لمن فاتـهم متابعة السجال الذي دار بين الصحفيين محمد لطيف وهاشم كرار ، فليسمح لنا السيد الكاتب كمال علي الزين بنقل وقائع السجال الذي أورده بسودانيزاونلاين لنرى كيفية تصدي هاشم كرار للإتـهامات الغلاظ التي وجـهها له محمد لطيف " التزويير والإنصرافية وإدعاء البطولات ........
(( بقلم : محمد لطيفالحلقة الأولى بتاريخ 27 يناير 2010 :
إغتيال الأستاذ.. القصة الكاملة (1)
كرار حول أكبر مآسي القرن العشرين إلى ملهاة تحتفي بها أجراس الحرية
هل تعلم أجراس الحرية أن ( هذا أو الطوفان ) كان أول دعوة للسودان الجديد ؟ وأن ( الطوفان ) يحدق الآن بالسودان؟
بغض النظر عن تزوير وقائع ما يزال معاصروها أحياء وبتجاوز إدعاء البطولة فى أمر ما كان له به صلة وبالتقاضي عن تزييف الحقائق فإن السيد هاشم كرار قد حول اكبر مأساة شهدها السودان في القرن العشرين إلى ملهاة يتسلى بها السذج ويحتفي بها الأغرار .. ومعذورون الإخوة فى أجراس الحرية فـ ( هم لا يعلمون) ... !
يوم إغتيال الأستاذ محمود محمد طه جسد إغتيال الرأى وقدم أسوأ صورة لاستغلال الدين فى تصفية الخصومة السياسية ... فكان مناسبة يحتفى بها العالم العربى كله للتعبير عن التضامن مع ضحايا الرأى ولدعم حرية التعبير والضمير فاختارته المنظمة العربية لحقوق الإنسان يوما عربيا لحقوق الإنسان .. ولكن عند هاشم كرار وأجراس الحرية لم يعدو الأمر غير ملهاة تسود الصفحات وتلهى القراء عن القضية الأساسية بعبارات إنصرافية من نوع ( ليلى الطويلة ) و ( زهيرة القصيرة ) ... قضية رجل قدم نفسه رخيصة فى سبيل المبدأ .. وبغض النظر عن ما كان يعتنق محمود .. وبغض النظر عن ما قال محمود فيكفيه فخرا وشرفا أنه قال كلمته ومضى... فى وقت إبتلع فيه الكثيرين ألسنتهم ...ولهذا .. لهذا فقط .. كان حريا بهاشم ورهطه أن يحتفوا بذكرى الرجل بما يستحق أو ليصمتوا.
كان حريا بهاشم كرار أن يتحرى الحقيقة عند من عايشوها لا أن (ينجر) كيفما اتفق ... وكان حريا بأجراس الحرية فى (عام الرمادة ) هذا أن تنتبه للفكرة الأساسية فى بيان الأستاذ ذاك .. هذا أو الطوفان ... فلئن كانت أجراس الحرية تطرح نفسها كحاملة للواء السودان الجديد .. فبيان ( هذا أو الطوفان ) كان سباقا حين تحدث عن تصنيف الناس على أساس دينى وعن خطورة ذلك على البلاد والعباد و عن الفتنة الدينية ... ولو تعلم أجراس الحرية فالبلاد والعباد الآن فى انتظار الطوفان الذي حذر منه الأستاذ فى بيانه ذاك الذي دفع ثمنا له أغلى ما عنده ... إنه عام الاستفتاء .. ونحسب ( محسنين الظن ) فى دعاة السودان الجديد أن السودان الجديد إنما يعنى السودان الموحد على أسس عادلة تقوم فيها الحقوق على المواطنة لا على أساس من الدين والعرق ..وهذا ما كان قد نادي به ( هذا أو الطوفان ) لا دولتان منفصلتان تطحن واحدة الحروب القبلية ويطحن الثانية الاستعلاء الديني والعرقي ... ولكن راعية السودان الجديد ( ما فاضيه ).. فكان ميسورا على هاشم كرار أن يجرها إلى كوميديا سوداء من نسج خياله نصب نفسه فيها بطلا.
