قبل البداية
قال جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...).
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في هذه الآية: ذكر الله -سبحانه- مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبًا للحق محبًا له، مؤثرًا له على غيره إذا عرفه.. فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال، وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معاندًا معارضًا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن. (انتهى كلام ابن القيم).
فالداعي أمام إنسان مسلم على الفطرة لكن به بعض المعاصي والمنكرات.. وآخر به من الاستقامة الكثير ولكنه لم يتزود من الطاعات. فالأول يحذر من المعاصي والمهلكات والآخر يحث على زيادة القربات.. وكلها دعوة.
وغالب المدعوين من الصنفين إما أن بهم جهلاً لكثير من الأحكام، مثل التهاون في أمر صلاة الجماعة أو حلق اللحية وغيرها، والآخر عنده غفلة وكسل فتراه لا يقوم الليل ولا يتزود من الصدقات والسنن والأذكار وهكذا.
وهناك أمة أخرى من غير المسلمين تحتاج إلى دعوة وإيضاح لهذا الدين ومحاسنه وفضائله.
إن تنوع الأساليب وتعدد أوجه الدعوة من ضرورياتها ومتطلباتها، هذا نوح عليه السلام ما ترك سبيلاً لدعوة قومه إلا سلكه ولا بابًا إلا طرفه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح الآيات: 5-9].
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى مجامع قريش وأسواقها ويدعوهم إلى دين الله، ووقف مناديًا على الصفا، واتخذ من موسم الحج منبرًا للدعوة، وسار إلى الطائف داعيًا ثم هاجر إلى المدينة النبوية.. إنها أساليب متنوعة وطرق متعددة تخدم الدعوة ولم تقف عند حد.. بل كل أسلوب اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم أو له ضابط شرعي فنحن نتبعه ونسير عليه..
ثم لا بد أن يوطن الداعي نفسه على تحمل المشقة والأذى وسماع ما يكره فإنه قد سلك طريق الأنبياء والمرسلين وهو طريق محفوف بالمكاره مليء بالأشواك.. إنه طريق الجنة.
أيها الحبيب:
إن ترتيب الأولويات في الدعوة إلى الله مهم جدًا فالتوحيد قبل الصلاة والصلاة قبل الزكاة.. نبدأ بالأهم فالمهم ونقتفي في ذلك آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته. فقد بدأ بالتوحيد ثم تدرج في العبادات وإلا كيف ندعو شخصًا إلى الصلاة وهو يدعو غير الله أو يطوف بالقبور؟
ولقد جاء الإسلام متدرجًا في تشريعاته.. بدءًا بالتوحيد ثم الأمر بفرائض الإسلام وهكذا، بل كان تحريم الخمر وهي أم الخبائث على مراحل: (َسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وانتهاء بآية التحريم لها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم...» [الحديث متفق عليه].
أيها الداعية الموفق:
إن عمل الدعوة يلزمه الإخلاص لله جل وعلا وصدق النية رجاء ما عند الله، ومحبة للمسلمين وإنقاذًا لهم من مهاوي الردى ومزالق الانحراف، ورفعًا لدرجاتهم تقربًا إلى الله بالعمل الصالح. وهو فوق ذاك إبراء للذمة ونصح للأمة.. فربما تعلق بك المدعو غدًا لو لم تدعه.. وأخذ ينادي: أنت مسئول عني فلم تدعني.. اهتديت فتركتني.. سمعت بخير ما أعلمتني.. علمت بسنة فما دللتني!!