هذه بعض المقالات التحليلية و التى اعتبرها ذكية لم تجد من الفحص و التحليل و التعقيب ما يكفكيها هلا القيت عليها نظرة.
الفلوجة والبصرة وغزة والخرطوم.. ما وراء صوت المعركة
كان مفارقا شكر الرئيس السوداني لمدعي عام المحكمة الدولية، لأنه بنجاحه في استصدار مذكرة اعتقال ضد الرئيس ساعده على أن يعرف مدى حب شعبه إليه. كم يبدو استثنائيا هذا الحدث، وكم تبدو استثنائية فكرة أن فرصة إظهار الشعب لحبه لا تتجلى إلا بعد توجيه اتهام للرئيس حوّله إلى هارب من العدالة، فطوال سني حكمه لم يكن الزعيم مهتما بتقصي مدى حب شعبه له. هذا الحب أصبح ضروريا كما أن إعلانه صار لازما، لحظة دخل الرئيس أزمته الشخصية، قبل ذلك لم يكن مهما أو ضروريا أو ذا معنى. ما أشبه اليوم بالبارحة وكم ينبغي أن تعيد هذه الكوميديا الفجة نفسها حتى نشعر بالملل ونبحث عن قصة جديدة ، وكم مرة سنلعب نفس اللعبة ويكذب بعضنا ذات الكذبة ويروج لها نفس المروجين، وكم مرة علينا أن نحول زعماء العصابات إلى أبطال ونرسل لهم وفود «الممانعين» لإعلان التضامن الذي يتخفى خلف كل رومانسيات العدالة والتحدي والتصدي والمقاومة، لكن يغمض عينيه عن مئات الآلاف من المساكين والفقراء والضعفاء، الذين استبيحت دماؤهم وكرامتهم وشرفهم من قبل رجال أو أصدقاء الزعيم.
نفس القصة القديمة عن صوت المعركة الذي لا يعلو عليه صوت، عن قدسية المقاومة حتى لو أكلت أجساد وحيوات أبنائها، عن الانتقائية الفجة في تعريف الحقوق ونسج الخطاب الذي ينتقد الآخر على ازدواجيته وهو غارق في ازدواجية أعمق. صوت المعركة بات الوسيلة المثلى في مستنقع ثقافتنا السياسية لتسطيح الأمور ولإخفاء كل صوت معارض، لأن نداء المعركة يستدعي معه كل مفاهيم الطوارئ والحذر والتحسب من الأعداء وعملائهم وطوابيرهم الخامسة، وبذلك يتم إسكات كل من يريد القول إن للوطن وجهة أخرى ليسلكها وأن للكرامة وجها آخر يصونها وللوطنية معنى آخر نسعى إليه. الفرق بين المجتمع الحر وذلك المستعبد، إن الأول يختار بإرادته تقييد حركته في حالات الطوارئ وإعادة ترتيب الأولويات عند مواجهة خطر يهدد المجتمع والوطن فتغيب معه السياسات الضيقة والمصالح الصغرى لصالح مصلحة المجتمع العليا، ولنتذكر هنا بريطانيا الحرب العالمية الثانية التي حتى مع جسامة التحدي النازي وإعادة ترتيبها لأولويات مواجهته لم تنصب المشانق لـ«الأعداء الداخليين» ولم تعطل النظام السياسي ولم تقمع حرية الصحافة، ولم تكن هناك حاجة لأي من ذلك لأن الجميع كان مؤمنا أنها معركته وأن الهزيمة فيها تطال حياة وكرامة الجميع. أما في المجتمع المستعبد، فإن المعارك تصطنع وتغدو الوسيلة التي من خلالها يتم التضييق على المجتمع وتتوقف الحياة الطبيعية وتنصب المشانق لـ«أعداء الداخل» ويزج بالمعارضين إلى السجون ويتم إنتاج معنى للكرامة والنصر لا علاقة له بالمواطن الفقير الجائع الذي تغدو حياته كلها خالية من القيمة أمام «عظمة المعركة» و«هدير الجماهير»، فالجماهير عندنا ليست مجموع أفرادها بل هي تابو آخر، مفهوم مصطنع لإخافة الجماهير الحقيقية التي تبحث عن لقمة خبز وكسوة وسقف يحميها من غضب الطبيعة، وغضب أبنائها.