ولو شئنا أو (شاء الآخرون ) لسودنا الصحائف فى كشف نماذج تشويه التاريخ وتزوير الحقائق .. وإن أرادوا فعلنا ... ولكن الأولوية الآن لتمليك الرأي العام الحقيقة ... والوقائع كما جرت لا كما تخيلها هاشم كرار وصدقتها ( أجراس الحرية ) ولفائدة القارىء فالذى أنا بصدد نشره الآن ليس جديدا .. بل هو رصد دقيق قد نشر بعد ثلاث سنوات فقط من إغتيال الأستاذ محمود محمد طه وجل من وردت أسماؤهم أحياء وقد تم نشر هذا الرصد فى صحيفة الأيام فى الذكرى الثالثة لعملية الإغتيال وتحديدا في العشرين من يناير 1988 وأصدق القارئ القول أنني لم أكن متحمسا للكتابة لا لعدم أهميتها ولكن لإنشغالى بأعباء سكرتارية تحرير الأيام ثم لأن الصحيفة كانت قد كلفت مجموعة من الزملاء لإعداد ملف في ذكرى اغتيال الأستاذ والذي حدث أن الملف لم ينجز بالشكل المطلوب وكان الأستاذ محجوب عثمان ملما بطرف من قصتي فألح على أن أكتب .. ففعلت وأحسب أنني مدين له بشكر وتقدير كبيرين.
ولنا عودة من بعد ذلك لتصحيح الوقائع التى تعمد تشويهها هاشم كرار . كربطه لخروج الراحل حسن ساتى ( رحمه الله ) من الأيام بموقفه من عملية إعدام محمود محمد طه فهذه فرية لم نسمع بها إلا عند هاشم كرار.
في الذكرى الثالثة لاستشهاد محمود محمد طهيوماً.. بعد يوم مع محاكمة العصر..صحفي عاش أحداث تلك الأسابيع المشئومة يرويها ساعة بساعةبدأ السيناريو في 25 ديسمبر وانتهي في 18 يناير
بقلم: محمد لطيف
(أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين سبتمبر 1983م من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام.. أكثر من ذلك فإنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام ونفرت عنه، يضاف إلى ذلك أنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم أنها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير أما من حيث التطبيق فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنياً، وضعفوا أخلاقياً، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية تستغلهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب وتشويه الإسلام وإهانة الفكر والمفكرين وإذلال المعارضين السياسيين.. ومن أجل ذلك فإني غير مستعد للتعاون مع أية محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر, والتنكيل بالمعارضين السياسيين.
سمعت هذه العبارات من محمود محمد طه وهو يقف أمامي شامخاً كالطود في قاعة من قاعات محكمة أم درمان.. لم أره من قبل.. ولم استمع إليه.. بل كنت أرى أن الجمهوريين إنما يسلكون مسلكاً سياسياً يتعارض ومصالح الشعب بموالاتهم لنظام النميري..
حتى وأنا في طريقي لتغطية وقائع المحكمة مندوباً عن (الأيام الحكومية) لم يتجاوز منطقي أن الجمهوريين إنما يدفعون ثمن استكانتهم لنظام لا قيم له ولا مواثيق.. ولكن وأنا استمع لمحمود في خطبته أعلاه شعرت أني أمام نمط فريد من الناس.. وجدت أمامي رجلاً يقول على الملأ ما يردده الكثيرون ليلاً وفي السر. وجدت نفسي أمام رجل تجلله صلابة في الموقف وقناعة لا تتزعزع فيما يعتقد.. تراجعت الصورة التي دخلت بها المحكمة وتقدمت صورة أخرى مختلفة تماماً.. لا انفي أنها الصورة التي تحاصرني وتدفعني وأنا اكتب الآن.. وبدأت قصتي مع محمود.
محمد لطيف 18 يناير 1988..
كان لها ما قبلهاالمهزلة التي بدأت في 5 يناير 1985م انتهت في 18 يناير من نفس الشهر، وهي كل الفترة التي استغرقتها عمليات اعتقال الأستاذ محمود محمد طه بصدور قرار (محكمة الموضوع) وتأييد (محكمة الاستئناف) وتأييد (رئيس الجمهورية) وتنفيذ حكم الإعدام. هذه المهزلة لم تكن مفاجئة، بل كان لها ما قبلها. ففي العام 1983م عارض الأستاذ محمود لجنة نميري لتعديل القوانين لتتمشى مع الشريعة الإسلامية، منطقه في ذلك أنها محاولة لتزييف الإسلام وأن الإسلام لا يقوم بمجرد سن القوانين.. وعارض من قبل تجربة البنوك الإسلامية، منطقه في ذلك أنها تدعي شرعية زائفة.. وعارض قانون الطمأنينة، منطقه في ذلك أنه يشكل خرقاً واضحاً للدستور ويجهض الحرية الفردية ويسلب القضاء حقه في مباشرة الفصل في القضايا. وفي يونيو 1983م اعتقل الأستاذ محمود ونحو خمسين من الجمهوريين والجمهوريات لأن كتاباً قد صدر منهم بعنوان (الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة) هاجموا فيه سلوك الفقيه المصري محمد نجيب المطيعي الذي أتاح له عمر محمد الطيب ليخطب في منبر المسجد الذي بني في كوبر.. وفي مطلع مارس 84م أصدر الأستاذ محمود من داخل المعتقل كتاب (الموقف السياسي الراهن) عارض فيه قوانين سبتمبر 1983م وفي أغسطس 84 أصدر منشوراً من داخل المعتقل تناول فيه أوجه تعارض تلك القوانين مع الشريعة.
