الحكمة الثالثة عشرة
كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته،
أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته،
أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله، وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته،
أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته
ـ بيان معنى الشطر الأول من هذه الحكمة:
((كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته))
أن الإنسان ثنائي التركيب، إذا طرحنا منه قفصه الجسدي الذي
لا شأن ولا قيمة له، فهو مركب من ركنين أساسيين بهما تتكامل
إنسانية الإنسان: العقل والقلب.
قلبك مظلم بالران الذي تكاثف فوقه. فأنت محكوم لسلطان
هذا الران، لم يبق في قلبك متسع لحب يحدو بك إلى الاستجابة لأمر
الله، ولا لخوف يحجزك عن معاصي الله، ولا لتعظيم يقف بك عند حدود الله!..
والحب، والخوف، والتعظيم، كل ذلك مكانه القلب لا العقل.والقلب
مليء بظلل سوداء، من التعلق بالدنيا.. بالشهوات.. بمنافسة
الآخرين، بمشاعر الحسد والأحقاد عليهم.. منصرف إلى التقلب في
أحلام المتع التي اقتحمْتَ غمارها واستقرت في نفسك
أصداؤها.وإذا أقبل العقل يستأذن قلبك ليغرس فيه شتلاً أو نواة
لمحبة الله عز وجل، يبحث.. ثم يبحث.. فلا يجد فراغاً فيه لهذا
الغرس!..يتجه العقل إلى القلب، ليبلغ صاحبه رسالة الله التي
يقول له فيها: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } {
الحديد: 57/16 }
ورسالة العقل التي هي العلم، من الأهمية
بمكان، ولكن الحقائق العلمية لا بدّ لها من مغرس تنمو وتزدهر
فيه، ومغرسها في حياة الإنسان القلب. فإذا سدت منافذ القلب
وأظلم أرجاؤه للسبب الذي يذكره ابن عطاء الله، فإن مصير رسائل
العقل كلها الذبول والضياع.وكم يتجلى هذا الذي أقوله في العبرة
التي يسوقها لنا كتاب الله عز وجل، إذ يحدثنا عن ذاك الذي آتاه
الله آياته فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وأصح
ما قيل في اسمه - على ما ذكره ابن كثير في تفسيره - أنه
بلعام بن باعوراء، أحد علماء بني إسرائيل. لقد آتاه الله آياته
علماً، كما قال عز وجل، ومستودع العلم هو العقل، ولكنه أخلد
إلى الأرض واتبع هواه. وسبيل ذلك إنما هو القلب، تعلق قلبه
بالدنيا التي كنى الله عنها بكلمة (الأرض)، فقاده قلبه بدلاً
من عقله واتبع هواه. فكانت سيرته كسيرة الكلب، يلهث وراء
الدنيا دون أن يشبع منها، كالكلب الذي يلهث بلسانه في كل
الظروف والأحوال. واسمع في هذا كلام الله عز وجل: { وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ
مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ،
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } { الأعراف:
7/175 - 176 }
الفقرة الثانية من هذه الحكمة، وهي قوله:
«أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبّل بشهواته» ؟
أي لو لم يكن القلب مكبلاً بشهواته، لاتجه إلى الله عز وجل
وابتغى من الدنيا كلها رضاه، ولو تمّ له ذلك لأعرض عن الأكوان
واتجه إلى المكوّن، ولما انطبعت صور الأكوان في مرآته
«أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله، وهو لم
يتطهر من جنابة غفلاته؟»
.إذن المشكلة هي غفلتك عن الله الذي
بيده الخلق والأمر كله، بيده النعم التي ترنو إليها، والشهوات
التي تحلم دائماً بها، هو الذي يشعرك بلذاتها إن أقبلت إليك،
ويبتليك منها بالآلام والمنغصات إن أدبرت عنك.وإذا كانت
المشكلة هي هذه الغفلة، فالعلاج يكمن في أن تسعى سعيك الجاد
للتخلص منها.. إذا تخلصت من الغفلة اتجَهَ منك القلب إلى الإله
الذي شهواتك بيده، ونعمك من صنعه، وسعادتك من فضله، فتتعلق
آمالك به، ويصفو حبك له؛ وعندئذ تتحرر من أسر الشهوات التي
كبلتك، ومن ثم تغيب عن مرآة قلبك صور المكونات، لترتسم في
مكانها صفات المكوّن جلّ جلاله.
الفقرة الأخيرة التي يقول فيها:
«أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟»
.إذن فكثرة الهفوات هي السبب في الوقوع في الغفلات.. والاستغراق
في الغفلات هو السبب في الاستسلام لأسر الشهوات.. والاستسلام لأسر
الشهوات هو السبب في هيمنة صور الأكوان على القلب، وانتشار
(الران) عليه.ومن ثم فإن العلاج يبدأ بضرورة التغلب على المشكلة
الأولى، وهي مشكلة الاستسلام للهفوات والآثام.. يجب أن تتغلب على
هفواتك أي على معاصيك بالابتعاد عنها والتطهر منها