان. مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة أخرى. وكل حياته كانت مبنية على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد ظل يرفض الجوائز الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في طبعات شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال حياته إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى: "في ردهة روحك، ظنًّا منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من يتحول بالتدريج خادمًا. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث" على هامشها كتب: " لا تبحث.. ستضع ذكاءك في خدمة الجنون" ثم خاطرة أخرى: " في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد" وأضاف باللون الأزرق أسفلها " أو في جريدة!" . ثمّ: "إذا كنت الإنسان المقدم على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت مقدمًا على الموت فلا تهتم!". أن يطالع أحد هواجسك في كتاب، تركت عليه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو يتلصص عليك من حيث لا تتوقع . الأشياء الحميمة، نكتبها ولا نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي. بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ، في وقت واحد. أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على البيانو بأربع أيدٍ، وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري ميشو": "في استطاعتك أن تكون مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع أن تدنس كل شيء ! " ويدخل العزف الآخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " . أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة "ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" . وترد أصابع واثقـة.. بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو . ويواصل القلم الأزرق بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته. "لا تتعجل أخطاءك.لا تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟ " أو " لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه" أو "النوم في النهاية، هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر، تأتي كما لو أنها الجملة الأولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن ؟". ويصمت الأزرق. قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة بتطابق هذين الرجلين في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود الذي كان غالبا ما لا يرسم هنري ميشو إلا به، أو عليه ، لوحاته. إضافة إلى كراهيتهما للأسماء أو للأضواء. وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا. اكتشافي الآخر كان ، أن هذا الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه من الرجال . ألأنني كنت مسكونة بهاجس ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليه من بين فكرتين ؟ ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة . تكتشف فيها نفسك ، و مساحات منك لم تكن تعرفها. و أخرى شخصًا آخر، لم تكن تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها. كذلك البيت : "لا اسم لي. اسمي تبذير للأسماء" وهل كان ناصر عبد المولى إلا تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم الطاهر عبد المولى؟ كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ حياتك. قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية، والنصف الآخر للذاكرة الوطنية.
قبل أن يكبر بالقدر الذي يسمح له بمتابعة الأخبار، أو بطالعة جريدة، فتح عينيه على غياب والده، وعلى الحضور الدائم لعبد الناصر، مبتسمًا ومحييًا في صورته الشهيرة. ليس فقط لعدم وجود جهاز للتلفزيون في بيتنا في تلك الأيام، ولن لأنه الصورة الوحيدة التي كانت في غربتنا ، تزين غرفة متواضعة للاستقبال. وأذكر تمامًا أن تلك الصورة وصلتنا إلى منفانا بتونس. عن طريق صديق لوالدي كان يدعى سي عبد الحميد، وكان يتردد علينا أثناء وجود والدي في الجبهة، محملاً بالهدايا وبمبلغ من المال، لا أدري إن كان منه أو بتكليف من الجبهة. ذات مرة زارنا، وراح يلاعب ناصر كعادته. ثم سأله" ماذا تريد أن أحضر لك؟" وإذا بناصر، و لم يتجاوز الرابعة من عمره، يجيبه وكأنه يطلب لعبه " جيب لي عبد الناصر". وتروي أمي أن سي عبد الحميد ظل مذهولاً للحظات قبل أن يجيبه بمنطق الأطفال" سآتيك به في المرة القادمة". ولأنه كان يتردد على القاهرة لإجراء بعض المشاورات السياسية، وكان أيضًا مسؤولاً عن متابعة شؤون الطلبة الجزائريين هناك، والذين كان من بينهم طالب لم يكن يدعى بعد هواري بو مدين، فقد أحضر لنا مرة صورة كبيرة لعبد الناصر، مع جملة من الهدايا التذكارية. منذ ذلك الحين أصبح بإمكاننا في بعض الأمسيات أن تستمع من تونس إلى" صوت العرب من القاهرة" وهو يبث خطابات لجمال عبد الناصر، وأناشيد عربية ملتهبة، لازلت أحفظ بعضها، كما يحفظ الطفل في ذلك العمر أناشيد تعلموها في روضة، وعلقت بذهنهم إلى الأبد . ثم ننام سعيدين، دون حاجةٍ إلى التلفزيون الذي لم نكن قد شاهدناه في حياتنا بعد. لقد كنا نتفرج على العالم من شاشة جداريّة.مثبتة عليها صورة عبد الناصر، قبل أن يأتي يوم تجاور فيه صورة أبي على الجدار صورة عبد الناصر، بحجم أصغر، ولكن بالحجم الكبير ذاته الذي نقلتها به الصحافة وهي تعلن في صيف 1960 على صفحاتها الأولى، مقتل أحد قادة الثورة على يد المظليين الفرنسيين، بعد معركة ضارية في مدينة باتنة. أذكر أنني احتفظت أيامًا بتلك الجريدة، كنت خلالها أفتحها بين الحين والآخر على الصفحة الأولى، وأقضي وقتًا طويلاً في تأمل ملامح أبي. كما توقف عندها الزمن إلى الأبد، قبل أن أفاجئ نفسي يومًا أقتطعها بمقص، وأقنع أمي بوضعها هي، ولا أية صورة أخرى في إطار، لتصبح هي الصورة الثانية في بيتنا. | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:37 | |
| ربما ولدت لدّي يومها تلك الهواية السري، التي لم تأخذ بعدها الموجع في حياتي، إلاّ بعد أكثر من عشرين سنة، والتي استيقظت فجأة داخلي على أيام الانتفاضة الفلسطينيّة، عندما بدأت أقضي وقتًا طويلاً في تأمل صور الشهداء. تلك التي درجوا على أخذها فرادى أو مجموعات للذكرى قبل أية عملية انتحارية. والتي كانت تنشرها الجرائد في اليوم التالي لتعلن استشهادهم. وكنت أنا أحتفظ بتلك الصفحة من الجريدة.. عملية بعد أخرى. ثم لكثرتها قررت أن أجمعها في كيس وأضعها بعيدًا عن متناول يدي.. ومتناول نظري، كي أرتاح. وكنت قد نسيت أمر تينك الصورتين، اللتين بعد انتقالنا من تونس إلى الجزائر، لم تعودا جزءًا من ديكور غرفة استقبالنا، التي أصبحت أكثر فخامة من أن تزينها صورتان في تلك البساطة. قبل أن أعثر عليهما مصادفة ، منذ سنة تقريبًا، في غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا ، حيث تعودت أمي أن تخبئ أشياء تحتفظ بها ، منظمة ومرتبة و"مدفونة " في حقائب وصناديق حديدية ، من ذلك النوع الذي اندثر ،مذ أصبح الناس يسافرون على متن الطائرة ، والتي أتوقع أن تكون أمي قد استعملتها لنقل حاجياتنا من تونس إلى الجزائر سنة 1962 غداة استقلال الجزائر. أذكر أنني عثرت على تينك الصورتين بفرح كبير، فقد أيقظتا في شيئًا ما ، أو زمنًا ما ، لفرط بعده، ولفرط صغري، بدا لي وكأنه لم يكن. كانتا ضمن أشياء أخرى تحتفظ أمي بها هكذا، لكونها أهم من أن ترمى، وأقل أهمية من أن تشغل مكانًا في بيتنا. ترددت يومها في تركهما لغبار النسيان، وكأنني لم أصادفهما. ثم ترددت في أن آخذ واحدةً دون الأخرى. فقد كانتا ذاكرة لزمن واحد. حتى إنه لم يكن بإمكان ذاكرتي البصريّة أن تفصل إحداهما عن الأخرى. ولذا قررت أن آخذهما معًا إلى بيتي، حيث أصبح لهما مكان ثابت في مكتبي.. أمام احتجاج أمي ودهشة زوجي. لم أشعر برغبة في تقديم أية شروح أحد. فقد كانت تلك الذاكرة تخصني وحدي. وربما أنا وناصر لا غير. ولكن ناصر أيضًا فاجأني بتعامله الصامت مع تينك الصورتين . وكأنه لم يكن ثالثهما. ولم أشأ أن أستدرجه إلى اعترافات طفوليّة قد يكون ألغاها منطق الرّجولة تأملت فقط صمته أمامها، واستنتجت أنه ربما نسي ولعه الطفو لي بأحدهما، وولع الآخر الأبوي به، وأنه تركهما لي، ليصبحا قضيتي وحدي. ولكن هاجسي الأول ظلّ هو. فهو رحل منذ أكثر من شهر، وأمي تطاردني بأسئلة عنه، لا أجد لها جوابًا. _لماذا ذهب إلى ألمانيا؟ الناس يذهبون عادة إلى فرنسا.. أنا لم أسمع بأحد سافر إلى ألمانيا.. ولا ادري ماذا أقول لها. أنا نفسي لم أعرف بوجهته إلا منذ أسبوع. كان ذلك عندما حدثني على الهاتف. وكنت أزور أمي مصادفة.سألته إذا كان كل شيء كما يريد. أجاب :" الحمد لله" سألته إذا كان له عنوان أو رقم هاتف نطلبه عليه فرد أنه سيتصل بنا كلما استطاع ذلك. فهمت أنه لا يريد أن يقول شيئًا على الهاتف. ثم سألني إن كانت أمي تقيم معي منذ سفره. أجبته أنها تصر على البقاء في بيتها . قال" لا تتركيها كثيرًا بمفردها إذن.." ثم أضاف للتأكيد " أرجوك..". أمي رفضت منذ البدء، فكرة الانتقال للعيش معي في انتظار عودة ناصر. فهي ترفض ذلّ الإقامة عند صهرها. خاصّة أنها تملك شقة جميلة، وأنها متعلقة بكل أشيائها الصغيرة. ولكنها، منذ ذلك الحين، أصبحت تزداد تعلقً بي. لا تكفّ عن زيارتي، أو طلبي هاتفيّاً ، واستشارتي في كل شيء، ومرافقتي إلى كل مكان، حتى بدأت أشعر من فرط حاجتها إلي بأنني أصبحت أنا أمها. وكنت أتفهم حاجتها الدائمة إلى حناني. فهي التي ترمّلت في سن العشرين، وتيتّمت قبل ذلك في طفولتها، لا تفهم أن تطاردها الحياة حتّى ذريتها، وأن يكون قدرها أن تعيش بين ابنة عاقر.. وابن غائب. وهكذا أصبحت أستمع برحابة صدر، إلى تذمرها، وشكواها، وثرثرة أمومتها. ولا أملك إلا أن أستسلم مكرهة لكل نزواتها. حتى أنني قبلت أن أرافقها بعد ظهر اليوم إلى " الحمّام التركي" برغم أنني لم أكن أشاركها يومًا حماسها لطقوس النظافة الأسبوعية، في هذا الحمّام الجماعيّ. في الواقع كنت أتفهم منطقها. الحمّام هو المكان الذي يمكن أن تلتقي فيه بكل نساء المدينة. ومثلهنّ يمكنها أن تثرثر وتحكي ماجدّ في حياتها، وهي تباهي بمشترياتها الجديدة، وصيغتها، وثيابها التي لم يرها رجل. تمامًا كما كانت في زمنٍ مضى تستعرض أواني الحمّام الفاخرة. من طاسة فضّيّة، ومشط من العاج والفضة بأسنان دقيقة، ومناشف فاخرة مطرزة، و"صابون ريحة" مستورد، وعطور، ومستحضرات لإزالة الشعر أو صبغة، وكثير من التفاصيل النسائية التي تعودت أن أراها في طفولتي مجموعة في سطل فاخر من الفضة المنقوشة، موجود دائمًا في ركن من الخزانة. جاهز للاستعراض الأسبوعي. بعد عشرين سنة، لم تتغير الأشياء كثيرًا. صحيح أن السطل فرغ من محتوياته وانتقل الآن من خزانة أمي إلى الصالون، ليتحول وعاءً فاخرًا يحتوي نبتة خضراء تزين قاعة الجلوس.ولكن عقل أمي لم يفرغ تمامًا من محتوياته.. ولا من عقليّته الأولى. لقد تأقلم فقط مع لوازم العصر. ولم يعد هناك من ضرورة الآن لتلك الحقيبة المبطنة والمغلفة من الداخل بالساتان السماويّ، بأثواب أمي الحميمية، وتمتع بها أكثر مما تمتع بملمسها رجل. وأذكر أنني في طفولتي، كثيرًا ما كنت أفتح تلك الحقيبة خلسةً، كما نفتح صندوق العجائب. وأجلس على طرف السرير. أحلم بذلك العالم النسائيّ الذي لم أكن أعرفه بعد. أتفرج على أشياء أمي الصغيرة.. أحلم أن يكون لي يومًا جسد يشبه جسدها تمامًا، أملأ به كل تلك الأثواب الحميمية. أحلم.. أحلم.ثم أغلق على جسد أمي في حقيبة. أعيد تلك الحقيبة إلى الخزانة. وأغادر مسرعة تلك الغرفة قبل أن تفاجئني أمي الأخرى. تلك التي لا جسد لها. هيذي أمي" الحاجة" بجسدها الذي تغير منذ ذلك الحين، تسبقني كما في طفولتي. فألحق بها من قاعة إلى أخرى داخل الحمام دون جدل. في تلك القاعات المتفاوتة التدفئة، والتي تزداد حرارتها كلما اتجهت نحو الأبعد، تصر أمي على القاعة الثالثة، الأشد حرارة. ولا أجادلها، رغم كراهيتي لهذه القاعات بالذات. ألحق بها. أمشي رويدًا رويدًا على بلاط مائيّ، جاهز للتّزلج والتهشم. أذكر أنني شاهدت يومًا امرأة، تقع أمامي.. وهي ممسكة برضيع، فيفلت من يدها، ويسقط ليموت بعد ساعات في مستشفى. أدخل قاعة، يتصاعد البخار فيها من البرك الجدارية. ويعلو صراخ طفل هنا.. وضحكات نساء هناك. أمام أول بركة، أجلس أرضًا،دون سؤال. أو بالأحرى بسؤال واحد: لماذا منذ طفولتي الأولى، كنت أكره الجلوس في هذه القاعات العارية إلا من البخار والماء، والتي لا تؤثثها سوى أجساد نساء عاريات؟ ترى احترامًا للأنوثة، التي كنت أتوقعها أجمل من أجساد لم تعد لها من حدود ، ولا تضاريس "طبيعية"؟ أم لأنني منذ البدء، خلقت لأكون كائنًا من ورقٍ وحبر، تلغيه هذه الكميات الهائلة من الماء والبخار؟ تجلس أمي جواري. تضع أشياءها. أما أنا فلا أشياء لي، سوى ما تركته في الخارج من أثواب أحضرتها إكرامًا لها.. فيما لو التقينا بمن يعرفني. تزعجني هذه الفكرة. فألف حول جسدي تلك الفوطة من جديد، وأعيد ربطها حول صدري تلقائيّاً. ولكن صوت أمي يباغتني، يعيد كلمات أعرفها تمامًا، لفرط ما سمعتها في هذا الحمام نفسه، مذ أصبحت صبية تستحي من أنوثتها، وتختبئ داخل الفوطة بإصرار من يبعد عنه تهمة. هنا أنت تتعلمين من عيون الآخرين، كيف تنكرين جسدك، وتضطهدين رغباتك، وتتبرأين من أنوثتك. فقد علموك أن ليس الجنس وحده عيبًا. وإنما الأنوثة أيضًا.. وكل ما يشبهني ولو صمتًا. تصرخ أمي بي كعادتها" انزعي عنّا هذه الفوطة !" تقودني كلماتها إلى أسئلة جديدة. تراها تظن جسدي أحد أملاكها الخاصة، لأنها أنجبتني؛ ومن حقها إذن أن تستعرضه أيضًا على الناس، كأحد إنجازاتها، واجدة فيه عزاءً وتعويضًا عما آل إليه جسدها هي؟ فجأة، وجدتني أعي أحد أسباب علاقتي المعقدة البعيدة بهذا المكان. ففي هذه المدينة التي ليس فيها أي مكان لما هو حميميّ وخاص، الحمام هو المكان الذي تنتهك فيه حرمة الجسد وحياؤه. تسلط عله الأضواء، والنظرات الفضوليّة للنساء. تتالى عليه الأيدي حكّاً ودلكًا وتشطيفًا، ساكبة عليه كميّات هائلة من الماء. وكأنها تريد أن تطهره من أنوثته. فهل الأنوثة نجاسة؟ أم هل لهؤلاء النساء اللاتي يولدن ويمتن غالبًا، دون أن يتعرين تمامًا أمام رجل، علاقة شبقية ما بهذه الكميات الهائلة من الماء، التي يسكبنها على أجسادهن سطلاً بعد آخر، ساعات بأكملها دون توقف، بلذة غامضة ما، وبانشغال تام بتفاصيلهن النسائية، وكأنهن جئن هنا، ليكنّ على موعد مع أجسادهن لا غير؟ أم أن جميع النساء، هن على اختلاف أجناسهن وأعمارهن حفيدات"كليوباترا" تلك الأنثى التي حكمت بلدًا في عظمة مصر، دون أن تغدر حمامها تمامًا! .. وأنهن يعتقدن ، عن صواب أو عن سذاجة،أنهن بعد كل حمام يعدن إلى بيوتهن ملكات، على عرش ليس سوى فراش الزوجية،عرش سيحملن تاجه لبضع لحظات_في العتمة_ ويعدن بعدها لحياتهن العاديّة. العتمة..! اكتشف الآن إحدى نعم العتمة. وأنا أتفرج على أجساد مشوهة الأنوثة، مترهلة البطون، متدلّية الصدور. وأفهم أن يكون الله ، بحكمته تعالى، قد خلق _ العتمة_ أيضًا ليمنح كل مخلوقاته حق ممارسة الحب في الظلام. وإلا..فمن من الرجال، مهما جمحت به رغبته الجنسية.. أو حالته المتقدمة من السكر، سيقدر على مضاجعة نساء على هذا الشكل.. في عز النهار؟ أحتفظ بتلك التعليقات لنفسي، تمامًا كما أحتفظ بتلك الفوطة حول جسدي، وكأنني أرفض أن أختلط أو أحسب على هذا الرهط من النساء، اللاتي تجلس كل واحدة منهن الآن جوار بركة ماء، وحولها سيول سوداء، أو بلون الحناء، حسب الصبغة التي وضعتها على شعرها، والتي تقوم الآن بغسلها، محولة هي وغيرها بلاط الحمام، إلى "دانوب" متعدد الألوان. وفجأةً، تدخل الحمام ثلاث نساء. متوسطات العمر، متوسطات الجمال، لكن بإغراء وبمظهر "مميز". فقد دخلن عاريات. شاهرات أنوثتهن في وجه الجميع، بينما العادة هنا أن تدخل جميع النساء بالفوطة ولا يخلعنها إلا وهن جالسات. وفي لحظة، التفتت نحوهن الأعماق، وطاردتهن نظرات فضولية وأخرى شزرة من كل صوب. أفهم من مسبات أمي ونعوتها لهن، أنهن مومسات. مومسات، وهل مازال في هذه المدينة مكان لمهنة كهذه..؟ عدا أرصفة بعض الشوارع قليلة الحركة، حيث يحدث لبعض البائسات أن يقفن. ينقسم تلقائيا، قاعة الحمام، إلى شطرين . النساء" الشريفات" من جهة، والنساء" المشبوهات" في الطرف الآخر. الطرف الأول يلاحق الطرف الثاني بالتعليقات.. والغمزات.. ونظرات الازدراء، التي مصدرها إحساس مفاجئ بفائض عفة وشرف. بينما يتجاهل الثاني تمامًا وجود الطرف الأول. وتتصرف النساء الثلاث، وكأنهن بمفردهن. ويضحكن بصوت عالٍ ، ويتغاسلن.. ويتغازلن استفزازًا للأخريات. وجدت لذة في وجودي الشاذ بين طرفين، دون أن أنحاز أخلاقاً لأحدهما دون الآخر. وربما كنت سرًا أتسلى بكتابة بعض التعليقات في ذهني. هنا، وسط البخار والماء والشهوة.. والنفاق النسائي. فقد كنت على مسافة وسطية من العفة.. والخطيئة. هناك حيث يقف الكاتب.. وحيث يقف أي إنسان طبيعي. فأنا أدري أن كل إنسان عفيف، يحمل في داخله قدرًا كافيًا من القذارة، قد تطفو يومًا فتغرق حسناته، تمامًا كما أن في أعماق كل إنسان سيء، شعلة صغيرة للخير، ستضيء داخله يومًا ، في اللحظة التي يتوقعها الأقل . وأدري قبل كل هذا، أن بإمكان أية امرأة أن تغدو قديسة أو عاهرة في أي لحظة. لقد خلقت بنصفين معًا. ولكنها كلما انحازت إلى أحد نصفيها، تمادت في السخرية والتشهير بالنصف الآخر. تهجم أمي على ذراعي، وتبدأ في دلكهما وحكهما بعد أن نفد صبرها، رافضة أن تسلمني إلى "طيابة". تواصل متحدثة إليّ شتم تلك "الفاجرات". تقول إن العائلات الكبيرة، تعودت أن تستأجر الحمام وتحجزه مرة في الأسبوع، لتدعو القريبات والصديقات على حسابها. كل هذا، حتى تضمن عدم اختلاطها بالغرباء، وبهذه النماذج التي هجمت على قسنطينة فانتهكت حرمتها، وأهانت أهلها. لا أجيب. أتظاهر بالاستماع فقط. فقد كنت مشغولةً عنها، بمقولة لساشا غتري: " ليس هناك من نساء غير شريفات.. وأخريات شريفات. ثمة فقط، نساء غير شريفات.. وأخريات قبيحات!". يومها غادرت الحمام، دون أن يغادرني ساشا غتري تمامًا حتى أنني عدت إلى البيت عصرًا تحت المطر. وأنا أستعيد إحدى مقولاته الساخرة: " لا تمارس الحب مساء السبت.. إذ ما الذي تفعله لو أمطرت السماء صباح الأحد؟". وهي غمزة ساخرة، عن الأزواج الذين يمارسون الحب عن ضجرٍ جسدي مساء السبت، ثم لا يدرون بعدها، ماذا يفعلون بأنفسهم طوال الغد، عندما يبقون في البيت.. في يومٍ ممطر! ورغم أنه كان يوم سبت ممطرًا، فقد قررت أن أخالف ذلك المساء نصيحة ساشا غتري ، بكون السبت ليس نهاية أسبوع عندنا بل بدايته. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني ضجري، لكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي، وبي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل. طبعًا.. لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسًا على عقب. ولا توقعت أن التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس الشاذلي بن جديد، سيختار ذلك السبت بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساءً من ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحله البرلمان.. ومن ثمة دخول البلاد في متاهة دستوريّة. لم أعتب على الشاذلي بن جديد إهداره ليلتها رغبتي. فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب
قطعًا
وحده الزمن سيدلك على الصواب، عندما يفقد الآخرون صوابهم. أمّا التاريخ.. فلا تتوقع في هذه الحالات أن يقول كلمته على عجل. هو أيضًا ينتظر. ثمانية وعشرون عامًا من الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية والسبعين من عمره، ينزل. يمشي على سجاد أحمر، مذهولاً من أمره. أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا.. كان يلزمه إذن، ثمانية وعشرون عامًا ليقطعها؟! رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما هو الحقّ، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيراً، وبانت عظام وجهه وعظام أصابعه. قبل قليل. قبل التاريخ بقليل. كان اسمه محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب. يدير بيديه اللتين اخشوشنتا مصنعًا بسيطًا للآجُرّ. ويعيش بعيداً عن كلّ عمل سياسيّ. سوى ذكريات ثورة تنكّرت له، وأخبار وطن حذف حكامه اسمه حتّى من كتب التاريخ المدرسية، كزعيم أشعل ذات نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى للثورة التحريرية. اللّحظة لم يعد له اسم. مذ خطا على تراب الوطن، أصبح اسمه هو "التاريخ". أليس التاريخ "هو ما يمنع المستقبل من أن يكون أيّ شيء"؟ الآن.. لم يعد له من عمر. لقد أصبح له أخيرًا عمر أحلامه، تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر. الآن.. في هذا العمر، هو يتعلم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمش عليه يوماً بحرية ولا بأمان. فقد طاردته فرنسا فوقه أرضًا وجوًا. ولم تجد من سبيل لإلقاء القبض عليه هو ورفاقه سوى خطف طائرتهم سنة 1956، وهي تعبر أجواء البحر الأبيض المتوسط، في رحلة تقلهم من المغرب نحو تونس، فحوّلت وجهتها نحو فرنسا، واقتادت بوضياف مع رفاقه الأربعة: أحمد بن بللّة وآيت أحمد ومحمد خيدر ورابح بطاط، موثقي الأيدي نحو معتقلاتها، أمام اندهاش العالم الذي لم يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات، وأمام غضب الشارع العربي ومظاهراته، والذي كان عبدالناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسية، وملأه عنفواناً وغروراً قوميًا. حتى إن إذاعة صوت العرب من القاهرة لم يكن يلزمها أكثر من أيام لتخرج إلى العالم العربي بألحان حماسية تطالب بإطلاق سراح الزعماء الخمسة، أناشيد تلقفتها أفواه أطفالنا، وحناجر رجالنا، وزغاريد نسائنا، فردّدنا معها: "باسم الأحرار الخمسة حنرد الثار يا فرنسا.." كنّا نبكي. ووحده التاريخ كان يضحك. فهو وحده كان يدرك ما لم يكن يتوقعه أحد. فما كادت الجزائر تنال استقلالها، ويصبح "الزعماء الخمسة" أحراراً، حتى أرسل بن بللّة وقد أصبح رئيساً، من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف، في حزيران 1963، وهو يغادر بيته. واقتيد بوضياف من مكان إلى مكان. حتّى انتهى به المطاف في معتقلات ضائعة في غياهب الصحراء، حيث خبر رجل الثورة الجزائرية الأول، قبل غيره، مهانة أن يكون لك وطن، أقسى عليك من أعدائك. وهو ما اكتشفه بعده بسنتين، بن بللة نفسه. عندما جاءه بومدين ذات حزيران (أيضًا) من سنة 1965 فأزاحه من السلطة ورمى به في السجن، ليخرج منه بعد خمسة عشر عامًا عجوزاً. أمّا بو ضياف الذي لم يطالب يومًا بالسلطة، وإنما رفض منذ البدء أن يكون قد كافح ليحرر وطنًا من الاستعمار، كي يسلمه لدكتاتورية الحزب الواحد، فقد تساوى عنده الحاكمان. يوم اختفى، لم يوجد من بين رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به! كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة. فمضى بذلك القدر الهائل من الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور. تذكّروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عامًا، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا تاركين لنا وطنًا مرهونًا لدى البنك الدوليّ –مع كثير من التمني- لعدة أجيال فقط. فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من النّحافة.. والنزاهة.. ولم يجلس يومًا حول طاولة الصفقات المشبوهة للسلطة. كان لابد من اسمه ليعيد الثقة إلى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليه حكمًا بعد آخر، علي بابا والأربعون حراميّاً. جاؤوا به. قالوا له الكلمات التي لم تصمد امامها شيخوخته "الجزائر في حاجة إليك.. أنت الرجل الذي سينقذها". فقام العجوز. غسل يديه من طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائمًا أنه لا يمكن ان تبني شيئاً بالكراهية. وكان له مقدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن من نفوه ومضى نحو "وطنه". فمنذ الأزل، لم يحدث أن نادته الجزائر ولم يستجب لندائها.