خطوة مفاجئة لها ما بعدهارغم ما أسلفنا إلا أن النظام اتخذ خطوة مفاجئة بل تعد نتيجة مغايرة لتصرفات الأستاذ محمود في المعتقل، ففي السابع عشر من ديسمبر 84 أطلق سراح الأستاذ محمود ومن معه من الجمهوريين وأعيدت لهم كتبهم ومعدات الطباعة التي صودرت منهم، ليس هذا فحسب بل إن عمر الطيب رئيس جهاز الأمن حمل اثنين من الجمهوريين المعتقلين وكان على صلة سابقة بهما رسالة خاصة للأستاذ محمود راجياً منه قبول إطلاق السراح، وكان الأستاذ محمود وقتها معتقلاً بمنزل حكومي كان يقيم فيه بونا ملوال سابقاً، إلا أن هذه الخطوة المفاجئة كان لها ما بعدها. ولعلنا لسنا في حاجة لتأكيد تبييت النية، ولكنا نحاول فقط أن نقدم توثيقاً مجرداً دون أي تدخل بل مجرد- إثبات الوقائع كما تمت وبمتابعة تسارع الإيقاع سيتضح جلياً أن الخطوة المفاجئة كان لها بالفعل ما بعدها.
هذا أو الطوفان كانت أول خطوة بعد مغادرته المعتقل أن قال لتلاميذه (إننا لم نخرج من المعتقل لنرتاح بل لنواصل معارضة هذا النظام الذي أذل الشعب ونكل بالمعارضين السياسيين مشوهاً الإسلام)، وكلف لجنة من جماعته بكتابة منشور يحمل هذا المعنى فكان منشور (هذا أو الطوفان) في 25 ديسمبر 1984م وكانت خلاصة المنشور:1/ إلغاء قوانين سبتمبر 83 لتشويهها الإسلام ولإذلالها الشعب ولتهديدها الوحدة الوطنية.2/ حقن الدماء في الجنوب واللجوء إلى الحل السياسي السلمي بدل الحل العسكري.
و
بدأت المهزلة الكبرى في نفس يوم 25 ديسمبر بدأت اعتقالات واسعة في أوساط الجمهوريين فقد قبض على 6 منهم يوزعون المنشور.. أما في الخامس من يناير 1985م فقد صدر قرار من وزير الدولة بديوان النائب العام محمد آدم عيسى باعتقال محمود محمد طه.
التاريخ: النيل والفرصة التاريخية في الثامن والعشرين من ديسمبر خرجت من النيل أبو قرون المستشار القضائي لرئاسة الجمهورية رسالة موجهة لنميري هذا نصها:الأخ الرئيس القائد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته المنشور المرفق وزعه الجمهوريون وقد قبض على ستة منهم وتم التحقيق معهم، وسوف يقدمون للمحاكمة، وبهذا قد أتاحوا لنا فرصة تاريخية لمحاكمتهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.. لا شك أنها بداية لمسيرة ظافرة بإذن الله يتساقط دون هدفها كل مندس باسم الدين وكل خوان كفور. ولله الأمر من قبل ومن بعد.. وفقكم الله لقيادة المسيرة الظافرة واقام نهج الله على آثار المصطفى (ص) وأصحابه ومن سار بسيرهم ومنهجهم إنه سميع مجيب الدعاء) النيل عبد القادر أبو قرون 6 ربيع ثان 1405م.. وقد علق عليها نميري بخطه: (الحمد لله والشكر لله والله أكبر على المنافقين 6 ربيع ثان 1405 نميري).ودارت الأيام دورتها لتصبح الرسالة التي تحدث فيها النيل عن الفرصة التاريخية وثيقة تاريخية تجلل بالعار راسلها والمرسلة إليه وغيرهما كثر.. وكانت هذه الكلمات المفضوحة التي تنضح بالقصد الجنائي هي البداية الحقيقية لتنفيذ أكبر جريمة يشهدها التاريخ السياسي المعاصر لبلادنا.