لا يوجد مكان انتهك فيه مفهوم الجماهير مثل عالمنا العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة، ليس فقط من حيث إنه استغل لإلغاء أي استقلالية للفرد ، بل وأيضا من حيث إنه جرى اصطناعه من القوى السياسية المهيمنة ليعكس إرادتها ومصالحها وإسقاطه فرضا على الشعب المغلوب على أمره وتطبيقه بمنطق «المظاهرات المليونية» طالما لا يسمح لمنطق صندوق الاقتراع بتجسيد الحقيقة. الزعيم يختار للشعب معركته ويعرف له كرامته ويقوده إلى حتفه، وتقول لنا كاميرات التلفزيون المتجولة وسط جموع الشعب الغاضب على «الاستعمار، قديمه وجديده» إن الشعب مع الزعيم وويل للخونة والمشككين. تحت نفس اليافطة جاع العراقيون لـ13 عاما مقيتا من العقوبات الاقتصادية لكي «لا يفرطوا بكرامتهم» وظلت «الحشود المليونية» تجدد العهد كل يوم. وتحت نفس اليافطة سيق أبناء غزة لحرب لم تنته إلا بجعل حياتهم أكثر بؤسا وفقرا ولكنهم، بحسب ما تقول الكاميرات «المحايدة» مصممون على متابعة الطريق، قبل ذلك كانت ذات الكاميرات وذات الأقلام وذات الحناجر تعلن للعالم أن أهل الفلوجة اختاروا بمحض إرادتهم المقاومة وهم بمواجهة جيش الاحتلال وحكومة علاوي أثناء المعركة العسكرية عام 2004، وبعدها عندما اصطحب المالكي قواته واتجه للبصرة، قال البعض إنها معركة تستهدف المقاومة هناك وإن الشعب يقف إلى جانب تلك المقاومة. ولكن أين تبخرت الحشود المليونية التي هتفت باسم القائد طوال 13 عاما من البؤس والفقر والجوع، ولماذا كانت الفلوجة من بين كل مدن العراق الأكثر تصويتا لعلاوي الذي ارتبط تاريخه بمعركة الفلوجة، ولماذا حصد المالكي أعلى نسبة أصوات في البصرة ومدينة الصدر التي اتهمه «المقاومون» بمهاجمتهما تنفيذا لأجندة الاحتلال، ولماذا لا تبدو المقاومة في غزة متعاطفة مع فكرة الانتخابات المبكرة هناك رغم «أن الشعب معها»، ولماذا لا يسعى البشير وقد اكتشف حب الشعب له إلى منح هذا الشعب حرية حقيقية في اختيار رئيسه (وهو ضامن للفوز على ما يبدو)..
هناك لهذه الأسئلة جوابان، الأول جواب «المقاومين» وكتابهم وإعلامهم الذي يتراوح بين عدم إمكانية إجراء تصويت حر بإشراف محايد لأن المجتمع الدولي والعالم بأسره متآمر عليهم، وينتهي بغياب الوعي لدى «بعض الجماهير» بسبب دعاية الأعداء، وقد يصل كما في موقف بعض الكتاب العرب من عراق ما بعد 2003 إلى حد تخوين الشعب! الجواب الآخر هو جواب العقل الذي قرأ التجربة وأدرك حقيقة هذا الخطاب وما بين سطوره والذي يقر بأن المعركة في الأصل زائفة ولا معنى لها، وليس لها صلة بكرامة وحياة الناس إلا عبر استغلال معاناتهم كوسيلة لكسب الحرب الدعائية. هناك صوت يجب أن يعلو على صوت المعركة، إنه صوت العقل..
جابر محمد حبيب