ها هوذا.. يرتدي بذلة لم يتوقع أنه سيرتديها لمناسبة كهذه. يتعلّم المشي أمامنا. يتعلم الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل، كمن يعتذر عن يدٍ لم تحمل يومًا سوى السلاح.. والآجرّ، ولم تكن مهيأة لمثل هذا الدور. ها هوذا.. بوضياف. يأتينا مشيًا على الأقدام، مشيًا على الأحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنية، وجيل لم يسمع باسمه قبل اليوم. ولكنه يرى في قامته، تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافية. ها هوذا.. ليست أقدامه التي كانت تبوس تراب الوطن مع كلّ خطوة، إنما تراب الجزائر، هو الذي كان يحتفي بخطاه، ويقبّل حذاءه. فلا تملك القلوب إلا أن تهتف: أيها التاريخ توقّف.. لقد جاءنا رجل من رجالك. كان يوم 14 يناير 92 يومًا استثنائيًا، حتى في طقسه. فقد توقفت فيه الأمطار التي هطلت قبل ذلك بغزارة، وجاء يوم مشمس. وكأنّ الطبيعة تطابقت مع مشاعر الجزائريين، أو كأنها أرادت أن تتواطأ مع التاريخ، وتهدي إلى بوضياف يومه الأجمل. طوال الظهيرة، تعلقت عيون الجزائر بشاشة التلفزيون؛ الكلّ يريد أن يرى ويسمع هذا الرجل الذي دخل حزب الصمت، منذ ثلاثين سنة. ماذا تراه سيقول؟ الكلّ يريد أن يقبل، ولو بعينيه، هذا الذي ينادي رفاقه "سي الطيب الوطني" والذي تناديه قلوبنا اليوم "أبي". فمنذ موت بومدين ونحن يتامى. نعاني إفلاسًا عاطفيًا، يفوق إفلاس اقتصادنا، وعجزًا وطنيًا في المحبة، يفوق عجز مزانيتنا. نحن نبحث عن رجل له قامة عبدالناصر، وكلمات بومدين، ونزاهة بوضياف، رجل في بساطة أهلنا، يمرّر يده على رأسنا، يربت على أكتافنا، يقول لنا أشياء بسيطة نصدّقها. يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها، يبكي أمامنا عن كلّ من ماتوا، دون أن يحقق في انتماءاتهم. يعتذر للأحياء عن موتاهم.. وللموتى عن اغتيال احلامهم. رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجاهتهم.. بإذلال وطن. يقول "الجزائر قبل كلّ شيء" فيوقظ فينا الكبرياء. وتصبح كلماته البسيطة شعارنا. قطعــًــا.. منذ الأزل، كنّا ننتظر بوضياف، دون أن ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها لزوجته "كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء". وعندما سألته إن كان جاء إذن بنية الانتحار. أجابها كمن لا مفر له من قدر "إنه الواجب.. كلّ أملي أن يمهلوني بعض الوقت".
في اليوم التالي استيقظت المدينة بمزاج جاهز للجدل. واستيقظتُ بمزاج جاهز للكتابة، وكأنني لم أجد من طريقة للاحتفاء بعودة بوضياف، سوى العودة إلى ذلك الدفتر. فتحته حيث توقف بي الحبّ. وتوقف بي الحبر، منذ أربعة أشهر، عند قبلة. كانت نيتي أن أكتب شيئًا عن الحاضر، أن أصف اندهاشي الجميل أمام بوضياف. ولكن كانت عواطفي تلوي عنق قلمي نحو الماضي، وتوقظ داخلي رجلاً آخر، رجلاً أكاد لا أفتح هذا الدفتر حتى يحضر. رجل قال لي "تمنّيت أن أموت وأنا أقبلك. إذا كانت كلّ القبل تموت. فالأجمل أن نموت أثناء قبلة". ورحل. من وقتها، وأنا أغذي الذاكرة بكلماته المحمومة. كي لا تنطفئ في انتظاره نيران الجسد.
أهي الرغبة؟ أم حاجة إلى الكتابة؟ أم.. قدر يجعل دائمًا كلّ قصة فردية، موازية لقصة جماعية، لا ندري أيتهما تكتب الأخرى؟ وإلا فما تفسير تلك المفاجأة التي كانت تنتظرني بعد ثلاثة أسابيع من عودة بوضياف؟ وإذا بي، أنا التي لم يفارقني هاجس اللّقاء به، في كلّ مكان ذهبت إليه أو مررت به، أعثر عليه حيث لم أتوقعه، في بيتي، على صفحات جريدة مهملة.. ملقاة عند أقدام مكتب زوجي! أحبّ تلك الهدايا التي تقدمها لك الحياة، خارج المناسبات، فتقلب بمصادفة حياتك، حتى تلك التي كهذه يرمي لك بها القدر أرضًا. فتنحني لالتقاطها ممنونًا، لأنك تعثّرت دون قصد.. بالحبّ! وماذا لو تكون قد تعثرت بشيء آخر؟ فلم يحدث للحب أن كان مجاوراً للسياسة إلى هذا الحدّ.
* * *
في صورة تذكارية تجمع بوضياف مع أعضاء من "التجمع الوطني" أراه، وأكاد لا أصدق عيني. يتسمّر نظري عند وجهه بالذات: هذه الملامح أعرفها تمامًا، وهذه النظرة الغائبة، إنها نفسها التي استوقفتني يوم خلع ذلك الرجل نظاراته السوداء في موعدنا الأخير، ليقبلني. وهذا الشعر.. هذا الفم.. هذا الكل.. أعرفه. إنه..(هو)! أعيد قراءة ذلك المقال المرافق للصورة بعجل، ثمّ بتأنَّ، كي أجد تفسيرًا لوجود هذا الرجل هنا. أفهم أنّ بوضياف قررّ إنشاء المجلس الوطنيّ الاستشاريّ، وهو تجمّع يضمّ عددًا كبيرًا من شرائح المجتمع الجزائري، معظمهم من المثقفين والسياسيين الجزائريين المعروفين بنزاهتهم، وغيرتهم الوطنيّة. وغير المحسوبين على أيّ نظام سابق، كي يساعدوه في إخراج الجزائر من مأزقها السياسيّ والتشريعيّ. أواصل قراءة المقال في الصفحة الثالثة، التي تملأها عدة صور، مرفقة ببطاقة تعريف بعض الأعضاء. فأعجب لنسبة الكتّاب والمثقفين، اللذين اختيروا ليكونوا أعضاءً في هذا المجلس. حتّى أن أحد الذين سيتناوبون على رئاسته، لن يكون سوى الكاتب عبد الحميد بن هدوقة. وإن من أعضائه كثيراً من المثقفات والأساتذة الجامعيين والصحافيين. في بلد لم يسأل فيه المثقفون ولا النساء.. يوماً عن رأيهم. أطالع كلّ الأسماء.. وكلّ المهن. ولا أعثر على أي رسّام بين كلّ هؤلاء، حتى أكاد أقتنع أن بي هوساً، وأنني أصبحت أرى صورته في كلّ مكان، خاصةً أنني أدري بوجوده في باريس. وتبدو لي مشاركته في تجمّع كهذا أمرًا مستبعدًا، إلا إذا كان قد عاد من السفر.. ثم تخطر في ذهني فكرة، وأجدها قادرة على أن تحسم شكوكي، فأتجه نحو الهاتف وأطلب تلك الأرقام التي ما زالت يدي تحفظها عن ظهر قلب، أو قلبي عن ظهر يد. كانت الساعة التاسعة صباحاً. لم أتساءل حتّى إذا كان الوقت مناسبًا، أو إذا كان ذلك الرجل نفسه هو الذي سيردّ على الهاتف،بل إذا كانت تلك الأرقام التي كنت اطلبها بيد مرتبكة، وقلب يتضاعف نبضه.. صحيحة حقاً. فجأة أصبحت على عجل. لا وقت لي حتّى للتحقق من صحتها. أريد أن أسمعه، أو أسمع على الأقل ذلك الهاتف وهو يرنّ في بيت عرفت فيه الحبّ، فيوقظ أثاثه، ويتحرش بذاكرته. ولكن في الدقة الثانية رُفعت السماعة، وكاد قلبي معها يتوقف عن النبض. أوشك أن أقول شيئًا، ثم أنتظر أن يردّ أحد قبل أن أنطق. بعد شيء من الصمت، يأتي ذلك الصوت الذي لم أعد أنتظره لفرط ما انتظرته. تراه عرفني من أنفاسي كي يسأل دون مقدمات: -كيف أنت؟ أكاد لا أصدق ما يحدث لي. أردّ: -أأنت هنا؟ ثمّ أواصل بالاندهاش نفسه: -كيف عرفتني؟ يجيب بسخريته المحببة: -من صمتك.. الصمت كلمة السرّ بيننا. ولا أجد شيئاً أرد به سوى كلمات محمومة.. أردّدها كيفما اتّفق كمن يهذي: -اشتقتك.. كيف تخلّيت عنّي وسلّمتني إلى هذه المدينة المجنونة.. أريد أن أراك.. كيف أراك؟ أجبني. أتدري أن الحياة لا تساوي شيئاً دونك.. ماذا فعلت بي لأحبّك إلى هذا الحدّ؟ ولا يجيب بشيء، وكأنّ كلماتي لم تصله. يسألني فقط: -من أين تتكلّمين؟ أجيب: -من قسنطينة.. يواصل: -من أيّ مكان بالذات؟ أجيب: -من البيت. يردّ: -اطلبيني من مكان آخر. أسأله: -لماذا؟ لا يردّ. أسأله: -متى؟ يجيب: -متى تشائين.. أنا باق هذا الصباح في البيت. ويضع السماعة. حدث كلّ هذا في دقائق. ولم يكن يلزمني أكثر من هذه الدقائق لأعود تلك المرأة الأخرى التي كنتها قبل أشهر.
ها أنا أدخل الدوّامة نفسها من الفرح والخوف والترقب والتفاؤل.. والتساؤل. لماذا يعود هذا الرجل دائمًا عندما أكفّ عن انتظاره؟ لماذا يعود دائمًا بتوقيت الأحداث السياسية الكبرى؟ لماذا لم يعطني إشعاراً بوجوده، مادام قد عاد من فرنسا؟ ولماذا يسألني من أي مكان بالتحديد أتحدث إليه؟ ولماذا.. كما عَبْرَ نهر، يأخذني إليه دائمًا تيّار الرغبة الجارف. يدحرجني من شلالات شاهقة للجنون.. يمضي بي من شهقة إلى أخرى.. يجذبني عشقه حيث لا أدري.
جميل ما يحدث لي هذا الصباح. كأن تستيقظ من نوم شتويّ، تزيل ستائر نافذتك بكسل، وفضول من يريد أن يعرف ماذا حدث في العالم أثناء نومه. وإذا بالحبّ، يطالع جريدة على كرسيّ في حديقة بيته وينتظره! بينك وبينه، لم يكن سوى زجاج النافذة المبلل.. وفصل. وحيثما كنت، ستستيقظ حتمًا، على حبّ لا علاقة له بالفصول. المطر لن يمنعني من مغادرة البيت، فلي هذا الصباح نشرتي الجوية الخاصة. وهكذا في أقلّ من نصف ساعة، كنت قد ارتديت ثيابي.. وتهيأت للخروج. أمّي التي لم تتعود زياراتي الصباحية، فاجأها حضوري في ساعة قلّما أكون غادرت فيها السرير. ولكنّها راحت تستفيد من وجودي الذي لم تجد له من مبررا عدا ضجري، واشتياقي إليها، كي تحجزني أمام فنجان قهوة، وتبدا بسرد همومها ومتاعبها الصحية.
استمعت إليها بما أوتيت من صبر، وبما أوتيت من ذكاء أيضًا. فقد وجدت لمتاعبها حلاً فوريًا على قياسي: أن نسافر معًا إلى العاصمة للاستجمام! طبعًا قبلت أمي فكرتي بحماس. فإضافة إلى كلّ الأقارب والأصدقاء الذين بإمكانها زيارتهم هناك.. سيكون بإمكانها أن تحجزني معها في بيت واحد لعدّة أيام. وهذا في حدّ ذاته، تسمّيه أمي "تغيير جو"! كان لهذا المشروع الذي ارتجلته تواً مفعول منشط على أمي، التي ذهبت نحو المطبخ، تعدّ غداءً يتناسب مع مفاجأة زيارتي.. ومفاجأة سفرنا. أمّا أنا.. فاتجهت نحو الهاتف بالتوتر والفرحة نفسها.. لأطلب ذلك الرقم إيّاه. وبالهدوء نفسه، عاد ذلك الصوت نفسه يسأل: -كيف أنتِ؟ أجبته كمن يحلم: -الآن فقط بإمكاني أن أقول إنني جيّدة. -وكيف كنت من قبل؟ -كنت أعيش فراغًا في كلّ شيء. -احذري الفراغ.ز إنه يصنع الرداءة. -ولكنه زمن رديء على كلّ حال. -قد يصبح أجمل.. يكفي أن نثق بذلك. -أنت نفسك سبق أن قلت إنك لم تعد تثق بشيء.. أتذكر؟ قلت هذا في ذلك اليوم الذي التقينا فيه عند بائع الجرائد. -أذكر.. ولكنني اثق برجل. ولأنه عاد، عادت ثقتي بالقدر. أسأل: -أعدت من أجله أم..؟ أصمت وكأنني أمنحه فرصة اعتراف عاطفيّ ما. ولكنّه يجيب متجاهلاً إيحائي: -أجل.. عدت من أجله. -وأنا ..؟ يصمت قليلاً وكأنه لم يتوقع سؤالي ثمّ يقول: -أنتِ..؟ ويغرق في صمت آخر. أواصل: -في ذلك اليوم الذي التقينا فيه عند بائع الجرائد. أتذكر؟ نصحتني أن لا أطالع الجرائد. ومنذ ذلك اليوم.. لم أطالع جريدة. ولو لم أتصفح جريدة هذا الصباح مصادفة، لما كنت عرفت بوجودك هنا. أيعقل أن تعود دون أن تعطيني علمًا بذلك؟ -ولكنّني فعلت.. أتعتقدين أنك عثرت مصادفة على تلك الجريدة؟ لا شيء يحدث مصادفة حقًا. ثمّة أشياء لفرط ما نريدها بإصرار وقوة تحدث. حتّى يبدو لنا في ما بعد كأننا خططنا لها بطريقة أو بأخرى. -ولكنك تبدو فاتر العواطف.. غير مشتاق! ردّ بنبرة ساخرة: -بلى. أنا مشتاق وعندي لوعة.. ولكن -ولكن ماذا؟ -ولكن هاتفك في البيت مراقب.. وربما هذا أيضًا. تحاشَيْ طلبي من البيت. أفضّل أن تأتي إلى العاصمة. سيكون ذلك أفضل. أجبته بثقة امرأة: -سآتي.. ثم أضفت قبل أن ينقطع الخطّ: -حتمًا.