محكمة (1) صباح الاثنين السابع من يناير 1985م بدأ الفصل الأول.. المهلاوي كان يتخذ من بناية اتحاد الفنانين القديمة مقراً لمحكمة اسمها المحكمة الجنائية رقم (4) بأم درمان وأمامه تقرر أن يتحاكم محمود وتلاميذه. وتوافد الناس إلى هناك.. انتظار.. وفجأة وبصورة درامية يتقرر نقل المحكمة إلى مبنى آخر بحجة إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن لمتابعة وقائع القضية.. ويهرول الجميع راكبين وراجلين إلى مجمع المحاكم القديم (بناية مجلس أم درمان). تملكتني حيرة حقيقية حيث إن الحجة التي بها تحولت المحكمة ظلت قائمة فقد حشر الناس في قاعة ضيقة!.. و...كان آخر عهدي بالمهلاوي شاباً خجولاً سكوتاً يسرع الخطى في ردهات الجامعة الإسلامية وقد غطته جبة متعددة الألوان– أما في ذلك اليوم فقد كان طالعنا المهلاوي (بحلة إفرنجية كاملة) كسرت تناسقها عمامة علت رأسه.سيد بابكر السيد– ملازم ثان– 23 سنة– ممثل الاتهام– يقدم قضيته..
المتهم الأول أرشدنا إلى المتهم الثاني.. المتهم الثاني أرشدنا إلى المتهم الثالث.. المتهم الثالث أرشدنا إلى المتهم الرابع، وينقطع التسلسل المنطقي المتهم الخامس اعتقل بتوجيه من....
الشاكي غائب.. وتواصل المحكمة
المتهمون الخمسة في قفص الاتهام– وقوفاً– عبارة واحدة رددها أربعتهم– وكأنما اتفاق قد سبق– مؤداها أن لا اعتراف ولا تعاون مع المحكمة.))).
بقلم : محمد لطيفإغتيال الأستاذ .. القصة الكاملة (2)
كرار حول أكبر مآسي القرن العشرين إلى ملهاة تحتفي بها أجراس الحرية
[حذفت المقدمة التي كتبت في الحلقة الأولى والتي تبدأ بـ "بغض النظر عن تزوير وقائع" وتنتهي بـ "فهذه فرية لم نسمع بها إلا عند هاشم كرار."]
انتهينا بالأمس إلى حيث انعقدت محكمة الموضوع ورفض المتهمين جميعهم الاعتراف بالمحكمة والتعاون معها ونواصل سرد الوقائع كما جرت أمامي.
محمد لطيف
محكمة (2)
الثلاثاء 8 يناير أصدر المهلاوي حكمه بتوقيع الإعدام على جميع المتهمين (حتى يكونوا عظة لغيرهم) وهكذا لم تستغرق العملية مع المهلاوي أكثر من 19 ساعة فقط.. ومن القاعة الضيقة المكتظة بالرواد ارتفعت أحداث وتداخلت..
أحاط تلاميذ الأستاذ وتلميذاته بقفص الاتهام وهم ينشدون إنشاداً منظماً.. وفي المقابل كانت جملة أصوات تهتف في انفعال بالغ وفي نشوة ظاهرة (الله أكبر.. جاء الحق وزهق الباطل)!
الاستئناف والاستهداف
تحولت أوراق القضية إلى محكمة الاستئناف برئاسة المكاشفي طه الكباشي وعضوية احمد محجوب حاج نور ومحمد سر الختم ماجد في التاسع من يناير؛ وفي ذات
اليوم التقيت المكاشفي وسألته عن سير الإجراءات؛ وبعد ان اجاب على سؤالي استرسل في حديثه دون مناسبة: إن ما يعيشه البعض من عدم جواز إعدام محمود كلام فارغ - لأنه لا نص لا يعفي 76 سنة من الإعدام، وقال ليإن ما فعله الجمهوريون أمام محكمة الموضوع تمثيلية، فها هي ذي والدة متهم قد تقدمت باسترحام ترجو تخفيف العقوبة عن ولدها.. وهذا دليل على ان هناك إجماعاً من الرأي العام بإعدام محمود!!
