الحمد لله الذي بصَّرنا بعد العّمى، وهدانا بعد الضَّلالة، وأكرمنا بعد الإهانة، وأعزَّنا بعد الذَّلَّة والمهانة، وأصلِّي وأسلِّم على النَّبيِّ المبعوث بالرَّحمة والهداية.. أم بعد:
فقول الله ـ تبارك وتعالى ـ ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا* أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) [الكهف] وقال ـ سبحانه ـ: ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)[الزخرف] وقال ـ عز وجل ـ (فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف: 30].
قال ابن الجوزيِّ ـ رحمه الله ـ: في [صيد الخاطر: 729 ـ 731] المصيبة العظمى رضا الإنسان عن نفسه واقتناه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق: فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب ولا يبحث ولا ينظر في دليل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا مسع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئلا يسمع، وكذلك كل ذي هوى يثبت مذهب أبيه وأهله، أو لأنه نظر نظراًَ أوَّل فرآه صواباً ولم ينظر فيما يناقضه، ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه، ومن هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين عليِّ ـ رضي الله عنه ـ فإنهم استحسنوا ما وقع لهم، ولم يرجعوا إلى من يعلم، ولما لقيهم عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فبين لهم خطأهم رجع عن مذهبه منهم ألفان، وممن لم يرجع عن هواه أبن ملجم فرأى مذهبه هو الحق فاستحل قتل أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ ورآه ديناً، حتى إنه لما قطعت أعضاؤه لم يمانع فلما طُلب لسانه ليقطع انزعج وقال: كيف أبقى ساعة في الدنيا لا أذكر الله! ومثل هذا ما له دواء...
وعموم العوامِّ يبارزونه بالذنوب، اعتماداً على العفو وينسون العقاب! ومنهم من يعتمد أنِّي من أهل السنة؛ أو أنَّ لي حسنات قد تنفع، وكلُّ هذا لقوة الجهل فينبغي للإنسان أن يُبالغ في معرفة الدليل ولا يُساكن شبهته ولا يثق بعلم نفسه.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في [كتاب الروح: 298]: وهؤلاء إذا انكشف العطاء وثبتت حقائق الأمور، علموا أنهم لم يكونوا على شيء (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) ) [الزمر] وفي أثر معروف: إذا رأيت الله ـ سبحانه ـ يزيدك من نعمه، وأنت مقيم وشاهد هذا في القرآن في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) [الأنعام].
ثم قال ـ رحمه الله ـ وأعظم الناس غروراً بربه من إذا مسهَّ الله برحمة منه وفضل ( لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي ) أي: أنا أهله وجدير به ومستحقٌ له، ثم قال: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) فظن أنه أهل لما أولاه من النعم مع كفره بالله، ثم زاد في غروره فقال: ( وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَىٰ ۚ (50) [فصلت: 50].يعني الجنة والكرامة، فهكذا تكون الغرة بالله، فالمغتر بالشيطان مغتر بوعوده وأمانيه، وقد ساعده اغتراره بدنياه ونفسه فلا يزال كذلك حتى يتردَّى في آبار الهلاك.
وقال أيضاً ـ رحمه الله ـ: في [مفتاح دار السعادة: 1/44] فأخبر ـ سبحانه ـ أنَّ من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان بسبب إعراضه وعشوِّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله، فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصدُّه عن سبيل ربه وطريق فلاحه،وهو يحسب أنه مهتد، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاينه هلاكه وإفلاسه قال: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) [الزخرف: 38] وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدىَّ كما قال تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).قيل: لا عذر لهذا وأمثاله من الضُّلاَّل الذين منشأة ضلالهم: الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظنَّ أنه مهتد فإنه مفرط بإعراضه عن ابتاع داعي الهدى، فإذا ضلَّ فإنما أُتي من تفريطه وإعراضه، وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها فذاك له حكم آخر، والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) [الإسراء: 15] وقال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) [النساء].وقال الشنقيطي ـ رحمه الله تعالى ـ في [أضواء البيان 2/224 ] قوله: تعالى ـ: (فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف: 30] وبين ـ الله تعالى ـ في هذه الآية الكريمة أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله ـ تعالى ـ ومع ذلك أخذناهم بغتةَّ فإذا هم يظنون أنفسهم على هدى، وبين في موضع آخر: أنَّ من كان كذلك فهو آخر الناس عملاً، والعياذُ بالله ـ تعالى ـ وهو قوله ـ جلَّ وعلا ـ: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) [الكهف: 103 ـ 104].