لنساء أيضًا كالشعوب؛ إذ هنّ أردن الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر. حتّى إن كان الذي يتحكم في أقدارهنّ ضابط كبير، أو دكتاتور صغير في هيأة زوج. حتّى الآن، لا أدري كيف استطعت إقناع زوجي بفكرة سفري إلى العاصمة للاستجمام على شاطئ البحر، في عزّ الشتاء! وكيف لم يجد في سفر كهذا شبهةً ما. أتذكّر تلك المقولة الساخرة "ثمّة نوعان من الأغبياء: أولئك الذين يشكّون في كلّ شيء. وأولئك الذين لا يشكون في شيء!". أمّا زوجي الذي يملك من التذاكي المهنيّ ما يجعله دائمًا على حذر، فقد بدأ حياته الزوجية معي، كأيّ عسكريّ، بالتجسس والتحري والاشتباه في كلّ شيء. ثمّ أمام غياب الأدلّة، أعطاني من الحرية ما فاجأني، أو ربّما بقدر ما يلزمه من الوقت كي ينصرف عنّي إلى مهامه، واثقًا من سطوة نجومه الكثيرة.. عليّ. وهذه المرة ايضًا، من الأرجح أنه مشغول عنّي بالمستجدات السياسيّة، وأن لا وقت له للتجسس على مشاغلي النسائيّة، التي حتّى الآن، لم يكن فيها ما يستحق الإخفاء والحذر. مشكلتي الآن مع "الآخرين"، أولئك الذين عوض التنصّت إلى الإرهابيين.. يتنصّتون إلى هواتف العشّاقّ! ساعة في طائرة، لا أكثر، وإذا بي أبتعد عن قيودي بمئات الكيلومترات. وأعود إلى ذلك البيت نفسه الذي جئته منذ أربعة أشهر مع فريدة. بيت أسميته بيت الحلم، فهنا كلّ شيء يصبح ممكناً كما في الأحلام. ما كدت أصل، وأضع شيئًا من الترتيب حولي حتّى أسرعت إلى الهاتف. وجاء ذلك الصوت بحرارة هذه المرة يؤكد لي أنني لا أحلم. -أخيراً أنتِ.. لو تدرين كم افتقدتك.. سأراك غدًا.. أليس كذلك؟ كلمات، وسؤال لا أكثر، ويصبح العالم أجمل، وتصبح الأسئلة أكبر. ولكن لا وقت لي للإجابة عنها؛ مأخوذة أنا بهذه الحالة العشقيّة.. مأخوذة حدّ الأرق. مقولة لبودلير منعتني من النوم. "كلّ إنسان جدير بهذا الاسم، تجثم في صدره أفعى صفراء، تقول (لا) كلما قال (أريد)". قضيت ليلتي في محاولة قتل تلك الأفعى. اكتشفت قبل الفجر بقليل أنّ "لا" أفعى بسبعة رؤوس، وأنك كلّما قتلتها، ظهرت لك "لا" أخرى، شاهرة في وجهك –لأسباب أخرى- أكثر من حرف نهي وتحذير. وبرغم ذلك، غفوت وأنا أقرض تفاحة الشهوة، على مرأى من رؤوسها. لي موعد مع "نعم". وكلّ شيء داخلي يعيش على مزاج "نعم". صباح "نعم" أيها العالم. صباح "نعم" أيها الحبّ. يا كلّ الأشياء التي تصادفني والتي اصبح اسمها "نعم". يا كلّ الكون الذي يستيقظ جميلاً على غير عادته: من نقل إليك خبر "نعم"؟ أيّتها الأغاني التي يردده المذياع هذا الصباح.. وكأنه يدري ما حلّ بي. أيتها الطرقات المشجرة التي تمتد أشجارها حتى قلبي، أيتها الطاولات التي تنتظر على رصيف شتويّ عشاقها، أيتها الأسرة غير المرتبة، التي تنتظر في مدن "نعم" متعتها. أيّها الليل الذي مساؤه "ربّما". صباحك "نعم". فكم كان مساؤك "لا" يا أيها المساء! في اليوم التالي استيقظت من ليل تقاسمته مع بحر شتويّ هائج. وبداته بصباح مفخخ بأسئلة أمّي ومشاريعها. ولكنني نجحت في إحباط كلّ برامجها المشتركة بكذبة. وذهبت نحو مشروعي الأجمل. انطلقت بي السيارة ظهرًا، سالكة طريق الحبّ نفسه. الذي بدا لي أطول رغم سرعة السائق، ورغم خلوّ الطرقات هذه المرّة، من حواجز التفتيش. شعرت بالاطمئنان، وأنا أرى الشوارع قد عادت إلى حياتها الطبيعيّة. وفرغت من المتظاهرين، والملتحين، واختفت منها اللافتات، والهتافات. ولذا، نزلت عند ساحة الأمير عبد القادر. وواصلت طريقي مشيًا على الأقدام. رقم.. رقمان.. بناية.. بنايتان. وطوابق أربعة أصعدها بسرعة سارقة، وبلهفة عاشقة. شوق يركض بي.. قلب تسرع دقّاته. وباب ينفتح من دقة واحدة، وينغلق خلفي. باب يفصلني عن مدينة "لا" ويدخلني عالم "نعم". رجل لا اسم له ينتظرني. يتأملني. يضمني. وقبلة خلف باب مغلق توّاً على فرحتي تسمّرني بين عالمين. يسألني وهو يراني ألتقط أنفاسي: -هل وجدت صعوبة في الوصول إليّ هذه المرّة؟ وأجيب: -الأصعب كلّ مرة أن أجتاز هذا الباب.. ثمّ اواصل بعد شيء من الصمت: -دخولاً .. وخروجًا! يردّ بشيء من السخرية: -ابقي هنا إذن! أرتمي متعبة على الأريكة. أقول: -احجزني رهينة عندك.. أيمكنك هذا؟ يجيب ساخرًا: -كلنا رهائن. -رهائن من؟ أتوقع أن يقول "رهائن الحبّ".. ولكنّه يقول: -رهائن الوطن.. أردّ بشيء من العصبية: -أرجوك.. دعني من السياسة. أنا لست هنا لأحدثك عن الوطن. أنت لا تعي كم أنا أجازف للوصول إليك.. فقط لأعيش لحظة حبّ. -ولكن ليس ثمّة من حبّ خارج السياسة. ألم تفهمي هذا بعد؟ أصمت لأنني لم أفهم. ولا أريد أن أفهم. لماذا تصبح السياسة طرفًا ثالثأ في كلّ علاقة؟ لماذا تنام في سرير الأزواج، وفي سرير العشّاق؟ لماذا تتناول معنا فطور الصباح.. وكلّ وجبات النهار. وترافقنا إلى زيارة الأحياء والأموات من أهلنا؟ لماذا تسبقنا إلة مدن الحلم، وحال وصولنا، تجلس معنا على الأريكة. ولماذا تبعث بقريب إلى الغربة، وتعود متى شاءت بمن نحبّ؟ أقول: -ربّما كنت على حقّ.. في النهاية السياسة هي التي عادت بك. ثمّ أواصل: -لحسن حظّ الحبّ. -وماذا لو كان العكس؟ -لا أصدّق أن تكون قد عدت من أجلي.. -أنا لم أقل أنني عدت من أجلك.. لنقل إنني عدت كي نواصل كتابة الرواية معًا.. أليس هذا الذي يعنيك؟ -ربّما.. ولكن لا أفهم أن يعنيك أنت إلى هذا الحدّ. يضحك: -طبعاً يعنيني.. لأنني لا أريد أن أخلف نهايتي، أريد لنا نهاية جميلة. -حقًا؟ -طبعًا.. مهمّة هي النهايات، في الكتب كما في الحياة. أقاطعه: -أتدري ما يعنيني الآن بالتحديد؟ يعنيني أن أعرف من تكون. ولا شيء غير هذا. منذ ذلك اليوم وأنا أشتري كلّ الجرائد، أتفحّص كلّ الصور، أطالع كلّ المقابلات السياسية التي يدلي بها أعضاء المجلس الوطنيّ. أعرف حياة الجميع. أقرأ تصريحاتهم جميعًا حول كلّ شيء، ولا أقرأ شيئًا لك.. لماذا؟ يردّ ساخراً: -لهم نياشين الكلام.. ولي بريق الصمت. -ولكن مع ايّ جهة أنت؟ إلى أيّ حزب تنتمي؟ يردّ: -السؤال الحقيقي. هو عمّ انت منشق. وليس إلى أي حزب تنتمي. لا أملك إلا أن أتبع منطقه في قلب الأسئلة. أسأل: وعمّ انت منشق؟ يصمت وكأنّ السؤال فاجأه. ثمّ يجيب: -لي أكثر من جواب عن سؤال كهذا. لنقل إنّني منشق عن أحلامي. أنا الشاهد الأخير يا سيدتي على الأفول العربيّ. قضيت عمري على شرفة الخيبة. أتفرج على غروب أحلامي وطنًا.. وطنًا، بما في ذلك وطني. أفهمت لماذا كان لابدّ أن لا أخلف نهايتي في هذه القصّة؟ تسألينني عن سرّ صمتي، أنا رجل كنت قبل مجيء بوضياف فارغًا بلا أحلام. كلّ أحلامي كانت خلفي. -وأنا؟ -أنتِ؟ -أين تضعني في كلّ هذا؟ -أضعك تمامًا حيث أنتِ الآن. -أي..؟ -أي على ورق. أحلامي معك، كمشاريعك معي لا تتجاوز مساحة صفحة. حتّى عندما تكون هذه الصفحة في حجم سرير. إنه قدرنا.
هذا الرجل يتقن الكلام، إلى درجة يمكنه معها أن يمرّ بمحاذاة كلّ الأسئلة، دون أن يعطيك جوابًا، أو هو يعطيك جوابًا عن سؤال لم تتوقع أن يجيبك عنه اليوم بالذات، وأنت تطرح عليه سؤالاً آخر.
وهكذا ها هو يجيبني عن سؤال كان يشغلني في البدء. بل كان سببًا لبدء هذه القصة، يوم كان همّي أن أعرف لماذا دخل هذا الرجل دير الصمت، واختصر اللغة حتّى لم تعد تتجاوز بضع كلمات تراوح بين "حتمًا" و"قطعًا" و"طبعًا" و "دومًا" وكأن كلّ الحياة يمكن أن تختصر بها. لماذا حوّل العالم كلماتٍ قاطعةً، والحبّ كلماتٍ متقاطعةً، يصعب على أية امرأة أن تجاريه فيها أو تهزمه؟ وأنا التي دخلت معه هذه المبارزة اللغوية، ككاتبة تحترف الكلمات، وترفض أن يهزمها "بطل" في عقر دارها، وفي كتاب هي صاحبته، ها أنا أهزم أمامه شوطًا بعد آخر، وأتورط معه سؤالاً بعد آخر، بعدما أصبح كلّ سؤال يوصلني إلى أسئلة أخرى.