في منتصف نهار الاثنين 14 يناير وصل المكاشفي إلى مكتبه في محكمة الاستئناف.. كنا ثلاثة نرابط أمام مكتبه؛ أنا وزميل من الصحافة، وفتاة حملت سفاحاً؛ قضت محاكم الطوارئ برجمها وجاءت لمحكمة الاستئناف للحصول على إمهال حتى تضع حملها.
وفي تمام الثالثة والنصف (مد السماط وتناول المكاشفي ومعاونه غداء عمل عاجل مكون من لحوم وفراخ وحساء، ولم يغادر المكاشفي مكتبه قط فقد حمل إليه الساعي طشتاً و إبريقاً ليتطهر من بقايا الطعام.
في تمام السادسة استدعينا لمكتب المكاشفي، قال المكاشفي اكتبوا.. فكتبنا.. محمود محمد طه الإعدام شنقاً حتى الموت حداً وتعزيزاً على ان لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وتصبح أمواله فيئاً للمسلمين. بقية المتهمين يعدمون ايضاً بعد ان يستتابوا لشهر كامل وينتدب لهم جماعة من العلماء الخ).
وبعد ان انتهت قراراته قلت للمكاشفي: لماذا لا يستتاب محمود؟
قال حاج نور: إن محموداً قد استتيب سبعة عشر عاماً ولم يزده ذلك إلا ضلالاً وكفراً ونشراً لكفره.
الحق يقال: إنني كنت أعتمد على مساحة من العلاقة الطيبة بحاج نور؛ فقلت.. هذا يعني أن محكمتكم قد اعتمدت على حيثيات قضية مختلفة امام محكمة مختلفة في إصدار الحكم.
كانت الإجابة (إن محموداً سبق ان استدعي أمام المحاكم كثيراً ولم يستجب.. حتى المحكمة التي رفع فيها القضية هو لم يحضر لها).
قلت: ولكن.. وهنا دوى المكتب بخبطة قال بعدها المكاشفي انتم هنا لتستمعوا وتكتبوا لا لتسألوا) ولملمنا أطرافنا وخرجنا.
موقف الصحافة
مهما كان الرأي في أداء الصحافة في مايو إلا أن الحقيقة التالية لا بد ان تسجل رفض حسن ساتي رئيس تحرير الأيام وفضل الله محمد رئيس تحرير الصحافة نشر قرارات المكاشفي، واتفقنا.. ولا أدري أيهم كان المبادر على تصدير الصحف بمقالات تتحدث عن ضرورة الحوار وأهمية ترسيخ مبدأ العفو لدعم الوحدة الوطنية.. ولكن الحقيقة التي يجب ان تقال أيضاً ان هذا التصرف من الصحف لم يكن له أي أثر على النظام، لسبب واحد هو ان النظام لم يتعود ان يسمع من الصحف رأياً معارضاً حتى ولو تلميحاً.. وهكذا صنف موقف الصحف باعتباره جزءاً من التمثيلية.
في القصر تناقض وتضارب
في الفترة من 14 إلى 17 يناير شهدت دهاليز قصر الشعب وقائع كثيرة أحدد منها:
يوم 15 سألت الثالوث: عوض الجيد - النّيّل - بدرية، إن كانت محكمة الاستئناف قد أصدرت قراراً ما في مسألة محمود؟ قال عوض الجيد: إن عباس مدني أبلغه أن المحكمة لم تصدر أي قرار حتى الآن، وفي حديث جانبي سألته إن كان يجوز إصدار عقوبة إعدام حداً وتعزيزاً وكانت إجابة عوض الجيد في الساعة 12 ظهراً (لا عقوبة إعدام حداً وتعزيزاً قط). في الفترة من منتصف النهار وحتى الثانية والنصف استدعى النميري نائبه الأول لمدة ساعة والنّيّل لمدة نصف الساعة وعوض الجيد لمدة ربع الساعة، وفي الساعة الثانية والنصف سألت النيل ذات السؤال فكانت إجابته" إنه يجوز حكم الإعدام حداً وتعزيراً حداً للإسلام وتعزيزاً للدولة" وكان هذا يعني أن قرار المكاشفي قد وصل إلى القصر .
القصر يوزع منشورات.