تنبيه: هذه النصوص القرآنية تدلُّ على أن الكافر لا ينفعه ظنُّه أنه على هدى، لأن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار، لجاجاً في الباطل وعناداً، فلذلك كان غير معذور، والعلم عند الله تعالى.
وقال أيضاً ـ رحمه الله ـ في [أضواء البيان: 4/146 ـ 148] قل لهم يا نبي الله:ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) أي نخبركم؟ (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ) أي بالذين هم أخسر الناس أعمالاً وأضيعها، فالأخسران صيغة تفضيل من الخسران، وأصله نقص مال التاجر، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه، وقوله: (أَعْمَالًا ) منصوب على التمييز، فإن قبل: نبئنا بالأخسرين أعمالاً من هم؟
كان الجواب: هم الذين ضلَّ سعيهُم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يسحنون صنعا، وبه تعلم أن (الَّذِينَ) من قوله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) خبر مبتدأ محذوف جواباً للسؤال المفهوم من المقام، ويجوز نصبه على الذم، وجره على أنه بدل من الأخسرين أو نعت له وقوله (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) أي بطل علمهم وحبط فصار كالهباء وكالسَّراب وكرماد، كما في قوله ـ تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ )[إبراهيم: 18] وقوله:- (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) [النور: 39] ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله.
والتحقيق: أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق وأن فيه رضا ربهم، كما قال عن عَبَدَة الأوثان: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ ) [الزمر: 3] وقال عنهم: (وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) [يونس: 18] وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً (4)) [الغاشية] الآية على القول فيها بذلك وقوله ـ تعالى ـ في الكفار: (فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف: 30] وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ 37) [الزخرف: 37] والدليل على نزولها في الكفار تصريحه ـ تعالى ـ بذلك في قوله بعده: ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) [الكهف: 105 ] الآية فيقول من قال: إنهم الكفار وقول من قال: إنهم الرُّهبان وقول من قال: إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك تشمله هذه الآية، وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أنه سأله ابنه مصعب عن (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ) في هذه الآية هل هم الحرورية؟ فقال: فقال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من عبد ميثاقه، وكان سعدٌ يسميهم الفاسقين، [البخاري 4728].
وقال الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ في [تيسير الكريم الرحمن: 19/3] ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) لأنهم انقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطل حقاً والحق باطلاً، وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة، حيث ذكر ـ تعالى ـ أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتُنكره العقول، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص، وفيه دليل على أن الهداية بفضل الله ومنه، وأن الضلالة بخذلانه للعبد إذا تولى بجهله وظلمه الشيطان وتسبب لنفسه بالضلال، وأن من حسب أنه مهتد وهو ضالٌّ فإنه لا عذر له، لأنه متمكن من الهدى وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى.
وقال أيضاً ـ رحمه الله ـ في تفسيره [61647] (وَمَنْ يَعْشُ) أي يُعرض ويصد (ذِكْرِ الرَّحْمَٰن) الذي هو القرآن العظيم، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عبادة، فمن قبلها فقد قبل خير المواهب، وفاز بأعظم المطالب والرغائب، ومن أعرض عنها وردها فقد خاب وخسر خسارة لا يسعد بعده أبداً، وقيَّض له الرحمن شيطاناً مريداً يقارنه ويصاحبه ويعده ويمنيه ويؤزه إلى العاصي أزاً: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي الصراط المستقيم والدين القويم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) بسبب تزيين الشيطان للباطل وتحسينه له إعراضهم عن الحق، فاجتمع هذا وهذا فإن قبل: فهل لهذا من عذرٍ من حيث إنه ظن أنه مهتد وليس كذلك؟
قيل: لا عذر لهذا وأمثاله، الذين مصدر جهلهم الإعراض عن ذكر الله مع تمكنهم من الاهتداء فزهدوا في الهدى مع القدرة عليه، ورغبوا في الباطل، فالذنب ذنبهم والجرم جرمهم.