ومنذ البدء كنت أدري تمامًا أن الأسئلة توّرط عشقيّ. ولكن.. لم أكن أعرف أنه، مع هذا الرجل بالذات، تصبح الأجوبة أيضًا انبهاراً لا يقلّ تورطًا. أحبّ أجوبته، وأعترف أنني كثيرً ما لا أفهم ما يعنيه بالتحديد. كثيرًا ما يبدو لي وكأنّه يحدّث امرأة غيري عن رجلٍ آخر. ولكنني أحبّ كلّ ما يقول، ربّما لأنني مأخوذة بغموضه. أقول وأنا أعبث بيده: -أحبّك.. حرّرني قليلاً من عبودّيتك. يحتضنني ويسحبني نحوه قائلاً: -الحبّ أن تسمحي لمن يحبّك بأن يجتاحك ويهزمك، ويسطو على كلّ شيء هو أنت. لابأس أن تنهزمي قليلاً.. الحبّ حالة ضعف وليس حالة قوة. -ولكن.. -ولكن.. لأنك لم تعي هذا، أن تتكررين خطأً سبق أن ارتكبته في كتاب سابق. أريد أن أسأله متى حدث هذا، وفي أيّ كتاب، ولكن شفتيه تسرقان أسئلتي وتذهبان بي في قبلة مفاجئة.. كأجوبته. فأستسلم لاجتياح شفتيه لي. وكأنني أريد أن أثبت له، مع كلّ مساحة تسقط تحت سطوة رجولته، كم، كم أنا أحبه. في الواقع، لم أكن املك القوة، ولا الرغبة في مقاومته. كنت أجد متعتي في اندهاشي به، وهو يضع مفاتيحه في الأقفال السرّية لجسدي. في المتعة كلمة سرّ، وشيفرة جسدية، تجعل من شخصٍ عبداً للآخر دون علمه. وهذا الرجل الذي لم يستعمل معي سوى شفتيه، من دلّه على متعتي، كي يسلك ممرات سرّية للرغبة، لم تعبرها شفتا رجل قبله؟ ثمّ فجأة وضع قبلتين متلاحقتين على فمي. كما يضع نقاط انقطاع بعد جملة مفتوحة، ونهض ليبحث عن علبة سجائر. اغتنمت فرصة انشغاله. فاتجهت نحو الحمّام كي أجدّد هيأتي. تأمّلت دون اهتمام تفاصيل أشيائه الرجالية، التي استوقفني منها على رفّ المغسلة، زجاجتا عطر من النوع نفسه، إحداهما مفتوحة، والأخرى مازالت مغلفة بورقها الشفّاف. سحبت تلك المفتوحة. ورحت أتأملها بفضول من وقع على سرّ. تذكّرت كلّ تلك المرات التي كنت سأسأله فيها "ما اسم عطرك يا سيّدي؟". تذكّرت أيضاً أن قصتي مع هذا الرجل، ولدت بسبب كلمة وعطر. وربما بسبب هذا العطر وحده. الذي لولاه لما استدللت عليه. كنت لا أزال ممسكة بتلك القارورة، عندما عبر الممر، متجهاً نحو المطبخ. سألته ممازحة، وأنا أجرب العطر على كفّي: -ألأنني أبديت إعجابي بعطرك، أصبحت تشتري منه قارورتين دفعة واحدة؟ ردّ ضاحكاً: -لا.. لقد أحضرت معي هاتين القارورتين من فرنسا.كلّما سافرت أحضرت واحدة لي، وأخرى لصديقي عبد الحق. في الحقيقة، هو الذي جعلني اكتشفه. إنه لا يستعمل غيره. كنت على وشك أن أغادر الحمّام عندما عاد وكانه تذكر شيئاً. ثمّ قال وهو يمدني بتلك القارورة المغلقة: -أعتذر، لأنني لم أحضر لك شيئاً معي. لقد عدت على عجل. هل تسمحين لي بأن أهدي إليك هذا العطر؟ يقال إن المرأة تحبّ استعمال عطر الرجل الذي تحبه.. ضعيه كلّما اشتقتِ إليّ. قلت وأنا أتسلم منه تلك القارورة: -لم أكن اعرف هذا.. تبدو لي الفكرة جميلة. ولكن أخاف أن تلزمني قارورة كلّ أسبوع إذا كان الأمر يتعلّق بالشوق! ثمّ أضفت مستدركة: -وصديقك؟ أجاب: -لا تهتمي.. سأتّدبر أمره. سعدت بتلك الهديّة. شعرت أنني أطوق هذا الرجل موعداً بعد آخر. أتسلل إلى عالمه الحميميّ من حيث لا يتوقع، وأسطو على كلّ ما قد يدلّني عليه. عدت إلى قاعة الجلوس. كان يدخّن بهدوء على الأريكة المقابلة لي. وكأنه قرّر أن يتأملني. أو يتأمل ما فعله بي في عمر قبلة. أخفيت تلك القارورة في حقيبة يدي، بفرحة تشبه تلك التي احسست بها يوم أخذت منه كتاب هنري ميشو. عساني أكتشف أخيرًا من يكون. وجدتني أقول له دون تفكير وأنا أعيد الحقيبة إلى مكانها. -أتدري ماهو اجمل شيء يمكن أن تهديه إليّ؟ ردّ وهو يواصل تدخين سيجارته، واضعًا قدميه على طرف الطاولة: -ما هو..؟ قلت: -الحقيقة! أيمكنك أن تهدي إليّ الحقيقة؟ من حقّي أن أعرف من تكون. ردّ ساخراً: -أجّلي خيبتك قليلاً! واصلت بإصرار: -ما اسمك؟ هل صعبٌ إلى هذا الحدّ أن تبوح لي باسمك؟ ردّ ضاحكاً: -لا.. ولكن أيّ الاسمين يعنيك؟ قلت: -وهل لك اسمان..؟ لماذا؟ ردّ: -لأننا نعيش في عصر، حتّى الدول والأنظمة والأحزاب، غيّرت فيه أسماها في ظرف سنوات قليلة، وبجرّة قلم. أي بما يعادل لحظة من عمر التاريخ. في روسيا وحدها توجد ثمان وعشرون مدينة غيّرت اسمها. بما في ذلك لنينغراد. ولماذا لا نستطيع، نحن الناس البسطاء، أن نفعل ذلك عدما نغيّر معتقداتنا.. أو عندما يطرأ على حياتنا ما يغيّر مجراها؟ أتدرين.. تعجبني حكمة الصينيين، وذلك التقليد الجميل، الذي يتّبعونه في اختيار اسم جديد لهم، في آخ حياتهم. كأنهم، وقد خبروا الحياة، أصبح بإمكانهم أن يختاروا اسما يناسبهم لحياة أخرى. في النهاية، إنّ الأسماء التي تشبهنا تهبنا إيّاها حياتنا. أمّا تلك التي نأتي بها الحياة، فكثيراً ما تجور علينا. لنقل أنني أعجبت بهذه الفكرة، وقرّرت أن أكون رجلاً باسمين. جوابه كالعادة لا يحمل أيّ جواب. وإنما قدرة مدهشة على تحاشي الأسئلة. ولكنّني لا أستسلم. بل أطارده بإصرار. -أعطني أيّ اسم شئت. أريد اسماً أناديك به. يجيب بنبرة عادية: -اسمي خالد بن طوبال. أرددّ مذهولة: -خالد بن طوبال؟ ولكن.. يقاطعني: -أدري.. إنّه اسم بطل في روايتك.. أعرف هذا ولكنّه أيضًا اسمي.. أجلس على طرف الأريكة. أتفرّج على رجل أتعرّف إليه. وأستعيد آخر، عرفته يومًا في كتاب سابق. كان أيضًا رسامًا من قسنطينة. رجل أعرف كلّ شيء عنه، كما لو كان أنا. ولم تفصلني عنه سوى الرجولة، وجسد شوّهت الحرب ذراعه اليسرى. أيعقل أن يكون هو؟ أتأمله دون أن أصدق هذا. أتوقع أن يقول شيئاً. ولكنّه لا يفعل. يواصل تدخين سيجارته بالهدوء نفسه. في لحظة ما، أشعر أنني أقترب من الحقيقة، ولا يفصلني عنها سوى سؤال واحد. "هل خالد بن طوبال هو اسمه الأول أم اسمه الثاني؟". والجواب عن هذا السؤال سيكون مخيفًا وحاسمًا، لأنه سيقلب كلّ مقاييس هذه العلاقة، ومعها هذه القصّة. ولذا تماديًا في الغموض والمراوغة.. لا أتوقع أن يجيبني عنه بسهولة. أسأله: -هل هذا هو الاسم الذي يناديك به أصدقاؤك وزملاؤك في الشغل؟ يردّ: -طبعاً.. وهو أيضًا الاسم الذي أوقع به مقالاتي. ثمّ أمام دهشتي. يمدّني بجريدة على مقربة منه. ويدّلني على مقال سياسيّ يحمل توقيع خالد بن طوبال. آخذ منه الجريدة غير مصدّقة لما أرى. طبعًا، كنت توجست من مطالعتي لكتاب هنري ميشو أن يكون صحافيّا وأذكر تماما، ذلك البيت لهنري ميشو: "في انتظار الشمس، تعلّم أن تنضج في الجليد". والذي أضاف أسفله، بقلم أزرق (أو في جريدة)!. ولكنّني لم أتوقف طويلاً عند البيت الآخر. "ليس لي اسم اسمي تبذير للأسماء" والذي وضع تحته سطرين. وكأنه البيت الذي يشبهه الأكثر. بقيت ممسكة بالجريدة، بينما واصل هو تدخين سيجارته متجاهلاً نظراتي. وربّما تماديًا في التجاهل، أشعل جهاز التلفزيون. وها هوذا يغرق في متابعة تحقيق أخباري حتّى كاد ينسى وجودي معه. كان التلفزيون يعرض تغطية مباشرة للجولة التي يقوم بها بوضياف في الوطن، لشرح مبادئ التجمّع الوطنيّ. كان بوضياف يخطب ملوحًا بيده: "إنّ في هذا البلد مافيا ومسؤولين استحوذوا على أموال ليست لهم. اعدكم بإعلان حرب حقيقية على هؤلاء. إن العدالة ستدرس كلّ الملفات. وستقوم بدورها. وإنني أطلب من المواطنين أن يساعدوا العدالة في ذلك.. أن يكتبوا إليها.. ويزودوها بكلّ ما لديها من معلومات.. لن يكون هناك بعد الآن من أحد فوق العدالة، العدالة ستطول الجميع. فمن حقّ الشعب أن يعرف الحقيقة. من حقه أن يعرف أين ذهبت أموال هذا الوطن.." كان لكلمات بوضياف المرتجلة، في ذلك النقل المباشر، والتي ألهبت الحضور هتافات وزغاريد، ما جعل مزج جلستنا يتغيّر بعض الشيء، قبل أن يكسر ذلك الرجل الصمت بيننا.. ويتوجّه نحوي معلقًا: -لن يتركوه ينجز ما جاء من أجله.. أنا واثق من هذا.. لا أدري بالتحديد ماذا كان يعني. فقد كان ذهني ما يزال مشتتّاً، ولكنّني سألته بنية مدّ الحديث: -لماذا؟ أجاب بلهجة تهكمّية: -لماذا؟ لأنهم لم يأتوا به ليفتح الملفات الملغومة، وإنما واجهة يواصلون خلفها حكم الوطن ونهبه. ولذا يقول المقربّون منه، إنه يغلق على نفسه ساعات طويلة في النهار والليل. إنه يبحث عن الحقيقة التي يريد أن يهديها إلى الشعب بعد ثلاثة أشهر.. بمناسبة عيد ال | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 11:46 | |