سألت الثالوث: إن كان قد اطلع على المذكرة التي رفعتها 13 نقابة مطالبة بإيقاف مهزلة المحاكمة؟ نفوا نفياً قاطعاً علمهم بالمذكرة، ثم عاد النيل ليقول: إن هذه المذكرة مزورة فقد كتبها شيوعي وطبعت في مطبعة الحزب الشيوعي ووقعها شخص انتحل أسماء هذه النقابات - اندهشت لحديثه هذا رغم نفيه وجود مذكرة أصلاً، فقلت له: لكن معلوماتي أن هذه المذكرة قد اجتمعت لها 13 نقابة في اليوم الأول في جامعة الخرطوم، واجتمعت في اليوم الثاني لتوافق على الصياغة النهائية، وسلمها 4 يمثلون هذه النقابات لاستقبال القصر في الخامسة من مساء 15 يناير. ولكن النيل تمسك بتفسيره هو؛ واستدرك أن المذكرة لم تصل للقصر أبداً.. وكانت مفارقة طريفة أن يخرج عوض الجيد وريقة مطبوعة لأساتذة وطلاب الجامعة رداً على المذكرة التي نتحدث عنها، وهي ذات المذكرة التي أنكروا علمهم بها وقال:" إن هذه المذكرة سلمها للقصر مواطن صالح لتوزيعها، وكانت تلك أول مرة أعرف فيها أن من مهام القصر توزيع المنشورات!
صمت دهراً ونطق كفراً
طوال هذه الفترة كان البوم ينعق في دهاليز الاتحاد الاشتراكي وكأن الأمر لا يعني (التنظيم الحاكم الفرد):
فقط في مساء الخميس 17 يناير تنادوا لاجتماع في مقرهم بالخرطوم، ولعله واحد من أطرف الاجتماعات التي عقدها، كان الهلع يعلو الوجوه وتركوا لألسنتهم العنان في الحديث كانت مجموعة من نسوة الاتحاد الاشتراكي يتحدثن فيما يشبه الولولة. (الشارع اتوحد لاسقاط النظام) (نحنا قاعدين هنا وما عارفين الحاصل شنو) ( التنظيم في وادي والشارع في وادي) وانفلتت امرأة تاركة قاعة الاجتماع كأنها تهرب بجلدها، وبعد جدل لا موضوع فيه كانت خلاصة الاجتماع (ان يعود كل عضو إلى منطقته السكنية ويطمئن المواطنين ان الثورة باقية وماضية في طريقها)!
في كوبر
في الثامن من يناير 1985م نقل الأستاذ محمود وتلاميذه إلى سجن كوبر في انتظار قرار محكمة الاستئناف التي حولت القضية من قضية جنائية إلى قضية ردة، وتحولت المحكمة نفسها من محكمة استئناف تنظر في الحكم الصادر إلى محكمة أخرى تبحث في حيثيات جديدة...وفي انتظار قرار رئيس الجمهورية الذي تحول من سلطة لها حق الرفض والتأييد إلى سلطة قضائية تبت في الحيثيات (ويعتكف ثلاثة أيام يطالع حتى هداه الله سواء السبيل) وهذا لعمري إشارة لعدم ثقة في قضاته ليس إلا. في الفترة من 8 إلى 18 يناير جرت عدة محاولات للخروج بالأزمة من عنق الزجاجة.
*حاول مدير السجن اقناع الأستاذ محمود بتقديم استئناف او استرحام ولكن موقف الرفض ظل ثابتاً.
*قام الدكتور مالك حسين بزيارته في كوبر لعله كان يلتمس مرونة في موقف محمود؛ وكان بصحبته البروفيسور عصام عبدالرحمن (جمهوري) الذي أخبره أن الأستاذ محمود لن يتنازل عن موقفه.
قال مالك:" إنه موفد من عزالدين السيد والرشيد الطاهر وآخرين، وأنهم مشفقون ويبحثون عن معالجة لهذه القضية وكان قول محمود (قال لهم اتركوا لي قضيتي لأواجهها وعليكم أن تواجهوا قضيتكم الشخصية في علاقاتكم مع النظام ومع نميري بأن تنفضوا أيديكم منه وتبرئوا ذمتكم).
وحمل د. مالك رسالة أخرى لأحد أقربائه" شيخ طريقة بالهلالية" وكان في الخرطوم يسعى لمقابلة محمود، وكان رد الأستاذ محمود على رسالة قريبه الشيخ (قل للشيخ الطيب لا تزرني ولكن اذهب إلى نميري وانقض بيعتك له وقل له إنك كذبت على الله وزيفت الشريعة، وهكذا انتهى فصل الوساطة.