هذا حال فريق من الناس ظنوا أنهم على خير ورضوا بما هم عليه، بل رضوا عن أنفسهم فلم تحدثهم أنفسهم: هل هم على حق أم على باطل؟ على هدى أم على ضلالة؟ اعتروا بعلمهم وظنوا أنهم من الله بمكان، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم تجاوزوا الصراط وجوا من النيران، أذنبوا وأساءوا وفرطوا وضمنوا دخول الجنان.
وهذا حال فريق آخر أحسنوا واجتهدوا وأطاعوا وهم خائفون من النيران، ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مررت ليلة أسري بي بالملأ الاعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى))[صحيح الجامع: 5864].
وقال عبد الله بن الشِّخِّير: رضي الله عنه ـ ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي وفي صدره أزيزٌ كأزيز الرَّحى من البكاء)) وهذا الفاروق المبشر بالجنة قد حفرت الدموع خطين أسودين في وجهه.
وهذا أبوعبيدة بن الجراح أحد العشرة يقول: وددت أني كنت كبشاً فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي.
ويقول عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره لوددت أني أنقلب روثة، وأني دعيت: عبد الله بن روثة، وأن الله غفر لي ذنباً واحداً.
ويقول سفيان الثوري: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً. ويقول مالك بن دينار العابد الزاهد: لو لا أن يقول الناس: جُن مالكٌ للبست المسوح، ووضعت الرماد على رأسي أنادي في الناس: من رآني فلا يعص ربه.
وكان ابن المبارك: إذا قرأ كتاب الرقاق تغير كأنه ثور منحور من البكاء، لا يجترىء أحدٌ أن يدنو منه أو يسأله عن شيء إلا دفعه، وكان يقول ـ رحمه الله ـ من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيراً ثم لا يبالي ولا يحزن عليه.
وقال الفضيل بن عياض: بكى ابني علي فقلت: يا بني ما يبكيك؟ قال: أخاف ألا تجمعنا القيامة.
وكان عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد يبكي حتى تختلف أضلاعه، وقد أتي بسلق وأقراص فأكل ثم اضطجع على فراشه وغطى وجهه بطرف ردائه وجعل يبكي ويقول: عبد بطيءٌ بطين يتباطأ ويتمنى على الله منازل الصالحين، وكان ـ رحمه الله ـ لا يجف دمعه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن لهُ
من الله في دار القرار نصيبٌ
وقالت أم محمد بن كعب القرظي له: يا بني لولا أني أعرفك طيباً صغيراً وكبيراً لقلت: إنك أذنبت ذنباً موبقاً لما أراك تصنع بنفسك، قال: يا أمه وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي وأنا في بعض ذنوبي فمقتني وقال: اذهب لا أغفر لك.
قال جعفر: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنتُ إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبته وجه ثكلى، وكان محمد يقول: أتدرون يا أخوتاه أين ينصب لي؟ يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار أو يعفو الله عني.
وهذا عبد الله بن مسعود يقول لتلميذه ا لربيع ين خثيم: لو رأك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وكان إذا رآه يقول: وبشِّر المخبتين، هذا الربيع حفر في منزله قبراً ينزل فيه مرات في اليوم ثم إذا خرج يحدث نفسه: يا ربيع ها قد خرجت فاعمل للقبر إن نزلت فيه تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ ) [المؤمنين: 99] إلى يوم القيامة ولا تجاب.
وقال شقيق البلخي: ليس للعبد صاحب خير من الهم والخوف: هم فيما مضى من ذنوبه، وخوف فيما لا يدري ما ينزل به.
وهذا حال فريق أحسنوا فيما بينهم وبين ربهم، أحسنوا وجدوا واجتهدوا وبالغوا في الطاعة والقربى والزلفى، وهم مع ذلك مشفقون على أنفسهم وجلون خائفون نادمون، لم يرضوا على أنفسهم طرفة عين.
ففي أي الفريقين أنت يا عبد الله؟ فحاسب نفسك والزم بيتك وابك على خطيئتك! وداو قلبك! وراقب ربك ! وتأسف على ما فاتك! ولا تأمن أو تغتر ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)[المدثر]