| بمناسبة عيد الاستقلال. ثمّ يواصل بعد شيء من الصمت: -تبحثين عن الحقيقة؟ الكلّ يبحث عن الحقيقة.. ولكنّ الكلّ يخافها. أتدرين لماذا؟ أتمتم: -لماذا؟ يطفئ سيجارته في المنفضة ببطء، وكأنه يسحقها. ثمّ يقف فجأة، ويشرع في فكّ أزرار قميصه الواحد تلو الآخر بيد واحدة. أتذكّر أنّني لم أره يومًا يستعمل معي إلا يده اليمنى. يذهلني هذا الاكتشاف المتأخر، والذي يعيدني إلى ذلك البطل في روايتي. وقبل أن اتمادى في تفكيري، أراه يلقي بقميصه على الأريكة المجاورة. ويواجهني بصدره العاري قائلاً وكأنّه يواصل الحديث عن أمر آخر: -لأنّ الحقيقة تعبّر عن نفسها دائماً بشكل رديء! ثمّ يتابع بعد شيء من الصمت: -وأحياناً بشكل قاتل، حتّى عندما لا تتعدّى جريمتها قتل أوهامنا. أنتبه فجأة لذراعه اليسرى. التي تبدو مصابة بشلل يمنعها من الحركة، بينما تظهر أعلاها بعض التشويهات، وكأنّ عملية جراحية أجريت لها في موضعين أو ثلاثة، دون أية مراعاة جمالية. تنتابني قشعريرة، وحالة من الذعر، ليس مصدرها ما أرى. وإنما خوفي من أن أكون قد بدأت أجنّ، ولم أعد أعرف الفاصل بين الكتابة والحياة. ...أو كأنني حلمت يومًا بأن ما يحدث لي سيحدث. وها هوذا يحدث فعلاً. وإذا بي أمام رجلٍ خلقته، وشوهته بنفسي. كنت أعي أنه يختبرني. ويتابع وقع المفاجأة عليّ بحساسية مفرطة. فتداركت ارتباكي وقلت بنبرة صادقة: -لا يعنيني ما تعتقده اللحظة. ولكن ثق أنني أحبك كما أنت. وإلا لما كنت خلقت رجلاً يشبهك تماماً لأعيش معه سنوات في كتاب. ردّ ساخرًا: -لقد مارست دائمًا بجدارة صلاحيات الحبّ في التدمير! قلت: -بل مارست صلاحيات الكاتب في التخيّل ليس أكثر. ردّ: -كفّي عن التخيل.. كلّ الذي أجهدت نفسك في خلقه.. قد سبقتك الحياة إليه. الإنجاز الوحيد بالنسبة إلى كاتب، هو ما يتركه في كتابه من بياض. كلّ صفحة بيضاء في كتاب، هي مساحة مسروقة من الحياة، لأنها تصلح بداية لقصّة أخرى أو كتاب آخر. ومن هذا البياض جئتك.. وليس ممّا تتوقّعينه أدباً. قلت متحاشية الدخول معه في جدل: -لا يعنيني أن أعرف من أين جئتني.. كلّ ما أدريه أنني أريدك. ردّ ساخرًا: حقًا.. توقعت أنك تريدين الحقيقة ! أجبته بشيء من العصبية: -أيّ اعتراف تريد منّي بالتحديد؟ ردّ بالسخرية نفسها: -أنا لا أريد منك أيّ اعتراف؛ يعنيني فقط أن تكوني صريحة مع نفسك، وتعترفي ولو لها، أن ما يحدث بيننا كرجل وامرأة يعنيك بالدرجة الأولى. وأنّ هذه القصة من دونه لا تستحقّ مشقة الكتابة. -ثمّ؟ -ثمّ لا شيء.. عدا كونك تمّرين بمحاذاة هذه الحقيقة الكبرى، وتنشغلين بالبحث عن حقيقة أخرى، أقلّ أهمية، تدور كلّها حول سؤال واحد "من أكون؟". السؤال الأهم في اعتقادي هو "لماذا أنتِ هنا؟". حشرني في المربع الأخير للاعتراف. ولم أجد ما أجيب به سوى: -أنا هنا.. لأن واجبي ككاتبة هو البحث عن الحقيقة.. وكامرأة.. من الطبيعيّ أن أبحث عن الحبّ. ولكنني معك لم أعد أحسن التمييز بينهما. ردّ بنبرة أستاذ: -سأدّلك على طريقة، تتعرفين بها عليهما دون خطأ. فالحقيقة تعبّر دائماً عن نفسها بشكل بشع، والحبّ يبدو دائماً أجمل مما هو! كان يتحدّث إليّ، وهو يرتدي من جديد قميصه، ويده اليمنى تحاول بصعوبة إدخال تلك الأزرار. وبدل أن أساعده على تزريرها، امتّدت يدي تخلع عنه القميص. وراحت شفتاي تتدحرجان على مساحة صدره. ثمّ تنزلقان نحو ذراعه الثابتة مكانها، فتكسوها قبلاً، بشراسة العشق الذي هو وحده قادر على جعل أية حقيقة.. جميلة في بشاعتها ! عندما غادرته، انتابتني أحاسيس متناقضة تراوح بين المتعة، والخيبة، والاندهاش الجميل والمؤلم في الوقت نفسه. أن تذهب إلى موعد حبّ، وإذا بك مع شخص خارج توًا من كتابك، يحمل الاسم نفسه، والتشويه الجسدي نفسه لأحد أبطالك، وأن تبقى برغم ذلك على اشتهائك نفسه له، لا بدّ أن يترك في نفسك كثيرًا من فوضى المشاعر.. وفوضى الأسئلة، خاصة عندما ترى اسمه، كما اخترعته أنت، وأجهدت نفسك للعثور عليه، قد غادر كتابك، وأصبح مكتوبًا، أسفل مقال صحافيّ على جريدة، كاسم لرجل لا علاقة له بك، لولا تلك الخصوصية الثانية التي تذهلك: كيف يمكن أن يكون معطوب الذراع أيضًا.. كبطلك؟ ما يدهشني هو كون هذا الرجل، يواصل معي قصة بدأت في رواية سابقة، وكأنّه يعيد إصدارها في طبعة واقعيّة. من نسخة واحدة. حتّى أنّه يوم قبّلني لأوّل مرّة، أمام مكتبته، قال "نحن نواصل قبلة.. بدأناها في الصفحة 172 من ذلك الكتاب.. في هذا المكان نفسه". وعدت إلى كتبي، بحثًا في رواياتي عن الصفحة 172 في كلّ كتاب. وعثرت على تلك القبلة، مطوّلة مفصلّة، مرتجلة، كما حدثت ذات يوم بين ذلك الرسام، وتلك الكاتبة. ثمّ عندما استعرت منه كتاب هنري ميشو، قال إنّه يخشى أن يكررّ معي حماقة حدثت في كتاب سابق، ملمّحاً إلى حبّ البطلة في تلك القصّة لصديق البطل.. بسبب كتاب. أمّا أنا فانتبهت أنّني كنت أكرّر في الحياة تصرّفات تلك البطلة بعد قبلة، وأستعير كتابًا. كلّ شيء كان يعيدنا منذ البدء، إلى تلك القصّة، بما في ذلك المدينة التي جمعتنا. بل حتّى في حديثه عن الجسور.. وعن قسنطينة، ثمّة رجوع ما، أو تراجع متعمد، عن كلّ ما قاله ذلك الرسّام في تلك الرواية. وكأنّ المسافة الزمنية قد جعلته يراجع أراءه، ويصحّحها، عن خيبة وتطرّف عشقيّ. وبرغم كلّ هذا، يبقى الأمر مربكًا. فأنا لا أريد أن أصدق أنّ ذلك الرجل الذي ما انفك منذ ستة أشهر يقلب حياتي رأسًا على عقب، هو خالد بن طوبال، ذلك الكائن الحبريّ الذي خلقته منذ عدّة سنوات. ثمّ نسيته داخل كتاب. ألقيت به إلى جوف مطبعة كما نلقي بجثة إلى البحر، بعد أن نثقلها بالصخور، حتّى لا تعود إلى السطح، ولكّنه عاد. هذا الكائن أعرفه عن ظهر قلب. فقد عشت معه أربع مائة صفحة وما يقارب الأربع سنوات. ثمّ افترقنا. انتهى عمره مع آخر سطر. وبدأ عمري دونه منذ ذلك الحين. ولكن من منا كان يبحث عن الآخر، خلال كلّ ذلك الوقت؟ ومن منّا ترى كان الأحوج إلى الآخر؟ أذكر مقولة لروائيّ سئل "لماذا تكتب؟" فأجاب ساخرًا "لأن أبطالي في حاجة إليّ.. إنّهم لا يملكون غيري على وجه الأرض!". طبعًا كان يرواغ. ويقدّم اعترافًا بيتمه دونهم. فكلّ روائي هو في النهاية يتيم.. ومخلوق عجيب، تخلّى عن أهله، ليخلق لنفسه عائلة وهميّة، وأصدقاء وأحبّة، وكائنات حبرّية، يعيش بينها، مشغولاً بهمومها، محكوماً بمزاجها، حتّى لكأنّه لا يملك على وجه الأرض غيرها ! فأين العجب في أن يصبح هذا الرجل كلّ عائلتي، ويشغل مكان زوجي، وأخي، وأمي.. وكلّ من يحيطون بي؟! في الواقع، كان عجبي الوحيد أن أتعلق بهذا الرجل بالذات، من بين كلّ من خلقت من أبطال، وإن يقع بيغماليون في حبّ تمثال خلقه بيده، وكان آية في الكمال، فهذا الأمر يبدو منطقيّاً، كما جاء في الأسطورة. أمّا أن يحبّ نحّات التمثال الذي أخفق في خلقه، ويحبّ روائي البطل الذي شوهه بنفسه.. فهنا تكمن الدهشة. ذلك المساء.. توقّعت أن يكون في جلوسي إلى أمي الحلّ الأمثل للهروب من نفسي؛ فقد كنت أهملتها بعض الشيء، بعد أن أغريتها بالاتصال ببعض معارفها في العاصمة.. وأعددت لها برنامجًا على قياس حرّيتي. كانت سعيدة، أو ربما بدت لي كذلك، وهي تحدّثني عن قريبة بعيدة، تعقد قران ابنها في نهاية الاسبوع، وتدعونا لحضور احتفال الزواج، ولم يعد صعبا أن أتوقع برنامجها للأيام القادمة. أمّي تعيش دائمًا بين عرسين، أو حجتين، أو نذرين. وحيثما حلّت، تعثر على من يوشك أن يزوّج قريبًا، أو من له قريب عائد توًا من العمرة أو الحج. أو "شيخ".. يدعوها ل"وعدة" أو "زردة" ! وبرغم هذا، لم تكن سعيدة تماما، قد كان ينقص سعادتها شيء اسمه "ناصر". قبل اليوم كانت تتمنى أن تزوجه، ويمتلئ البيت بكنّة تتحكم فيها. وبأحفاد تربّيهم وتتسلّى بهم. أمّا الآن وقد رحل ناصر، فقد أصبح كلّ زواج يعيدها إليه، بل أصبحت لا تريد أكثر من عودته ليقاسمها ما بقي من العمر. وأكثر ما كان يؤلمها في سفر ناصر أنّها لم تكن مهيأة له. فلا شيء في طبع ناصر ولا في نمط حياته، كان يوحي بأنه قد يأخذ قراراً مفاجئاً وحاسماً كهذا. منذ سافر ناصر، من ثلاثة أشهر، وأنا أحاول أن أجيب أمّي عن السؤال نفسه الذي أخفي عليها دائمًا نصف حقيقته. هي تسأل: -لماذا سافر أخوك يا ابنتي؟ أخبريني؛ أنت يقول لك كلّ شيء. وأنا أجيب: -لقد سافر لأنه غير مرتاح في هذا البلد..يريد أن يجّرب حظه في الخارج مثله مثل الآخرين.. ولكنّه سيعود.. لقد وعدني بذلك. -ولكن متى؟ بعد أسابيع؟ بعد أشهر؟ بعد سنوات؟ ولا أملك إلا أن أجيبها: -عندما تهدأ الأوضاع قليلاً.. وتتحسن الحاله.. فتردّ: -أية أوضاع؟ وأية حالة هذه التي ستتحسن؟ ألم تسمعي بما حدث منذ يومين في البليدة.. لقد روت لنا امرأة اليوم أنهم.. وأقاطعها: -لا أريد أن أعرف.. لا تقصّي عليّ أيّ شيء أرجوك.. لم أكن أريد أن تفسد عليّ أمي ليلتي بأخبار الموت، كما تعودت أن تفعل ليلا، بين حين وآخر، عندما كانت تطلبني هاتفيا عن ضجر، أو عن خوف، ولا تجد ما تقصه علي إلا قصصا لم أشاهد مثلها حتى في أفلام الرعب. وكانت قد شاعت فجأة بدعة تشويه الجثث، والتمثيل بها، كي لا ترتاح نفوس أصحابها، ولا تدخل الجنة، وكي يعتبر بها "الكفار" أو أولئك الذين يعملون في خدمة "الدولة الكافرة". وهي صفة لا تعني غالبا، سوى رجال الأمن، وبعض البائسين من شرطة السير، الذين انقرضوا في بضعة أشهر رميًا بالرصاص، وذبحًا ومطاردة حتّى المقابر، حيث اغتيل العديد منهم وهو يرافق قريبا إلى مثواه الأخير. أما أولئك "الأذكياء" الذين جاؤوا لزيارة موتاهم بعد يومين أو أكثر. فقد فوجئوا بمن ينتظرهم ليلا ونهارا خلف القبور، وذهبت بهم المفاجأة في مقبرة، فكل القبور هنا مفتوحة تنتظر تهمة لتنغلق على أحد. فماذا يمكن لأمي أن تضيف إلى مسلسل الرعب الذي أتابعه مذهولة كل يوم، مثل كل سكان هذا البلد؟ فجأة سألتني أمي وقد عادت إلى هاجسها الأهم: -هل ترك لك ناصر عنوانا في الرسالة التي بعث بها مع ذلك الصديق؟ قلت: -أجل قالت: -اكتبي إليه إذن.. قلت: -سأفعل حال عودتي إلى قسنطينة. فقد سألني عن أمور لا بدّ أن أراجعها هناك. في الواقع، لم يكن قد سألني سوى عن أخباري وأخبار امي. ولكنني كنت فقط أريد إرجاء هذه الرسالة إلى ما بعد. فقد كان ذهني مشغولاً بأمر واحد: ذلك الرجل، تماما كانشغال أمي بأمر واحد هو ناصر. ناصر الذي أصبح يذكرها فجأة بأبي الذي غاب هكذا منذ أكثر من ثلاثين سنة مع حفنة من الرجال كي يخططوا لما سيسمى في ما بعد "ثورة نوفمبر". ربما منذ ذلك الحين، أصبحت أمي تخاف الرجال الذين يرحلون هكذا فجاة، دون أن يتركوا عنوانا لغيابهم، ولا تاريخا لعودتهم؛ فقد لا يعودون، أو قد يعودون عندما لا ننتظرهم، لفرط ما انتظرناهم. في ذلك اليوم الذي لا نصدق ذلك الصوت الصغير الذي يردد على مقربة منّا، أنهم سيأتون، اليوم.. وربما الآن. ثمّ فجأة تحدث المعجزة، وتدقّ يد على الجرس. وينفتح الباب، على رجل متعب، مغبّر الثياب، يرفعنا كدمية نحوه، يضمّ جسدنا الصغير إلى صدره. يقبلنا.. يقبلنا.. ولا ندري لصغر سننا، أكان لحظتها يبتسم أم يبكي. كتلك الحادثة المذهلة التي تحكيها أمّي، والتي حدثت يوم كنت طفلة في الخامسة من عمري، وكنا في شهر رمضان، وكانت أمي تعد "البريك" للإفطار، فرحت ألاحقها طالبة منها أن تعدّ واحدة لأبي، لأنه يحبه. وكانت تجيبني أنه غائب، ولا يمكنه أن يحضر. وأجيبها بعناد الأولاد "بلى سيحضر.. أعدّي له واحدة"!". وما كدنا نجلس حول طولة الإفطار، حتّى دقّ الباب، وجاء أبي قادمًا من الجبهة، بعد غياب سنة تماماً. فقد كانت زيارته الأخيرة تعود إلى رمضان الفائت. لحظتها أجهشت جدّتي بالبكاء وهي تردد "لقد قالت لنا حياة إنك ستأتي.. ولم نصدّق!". ولذا أتوقع أن تطاردني أمي بعد الان بالسؤال "متى يعود ناصر؟" معتقدة أنني ما زلت أملك تلك الحاسة السادسة أو ذلك الحدس الذي يملكه الأطفال دون غيرهم، والذي يدلهم على ما يجهله الكبار. طبعاً، فقدت ذلك الحدس منذ زمن بعيد، من جملة ما فقدت من أشياء جميلة، تركتها خلفي، كلّما تقدم بي العمر. ولو كنت ما زلت أملكه، لوجدت الجواب عن أسئلة كثيرة أخرى. كان أحدها في الماضي "متى يعود ذلك الرجل؟" وأصبح الآن "من يكون؟" و "متى أراه؟" وأين هي ذاهبة بي هذه القصة الغريبة؟