18 يناير
كان صباح الخرطوم ساكناً سكون الموت.. عشرات الآلاف امتلأت بهم الساحة الشمالية بسجن كوبر (ساحة العدالة) وعبر سياج حديدي وحائط من الرجال المدججين بالسلاح دلفنا إلى جوار المشنقة، جنوب المشنقة وضعت مقاعد وثيرة لكومبارس النظام ليشهدوا الفصل الأخير، ومن الزنازين المجاورة كان السجناء السياسيون يحلمون و لكن بصوت مرتفع.. ويرددون في إيقاع منتظم (لن ترتاح يا سفاح) وجيء بتلاميذه الأربعة مقيدين بالأصفاد وأوقفوهم على حائط خلف المشنقة، وجوههم كانت تعانق الشمس وجاء محمود .. حاولوا عبثاً أن يحرموه شرف ان يسجل التاريخ أنه سار نحو المقصلة بخطى ثابته مرفوع الرأس لذا جاءوا به مخفوراً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وعلى وجهه خرقة؛ يقول ما تبقى من لونها.. إنها كانت حمراء.. ولكن التاريخ لا يستطيع احد ان يحذف من صفحاته أن محموداً قال كلمة.. ووقف يستظل بها حتى فارق الحياة.
* اعتلى درج المشنقة.. وفوقها وقف؛ أزيح الغطاء.. رفع رأسه.. يقولون إنه تبسم.. وأقول.. كان في عينيه سؤال.
* نصبت منصة على عجل شمال المشنقة اعتلاها المكاشفي وقال كلاماً خلاصته إنهم إنما جاءوا ليقيموا عدل الله في الأرض.. أي عدل يعني؟ لا أدري؟
وخيم الصمت لم يفتح الله على أحد بكلمة.
انطلق أحدهم من وسط الصفوف صائحاً..
وفي غمضة عين وانتباهتها كان بعضهم قد اقتاده إلى سجن كوبر ولكن هذه المرة من الباب الخلفي.
وانتهي كل شيء.. سمعت من يصيح خلفي الله أكبر سقط هبل.. والتفت فإذا بعمار.
آخر ما قال محمود
في ليلة اعتقاله أي أمسية الرابع من يناير جمع محمود حوارييه من الجمهوريين والجمهوريات، وودعهم بكلمات قليلات وكأنه كان يقرأها في الأفق (الصوفية سلفنا ونحن خلفهم وورثتهم كانوا بيفدوا الناس.. الوباء يقع يأخذ الشيخ الكبير - الصوفي الكبير؛ وينتهي الوباء دي صورة غيركم انتوا ما بعقلها كثير..) انتهى حديث محمود، وبقي أن نقول:
بل هناك سؤال ما زال يفرض نفسه بإلحاح.. لماذا تأخرت الانتفاضة 76 يوماً كاملة!؟ وإذا كان الأمين العام لمنظمة حقوق الإنسان العربي قد قال (لقد أعطاهم طه بكل سنة من عمره يوماً. يعني النظام المباد، فإن الوجه الآخر قاتم حقاً كيف امتد الصبر والصمت 76 يوماً؟، بل لعل السؤال المفزع حقاً، والواقع المهول فعلاً، هو إن قوانين سبتمبر التي قال محمود قوله فيها ومضى.. ما زالت باقية.
إنه محمود وما يزال.
نواصل...))).
الحلقة الثالثة :
إغتيال الأستاذ.. القصة الكاملة (3)
كرار حول أكبر مآسي القرن العشرين إلى ملهاة تحتفي بها أجراس الحرية
وقفت عند جملة من الملاحظات على ما خطه قلم الأستاذ هاشم كرار بأجراس الحرية مؤخراً حول قصة اغتيال الأستاذ محمود محمد طه .. ومن حق كرار أن يكتب بالطريقة التي يشاء، ومن حق الصحيفة أن تفرد له المساحات التي ترى فهذا شأنها على كل حال .. ولكن يبدو أن تقادم السنين قد غبش (خانة) المعلومات المتعلقة بتلك الفترة في ذاكرة هاشم كرار، فخلط في أمور لا تحتمل الخلط، ثم حاول إعادة صياغة التاريخ من زاوية لا يراها غيره أو ربما تمنى أن تكون كذلك ... !