ما كدت أتذكره حتى انتابتني رغبة جارفة في الحديث إليه، وحاجة عجلى إلى سماع صوته، فانتظرت أن تنام أمي وذهبت لأطلبه. ولكن طوال ربع ساعة، كان خطّ هاتفه مشغولاً دون توقف. وهو ما فاجأني وأزعجني. كأنني لم أتوقع أن يكون في حياة هذا الرجل شخص آخر، قد يتحدّث إليه ليلاً. ثمّ دقّ الهاتف اخيراً، وجاء صوته: -كيف أنتِ؟ -بي شوق إليك. رأيت أن أطلبك وكان خطك مشغولا طول الوقت. -كنت في حديث مع قسنطينة. -أما زال أهلك هناك؟ -لا.. كنت أتحدث مع صديقي عبدالحقّ. -تتحدث إلى صديق؟ في هذه الساعة المتأخرة من الليل! ردّ كمن ينفي شبهة: -إنه رجل الوقت ليلاً. -ماذا تقصد؟ -إنه صحافي يعمل ليلا في الجريدة. -وهل ثمة من جديد؟ بدا لي وكأنه كاد يقول شيئاً. ولكنّه بعد شيء من الصمت، أجاب وكأنه يخفي أمراً: -لا.. لا شيء ثمّ.. بصوت غائب: -وأنتِ؟ -أنا.. كنت أريد أن أسمعك. صمت قليلاً. ثمّ قال: -وأنا أريدك. فاجأتني مباشرته. سألته متعجبة: -حقًا؟ لماذا إذن استمتّ البارحة في الدفاع عن جمالية الحرمان؟ أجاب: -يحدث أن نقول كلاما.. ليس تماما ما كنّا نريد قوله. -وما الذي تريد قوله حقًا؟ -الليلة.. لا شيء. إنّي ثمل بالأضداد. لا تتوقعي منّي كلامًا منطقيًا. -أمّا أنا.. فلي كلام كثير إليك. ولكن أصبحت أتحاشى المكاشفة. قد خوّفتني بالهاتف؛ ربّما كانوا يتنصّتون إلينا الآن. ردّ ساخرًا: -لا تهتمي.. ما فائدة السرّ إذا لم يسمع به الآخرون! صحت: -هل جننت؟ -لا.. ولكن ألا تحبّين جمالية الفضيحة في الحبّ؟ فاجأني استهتاره.. قلت: -ولكنّني متزوجة.. ردّ قائلاً: -أدري.. ولهذا أنا في كلّ لحظة أتزوجك وأقتلك. -لماذا؟ -كي أشرّع حبك.. أريدك حلالي كي أمارس معك كلّ الحرام. -وهل أنت في حاجة إلى كلّ هذا كي تحبّ امرأة؟ -طبعًا.. لقد حدث أن كنت رجلا بكثير من المبادئ.. وقتها كنت أشهى ما أرفض. -ثمّ؟ -ثمّ لا شيء. الآن أريدك دون أسئلة. لم يبق من الوقت الكثير. يصمت قليلا ثمّ يواصل: -تعالي غداً. أريد أن أسرب إليك جنوني. أسأله: -وهل تعدني لو جئت أن تخبرني من تكون؟ يردّ: -لا أعدك بشيء عدا المتعة.. وستأتين. -لماذا أنت واثق إلى هذا الحدّ بقدومي؟ -لأنّ ثمة من يحوم حولي.. وقد يسرقني منك. ألا تشعرين بالغيرة من كائن قد يستحوذ عليّ إلى الأبد؟ أسأله غير مصدّقة: -هل ستتزوج؟ يردّ بحزن مستتر: -بإمكانك أن تسمّي هذا زواجاً.. مع اختلاف في بعض التفاصيل. إنه الارتباط الأبدي الوحيد الذي لا ننجو منه ولا نختاره. لا أفهم ما يقوله. أستنتج أنه يمازحني، كي يحثني على المجيء. أقول: -سأجيء.. وبرغم هذا احذر غيرتي. أنا امرأة من برج الحمل. إنه برج يشكّل أكبر نسبة من مرتكبي الجرائم العشقيّة. وسآتيك بتحقيق يؤكد قولي.. يضحك.. يقول: -تعالي.. قد أكون أنا من سيقتلك..! لماذا يصرّ هذا الرجل على إضرام النار في جسدي وفي دفاتري؟ وما الذي غيّر قناعاته، هو الذي كان يقف دائماً على حافة الحرام، مكتفيًا بقبلة؟ وهل حقًا ثمة امرأة تحوم حوله؟ من تراها تكون؟ وكيف حدث هذا.. وأنا أتحدّث إليه يوميًا؟ حاولت أن أنام، وأنا أبحث عن أجوبة عن هذه الأسئلة. ثمّ تذكرت قوله "انتهى وقت الأسئلة" فأخفيت علامات استفهامي تحت الوسادة. ورحت أحلم بالموعد القادم. كان في انشغال أمي بذلك العرس هدية نزلت عليّ من السماء. فأمام معرفتها بمزاجي المضادّ للأفراح، وبعد اليأس من مرافقتي لها، ذهبت لحضوره بمفردها، وتركتني أستعدّ لتلك الأفراح السريّة التي كانت وحدها تعنيني. كان الوقت ظهرًا عندما وصلت إلى ذلك البيت. فتح لي ذلك الرجل الباب، بمزاج بحريّ. فقد بدا لي غامضًا، وغير متوقّع كما هو البحر. قبّلني دون أن يقول شيئًا. فجلست على الأريكة المقابلة له أتأمله. قلت: -فيك شيء من البحر. قال: -أكان لقبلتي مذاقه المالح؟ قلت: -لا.. بل كان لها هدوؤه الكاذب. لم يجب. كان الصمت يجعلنا أكثر فصاحة. ذبذبات الرّغبة التي تعبرنا صمتًا تضعنا دائمًا في كلّ موعد في منطقة حزام الزلازل. الشهوة حالة ترقّب صامت للجسد. ولذا كنّا نحبّ صمتنا المفاجئ هذا، ونخافه. كان أذان الظهر يأتي من مئذنة بعيدة، بدا لي كأنّه يستمع إليه باهتمام خاصّ. فلم أجرؤ على التحدّث إليه. ما كاد ينتهي حتّى وقفت. رأيته مشغولاً عنّي بتدخين سيجارة. قلت وأنا أهمّ بالتوجه نحو المطبخ: -أيمكن أن أحضر ماءً؟ إنني عطشى. ولكنه لم يجب. امتّدت يده تستوقفني، وتجذبني نحوه. ثمّ سألني فجأة: -أما زلت تحبّين زوربا؟ فاجأني سؤاله. بدا لي شبيهًا بتهمة حبّي لرجل آخر. قلت: -ربّما. أجاب: -بل تحبّينه. ما زال بك افتتان بكلّ ما هو رائع ومهلك. وبتلك الخسارات الموجعة التي تقلب المنطق. قلت: -أجل. قال: -تعالي إذن.. عندي لك ما يناسب مزاجك من متعة. كان في نبرته شيء من الحزن الساخر الذي لم أفهمه. كنت سأسأله ماذا كان يعني. ولكن، كان قد سحبني من يدي. وذهب بي نحو أسئلة أخرى.
في غرفة مجاورة، يؤثثها سرير شاسع، وتفترش الجرائد والكتب الملقاة أرضًا، زاوية من سجّادها المتواضع، تركني واقفة للحظات، واتجه نحو جهاز على مقربة من السرير وراح لدقائق يبحث بين الأشرطة عن شيء ما، قبل أن يضع شريطًا لديميس روسوس ويعود. قلت وقد أربكني وجودي في غرفة نومه: -يبدو أنك تحبّ الموسيقى. أجاب وهو يسدل بإمعان ستار النافذة الوحيدة: -إن الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل... ألا تعرفين هذه المقولة؟ قلت: -لا. قال: -إنها لرولان بارت. ثمّ واصل: -وهذا الشريط هل تعرفينه؟ قلت: -أنا أعرف معظم أغاني ديميس روسوس... وأحبّ كلّ ما يغنيه.. ولكن لا أدري أيّ شريط هو هذا.. أجاب: -أنا أيضًا لا أدري.. فقد وجدته هنا مع أشرطة أخرى.. ولكن على أحد وجهيه أغنية ستحبينها حتمًا. لم أسأله أية أغنية يعنيها. فقد شعرت فجأة. أننا كنّا نستنجد بالموسيقى في محاولة لإنقاذ ما قد يلحق بنا من دمار إثر متعة قد تفضي بنا إلى حزن، لأكثر من سبب. غير أنّ رغبة مخيفة في صمتها، وحواسّ في حالة تأهّب، كانت تجعلنا دون مناعة عاطفية، أمام صوت يوناني يغنّي بالإنكليزية، ببحّة الألم، خيباته العاطفية. كنّا على مشارف قبلة، عندما جاءت تلك الموسيقى إيّاها. مباغتة لنا، زاحفة نحونا، متباطئة، كسلى، ثمّ متقاربة الإيقاع، بمزاجيّة الرغبات الطاعنة تناقضًا. كخطى راقص على أرصفة الشغف، تحت مطر المساء، كانت الأقدام الحافية تنقل لنا إيقاعها العشقيّ منتعلة خفّة شهوتنا. في حضرة زوربا.. خلع البحر نظاراته السوداء وقميصًا أسود، وجلس يتأملني. رجل نصفه حبر، ونصفه بحر، يجرّدني من أسئلتي، بين مدّ وجزر، يسحبني نحو قدري. رجل نصفه حياء.. ونصفه إغراء، يجتاحني بحمّى من القبل. بذراع وحدة يضمّني. يلغي يديّ ويكتبني. يتأملني وسط ارتباكي. يقول: -إنّها أوّل مرّة أطلّ فيها من نافذة الصفحة لأتفّرج على جسدك.. دعيني أراك أخيرًا. أحاول أن أحتمي بلحاف الكلمات، يطمئنني: -لا تحتمي بشيء. أنا أنظر إليك في عتمة الحبر، وحده قنديل الشهوة يضيء جسدك الآن. لقد عاش حبّنا دائمًا في عتمة الحواسّ. أودّ أن أسأله: -لماذا أنت حزين إلى هذا الحدّ؟ ولكنّ زوبعة بحرّية ذهبت بأسئلتي. وبعثرتني رغوة.. على سرير الشهوة. كان البحر يتقدّم، يكتسح كلّ شيء في طريقه. يضع أعلام رجولته، على كلّ مكان يمرّ به. مع كلّ منطقة يعلنها منطقة محتلّة وأعلنها منطقة محرّرة، كنت اكتشف فداحة خسائري قبله.
كمن يتململ داخل قفص الجسد، انتفض واقفًا. كان يريد أن يغادر ذاته ويتّحد بي. أسأله: -ماذا أنت فاعل بي؟ يجيب: "لا تملك الأشجار إلا أن تمارس الحبّ واقفة تعالي للوقوف معي أريد أن أشيع فيك صديقي إلى مثواه الأخير" أسأله مستغربة: -ماذا تقول؟ يجيب وهو يحاول الإمساك بي. -إنّي أضمر لك قصيدة. فجأة تصبح كلماته كأطراف أصابعه، أعواد كبريت تشعل كلّ شيء يمرّ به. ولا أفهم ماذا يعني. ولا.. لماذا يريد لنا حريقًا كبيرًا ومخيفًا إلى هذا الحدّ؟ رجولته تباغتني، فأنتفض بين ذراعيه ***كة. ثمّ أدخل طقوس الاستسلام التدريجيّ. فجأة يستوقفني: -هل تحبينني؟ كانت ذراعه الوحيدة تنقل إليّ عدوى شراسته العشقيّة، في محاكاة جسديّة ملتبسة، فأجبته مذعورة: -طبعاً أحبك.. لم يحدث للحبّ أن أوصلني إلى الخطيئة قبلك. ولكنّه أجاب بحسرة ساخرة: "حتّى متى سأبقى خطيئتك الأولى لك متسع لأكثر من بداية وقصيرة كلّ النهايات إنني أنتهي الآن فيك.. فمن يعطي للعمر عمرًا يصلح لأكثر من بداية؟" كان لصوته مذاق متأخر للبكاء. كدت أسأله "أيحدث للبحر أن يبكي؟". ولكنه اختفى.