الأربعة العظام:
حاول هاشم منذ بداية حلقاته الروائية وليس التوثيقية الإيحاء بأن ثمة أربعة عظام كانوا هم من يديرون الأيام الصحيفة الحكومية فعلاً، والمملوكة للاتحاد الاشتراكي (العظيم) اسماً ... وحاول هاشم أن يصور كذلك أنه كان من ضمن الدائرة الضيقة التى تدير أمر الأيام .. ولعمرى فلم أرَ مسوغاً للتباهي بالانتماء لمجموعة تدير الصحيفة فى ذلك الزمان حتى لمن كان كذلك، ناهيك عن الادعاء بذلك ... وفي كل من ذكرهم كرار سأقف عند واحد فقط لتفنيد مزاعم الرجل... فحين التحقت بالأيام فى 14 سبتمبر 1984 محرراً بإدارة الأخبار، لاحظت أن ثمة رجل سمته الوقار والرزانة، تميزه بسطة في الجسم يغدو ويروح فى ردهات الصحيفة دون ضجيج ودون أن يكون له دور واضح فى تحرير الصحيفة ولا إدارتها ..سألت عنه فقيل لي ( هذا عبد القادر حافظ) ثم قالوا (حسن ساتي مهمشو لأنو نميري كان زعلان منّو فى مشكلة بتاعت جريدة كردفان ) إذن .. كان هذا وضع الراحل المقيم الصديق (عبد القادر حافظ ) منذ دخولنا الأيام وحتى سقوط النظام المايوي، حين وصل الأستاذ محجوب محمد صالح لرئاسة تحرير الأيام فى عام الانتقال، فاختار حافظ دون غيره مديراً لإدارة الأخبار فأدهشنا بقدراته فى الأخبار إدارة وصياغة ...! وغني عن القول إن الفترة الممتدة من سبتمبر 84 وحتى أبريل 85 هي ذات الفترة التى شهدت الوقائع الأساسية لاغتيال الأستاذ محمود محمد طه ..أي هي الفترة التى لم يكن فيها لحافظ أي دور في الأيام ناهيك عن أن يكون فى الحلقة الضيقة لرئيس التحرير.
هاشم كرار مخبراً:
أورد هاشم كرار فى إحدى حلقاته واقعة غريبة مؤداها أنه كمسؤول عن متابعة أخبار وزارة المالية والقصرالجمهوري ذهب إلى القصر فأبلغته بدرية سليمان صديقته - على حد قوله - ما معناه أن صاحبكم انتهى ..!!
وأريد الآن أن أستنجد بكل من مر بمرحلة المخبر الصحفي في صحافتنا ... الشمولية منها والحرة .. هل سمعتم بمحرر كان مسؤولاً عن المالية والقصر فى وقت واحد ؟.. ألم أقل لكم إن كراراً يكتب رواية ولا يوثق ؟ فخيال الروائى لا الوقائع هي التي أوحت لكرار أنه طالما كان فقط محض شارع هو الذى يفصل بين القصر والمالية فلا ضير من أن يزعم أنه كان يغطي أخبار القصر والمالية معاً فقادته خطاه يوماً إلى القصر ...ولكن وبغض النظر عن نفى بدرية سليمان لى شخصياً معرفتها بهاشم كرار ناهيك عن أن تكون صديقته، فالحقيقة التى يعرفها ناس (أيام) زمان أن صديقنا عوض أبو طالب كان هو المسؤول في تلك الفترة عن تغطية أخبار وزارة المالية .. ثم كان الزميل عابدين سمساعة هو المحرر الرئيسى المكلف بتغطية أخبار القصر على مستوى الرئيس .. ثم كنت أنا مكلفاً بتغطية أخبار النائب الأول والمستشارين بمن فيهم (الثالوث) هذا بالطبع بجانب عدة وزارات خدمية أخرى . أما هاشم كرار فقد كان فى ذلك الوقت صحافياً كبيراً يعمل فى التحقيقات حين يكون متواجداً بالعاصمة ... فهاشم كان يقضى ثمانية من أيام الأسبوع في الحصاحيصا !
معقول تنسى ود البلال؟
لا أتصور أن أحداً عمل في الأيام في تلك الفترة أو حتى مر بشارعها لا يعلم أن الآمر الناهي فيها كان هو الأستاذ احمد البلال الطيب، الذي كان يشغل منصب مدير إدارة الأخبار فى ذلك الوقت .. وحين يأتي كرار الآن ويورد أسماء ليس من بينها ود البلال كما يسميه هو ليقول إنها كانت صاحبة القرار فى الصحيفة، يصبح الأمر مضحكاً فعلاً ... ولكن الأسوأ أن هذا وحده يجعلني أجزم مطمئناً أن كل ما يكتبه هاشم كرار لا أساس له من الصحة ..!
حكاية ليلى وتلفون جعفر:
يبدو أن مطلوبات الحبكة الروائية