تنتهي العاصفة. يتركني البحر جثة حبّ على شاطئ الذهول. يلقي على جسدي نظرة خاطفة. قبلة.. قبلتان موجة.. موجتان وينسحب البحر سرًا.. مع الدمعة القادمة. البحر أيضًا يرحل على رؤوس الأصابع. بعدما يكون قد أتى صاخبًا.. هائجًا، على عجل. أيحدث له أيضًا، أن يمارس الحبّ عن ألم؟ انسحب البحر إذن. غادر جسدي بين قصيدتين ودمعتين. وبقي الملح. وبقيت هنا إسفنجة بحرية. لحظتها كان زوربا، بوعي الخذلان المبكر، يواصل الرقص حافيًا على شاطئ الفاجعة، فاردًا ذراعيه إلى أقصاهما كنبيّ مصلوب، يقفز على مقربة منّي، على وقع الطعنات المتلاحقة، بشراسة وجع يجعلك مازوشيًا حدّ النشوة. فرُحتُ أواصل الرقص معه، منتفضةً ***كة خارجة توًا من سطوة البحر. عندما تنتهي العاصفة.. يشعل البحر سيجارة. يدخن متكئًا على الأسئلة. ثمّ عندما يعثر على الأجوبة، يكون قد أصبح رجلاً من جديد. دومًا، بعد الحبّ، تعود أسئلة ذكورية أبديّة، يصوغها الرجال حسب ذكائهم، ليطمئنّوا إلى دوام رجولتهم: -لقد خفت عليك دائمًا من لحظة كهذه؛ على سرير الواقع تصبح المشاعر اقلّ جمالا! أطمئنه: -جميل ما حدث بيننا. ولا أريد أن أعرف، إذا كان كذلك حقًا، أم أنّ الحبّ جعله يبدو أجمل ممّا هو. أحاول أن أتحاشى الانتباه لذراعه وأنا أحدثه. ولكن كنت في انشغالي عنها أتأمله. في الواقع، مشكلة الروائيّ أنّه لا يستطيع إلا أن يراقب كلّ شيء، حتّى أولئك الذين يقاسمونه سريره. سألني وهو يصلح من جلسته: -ما الذي تريدين رؤيته؟ فاجأتني نبرته الساخرة. قلت وكأنني أبررّ ذنبًاً: -أريد أن أطالع التاريخ السريّ لجسدك، كي أعرف إن كنت حقًا خالد بن طوبال. أنت تتصّرف مثله في كلّ شيء. عجيب كم تشبهه! أرحني.. قل لي من تكون. أجاب ساخرًا: -رجالك جميعًا يتشابهون. ثمّ أضاف بعد شيء من الصمت.. -ولكنني لست هو. لفظ هذه الكلمات الأخيرة بهدوء. بالوقع نفسه الذي يقول به بقيّة الكلام، وكأنّه لم يلفظ شيئًا يغيّر مجرى قصتنا. قلت: -ولماذا أخفيت عنّي الحقيقة كلّ هذا الوقت؟ أجاب: -ليس هناك من حقيقة واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنّها تتغيّر فينا.. وتتغيّر معنا. ولذا لم يكن ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة. وأضاف: أتذكرين.. كنت تقولين "أحبّ جسدك" وكنت أجيب "إنّ جسدًا قد يخفي جسدًا آخر" ولا تصدّقين. وكنت تقولين "أحبّ الرجال في الأربعين" وأصحّح؛ أقول "لست الرجل الذي تتوهمين" ولا تصدقين. بل تماديًا في الخطأ، وقعت في حبّ يديّ. وكنت تطاردينني عنهما بالأسئلة. تقولين "أحبّ يديك.. ما عمرهما؟" وأجيب " لقد أحببت دائمًا عُقدي.." ولا تفهمين. ولا أملك الآن سوى هذا الجسد. لأردّ به على كلّ أسئلتك. أجيب: -ولكن لم يكن من داعٍ للمراوغة. فأنا أحبه كما هو.. يبتسم.. يقول: -أنت تتوهمين ثمّ يواصل: -الحقيقة الوحيدة هي أنّك كنت جاهزة للحبّ. وكان يمكن أن آتيك متنكرًا في أيّ شخص، وفي أيّ زيّ، أن أقول كلامًا كنت تنتظرينه، أو لا أقول شيئًا. كنت ستحبينني. تابع قائلاً: ذلك أن الحبّ يتأقلم مع كلّ الحالات. وله هذه القدرة الخارقة على إضفاء جمالية حتّى على الأشخاص العاديّين. والدليل أنّك عندما ستكتشفين من أكون، ستجدين أيضًا في تفاصيل قصتنا ما يذهلك، ويقنعك بأنّك تحبينني أنا.. وليس ذاك الذي كنت تتوقعين! -ولكنك أريتني جريدة عليها اسم خالد بن طوبال. -تلك حقيقة أخرى. إنه اسمي. أو إذا شئت إنه الاسم الذي اخترته لأنه يشبهني. ولأنه مذ وصلتني تهديدات بالقتل. كان لا بدّ أن اختار اسمًا جديدًا أوقع به مقالاتي. ولا أشعر أنني سرقت هذا الاسم من احد. كل كلمة وقّعتها في تلك الجريدة، كنت أشعر أنه كان بإمكان ذلك الرجل الخارج من كتاب أن يقولها.. لو أنه نطق. يذهلني كلامه. ألأننا كنّا نعيش وضعًا روائيًا، كلّ ما ينتج عنه أصبح روائيًا أيضًا؟ سألته: -ما عدا هذا.. من أنت؟ ضحك.. أجاب: -أنا قارئ جيّد.. -لا أفهم. -لنقل أنني قرأتك جيدًا، قرأتك دائمًا، وإنّني أعرف عنك ما يكفي لإدهاشك. أنا ذاكرة أخرى لك.. أعرف عنك ما نسيت.. -ولكن في الحياة.. من أنت؟ -في الحياة.. اعمل صحافيّاً. ولن تصدّقيني لو قلت لك إنني منذ ثلاث سنوات كان هاجسي أن أتعرف إليك، بحجّة إجراء حوار للجريدة. أضاف قائلا بعد شيء من الصمت: في الواقع، كنت أريد أن اطرح عليك أسئلة، لم تكن تعني غيري. فقد صادف صدور كتابك مع تلك الحادثة التي شلّت فيها ذراعي. وهو ما جعلني أقضي فترة النقاهة في قراءتك. أذكر أن صديقي عبد الحقّ جاءني بكتابك إلى المستشفى. وقال لي وهو يمدّني به: "جئتك بكتاب سيعجبك.." تصوّري: خفتُه قبل أن أقرأه.. ثمّ خفته لفرط ما قرأته. أذهلني أن أعثر على بطل يشبهني إلى هذا الحدّ. كان بيني وبينه مدينة مشتركة، واهتمامات وخيبات مشتركة، وعاهة وذوق مشتركان. ووحدك كنت الشيء الذي لم يكن مشتركًا بيننا. فقد كنت حبيبته وحده.
وتابع: يوم التقيت بك، أصبح عندي يقين بأنّ حياتي ستطابق بطريقة أو بأخرى قصتك معه. حتّى إنني خفتك. وكثيرًا ما راودتني رغبة في عدم الاتصال بك. لو تدرين كم أحببتك.. وكم حقدت عليك بسبب كتاب! -ثمّ؟ -ثمّ لا شيء.. أعتقد أنّك كنت تكتبين لقلب الأشياء، عندما اخترت بطلاً فاقد الذراع. ولكن تظلّ الحياة أكثر غرائبية من القصص التي نبتكرها. أيّ فخّ كبير هي الحياة! تصوّري.. كنت أريد منك أجوبة لا أكثر. ولكنّ الحياة كانت تعدّ لي دورًا معاكسًا. لقد جئتك في زمن الأسئلة. انقضى هذا الكتاب، وأنا أردّ على أسئلتك. أعرف أنه دور أجمل ممّا توقعت. ولكنني لم أسع إليه. اكتفيت بمجاراة قدري، ومجموعة المصادفات التي واكبته. -وأثناء ذلك، كنت تقودني إلى تيه النصّ، والمتاهات السريّة للعواطف.. وكمائن المواعيد. -بل كنت أقودك إلى العشق. إنّ أجمل حبّ هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر. أدري.. كنت تبحثين عن رجل، خارج من كتبك. خلقته أنت، على قياسك. ولكن أليس أجمل أن أكون أنا الرجل الداخل إلى هذا الكتاب.. ولست الخارج منه؟ -ألهذا جئت اليوم؟ ألكي يمكنك أن تدّعي بعد الآن، أنّك كسرت ذلك الوهم الجميل، وحصلت على تلك المرأة التي لم تمتلك منها سوى كتب.. وأسئلة لا جواب لها. -طبعًا لا. وأنت تعرفين تمامًا أنّ هذا ليس صحيحًا. فأنا أملك من الكلام ما يمكّنني من إقناعك بما أشاء، ولكنّني كنت احرص على ألا أكسر أي شيء فيك. ولا أي شيء بيننا. لقد اعتقدت دائمًا أنّ الاشتهاء هو وحده حالة الامتلاك، أما المتعة فهي بداية الفقدان. -وما الذي أوصلنا إلى هذا السرير إذن؟ -أوصلنا إليه الموت. -ألا ترى في قولك إهانة للحبّ؟ -بل ردّ اعتبار له. لا تظنّي انه من السهل أن نأتي بالمتعة عن ألم، أو نأتي الجنس بذريعة موت الرفاق. يلزمنا كثير من الحبّ لنثأر به من الموت. -ولكن.. منْ مات من معارفك كي يداهمك كلّ هذا الحزن؟ يستنجد بسيجارة ثمّ يجيب: -مات سعيد مقبل.. ألم تسمعي بموته البارحة؟ قلت كمن يعتذر: -أنا لم أشاهد التلفزيون منذ أيّام.. ولا قرأت الجرائد. ثمّ واصلت: -هل كان صديقًا مقربًا إليك؟ أجاب: -لا. أنا لم ألتق به أبدًا. أصبح صديقي البارحة. فقد رفعه القتلة برصاصتين إلى مرتبة صديق. تصوّري.. لي تسعة وعشرون صديقًا، لم ألتق بمعظمهم، إلا على الصفحات الأولى للجرائد بمناسبة نعيهم. ولكنّه كان صديقًا مقربًا من عبد الحقّ، فقد كان يعمل معه في الجريدة قبل أن يتركها عبد الحق ويسافر إلى قسنطينة. ولقد اتصلت به منذ مدّة، لأعرض عليه الكتابة في الجريدة نفسها.. وكان مفترضًا أن نلتقي هذه الأيام.. أسأله: -وكيف قتلوه؟ يجيب: -كان يتناول غداءه. رفقة زميلة له في مطعم صغير جوار الجريدة. عندما اقترب منه شخص، توّهم منه أنّه يريد محادثته. ولكنّه أخرج مسدسًا، وأطلق النار عليه ومضى بهدوء. تصوّري.. كان اسم المطعم "الرحمة"ّ -ولكن.. كيف لم يأخذ حذره؟ -طبعًا كان على حذر. مذ حاولوا اغتياله منذ شهرين وفشلوا، وهو يغيّر عناوين نومه، ومواعيد قدومه إلى المكتب، والطرق التي يسلكها في العودة، والأماكن التي يرتادها. ولم يغيّر كلّ هذا شيئًا من قدره. لقد وصف كلّ هذا الرعب اليومي الذي يعيشه الصحافيّ في الجزائر هذه الأيام في نصّ جميل ومؤثر قبل أسبوعين من اغتياله. وأعادت الجرائد نشره اليوم في صفحاتها الأولى وهي تنعاه. ألم تقرأيه؟ لقد تناقلته معظم وكالات الأنباء. قلت بنبرة خافتة: -لا فمضى. ثمّ عاد بجريدة أعطاني إيّاها قائلاً: -إقرإيه إذن.. وستبكين صديقًا. وما كدت أتوقف عند عنوان المقال "هذا السارق الذي.." حتّى أخذ مني الجريدة وراح يقرأ: "هذا السارق الذي يتسللّ في الليل بمحاذاة الجدران، عائدًا إلى بيته. إنّه هو. هذا الأب الذي يوصي أولاده، بأن لا يفضحوا في الخارج المهنة التي يتعاطاها. إنه هو. هذا المواطن السيئ الذي يجرّ أذياله في قاعات المحاكم، منتظرًا دوره للمثول أمام القاضي. إنه هو. هذا الفرد الذي يساق خلال مداهمة لحيّ، والذي يدفع به كعب بندقية إلى قاع شاحنة. إنه هو. هو الذي يغادر منزله كلّ صباح، غير واثق بأنّه سيصل إلى مقرّ عمله. وهو الذي يغادر عمله مساءً، غير متأكد من أنه سيصل إلى بيته. هذا المشرد الذي لم يعد يعرف عند من يقضي ليلته. إنه هو. إنه هو الذي، يتعرض للتهديد في سرّيّة إدارة رسمية. الشاهد الذي ينبغي عليه أن يبتلع كلّ ما يعرف. هذا المواطن الأعزل. هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو. هذه الجثة التي يخيطون عليها رأسًا مقطوعًا. إنه هو. هو الذي لا يعرف ماذا يفعل بيديه، سوى كتاباته الصغيرة. هو الذي يتمسك بالأمل، ضدّ كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟ هو الذي كلّ هذا. وليس سوى صحفيّ". ألقى بالجريدة على الطاولة المجاورة، ثمّ واصل: -كيف أحمل حداد رجل كان في السابعة والخمسين من عمره، يواجه الموت بكلّ هذا العناد، ويصدر الجريدة الواحدة بعد الأخرى، في زمن لم يبق فيه أحد ليغامر بوضع توقيعه أسفل مقال؟ ويسمّي زاويته "مسمار جحا"، معلنًا أنّه باق هنا بنية إزعاج الجميع، ساخرًا من السلطة والإرهابيين على حدّ سواء. سحب نفسًا من سيجارته، وواصل بنبرة محبطة: لا أفهم، كيف يمكن لوطن أن يغتال واحدًا من أبنائه، على هذا القدر من الشجاعة؟ إنّ في الوطن عادة شيئًا من الأمومة التي تجعلها تخاصمك، دون أن تعاديك، إلا عندنا، فبإمكان الوطن أن يغتالك دون أن يكون قد خاصمك! حتى أصبحنا حسب قول عبد الحق.. نمارس كلّ شيء في حياتنا اليومية.. وكأننا نمارسه كلّ مرّة للمرة الأخيرة. فلا أحد يدري متى وبأية تهمة سينزل عليه سخط الوطن. سألني فجأة: -أتدرين لماذا طلبت منك الحضور اليوم؟ وقبل أن أجيب واصل: -لأنني خفت أن أموت قبل أن أعيش هذه اللحظة! قاطعته بشيء من العتاب: -ما هذا الذي تقوله؟ نحن لسنا هنا لنتحدث عن الموت ردّ بسخرية: -طبعًا، نحن هنا لنلعب معه، لنتحايل عليه. ولكنه موجود في جدول تفكيرنا الباطنيّ. المتعة أيضًا.. كما عشناها منذ قليل، بتلك الشراسة وبذلك العنف، وكأننا على أهبة افتراس جسديّ متبادل، ليست سوى حالة تطبيع مع الموت لا أكثر. في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ، والحروب البشعة الصغيرة التي لا اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيًا بها، الجنس هو كلّ ما نملك لننسي أنفسنا. -والكتابة؟ -الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن الآخرين لن ينسونا! -أتقول هذا لتجعلني أعدل عنها؟ -بل لأجعلك تعدلين عن الحلم، والأوهام الكبيرة. هذا الذي مات، صديقي الذي يوارونه في هذه اللحظة تحت التراب، الآن بتوقيت صلاة العصر، يسلّمونه للديدان، كان يؤمن أيضًا بجدوى الكتابة، وبأنّ عموده اليومي ضروري لتغيير المجتمع، وأنّ القارئ لا يمكن أن يبدأ صباحه دون تعليقاته الساخرة، ونكاته اللاّذعة. الآن، لم يعد بإمكانه أن يُضحك أو يتحدّى أحدًا. لقد ضحك عليه الموت وتحدّاه. هو الذي كان يتوهم أنه يغيّر العالم كلّ يوم ببضعة أسطر. ها هي الحياة تستمرّ بعده، والجريدة تواصل الصدور دونه، والناس الذين مات من أجلهم، سينسون مكانه في تلك الصفحة، حيث أقام لعدّة سنوات، ففي الصحافة كثير من نكران الجميل.
عدل سابقا من قبل محمد مبارك الماحي يوسف في الأحد 20 ديسمبر 2009 - 12:25 عدل 1 مرات | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 12:21 | |
| فاصل ونواصل
الظاهر باقي الرواية ما اير ينزل | |
| | | محمدمبارك
| موضوع: رد: فوضى الحواس - أحلام مستغانمي الأحد 20 ديسمبر 2009 - 19:37 | |
| | |
| | | | فوضى الحواس - أحلام مستغانمي | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|