مقال الاحد
في الوحدة والمعارضة (*)
Siddiq01@sudaneseeconomist.com صديق عبد الهادي
إن القوى الوطنية في السودان بأحزابها، ومنظمات مجتمعها المدني، ومفكريها، إن كان في داخل البلاد او خارجها ومنذ العام 2005م، على الاقل، كانت تتحدث وتتنبأ بامكانية وصول البلاد الى التفكك او الانفصال إذا ما سار امر التعامل مع قضايا الوطن على حاله. ليس هناك بالطبع من سوداني عاقل يتمنى تحقق ذلك التنبوء لان مجرد التفكير في حدوثه أو في وصول البلاد إليه يصيب المرء بالرعب والرهبة!!!. والاسباب جمة.
كان الحديث لا ينقطع عن ضرورة الالتزام بإنجاز مقتضيات التحول الديمقراطي والتي كان من ارأسها الالتزام ، في الحد الادنى، بما جاء في إتفاقية السلام الشامل. و مما هو معلوم ان ذلك لم يتم ولدرجة ان الحديث فيه اصبح مملاً، دعك عن التفصيل. ولكن الاهم الآن هو الحديث عما إذا كان هناك تحولاً في طبيعة النظام او الحزب الحاكم او حتى في طبيعة المعارضة نفسها وللحد الذي من الممكن ان يضمن الالتزام بانجاز مقتضيات ذلك التحول، أي التحول الديمقراطي.
فإذا كان التحول الديمقراطي يعني في نهاية المطاف الاقتسام العادل للسلطة والثروة، ليس فقط بين اطراف الاتفاق الشامل وإنما ليشمل كذلك كل اطراف الوطن، فإن المؤتمر الوطني ليس على استعداد لا من الناحية النظرية ولا العملية لقبول نتائج ذلك الاقتسام العادل. والمسألة هنا لاتتعلق بحقيقة التعود او بإستطالة مدة العشرين عام ونيف التى قضاها الحزب الحاكم في السلطة وإنما تُمِتُ بالصلة للقناعات والمرتكزات الاساس التي قام ويقوم عليها هذا الحزب كتنظيم سياسي يعبر عن قوى إجتماعية ليست فقط متطلعة إلي التميز وإنما تسعى للحفاظ عليه ودون مساومة البتة، بل وبكل السبل. فالحديث عن ان ورود الاحتمال المتعاظم بإنفصال الجنوب قد فاجأ، الآن، حزب المؤتمر الحاكم لا يعبر في حقيقة الامر عن اي واقع. في صدد تبيان ذلك، دعنا ننحي جانباً كل ما فعله هذا الحزب منذ توقيعه إتفاقية السلام في يناير 2005م ولننظر فقط إلى الانقلاب الثاني الذي نفذه في ابريل 2010م، حيث انه قام وفي جرأة غير مسبوقة بتزوير إرادة السودانيين، كل السودانيين، في الانتخابات العامة وعلى مرأى من القوى السياسية الاخرى، كل القوى السياسية، وبدون أدنى إعتبار. فإن صحَّ تعاظم إحتمال الانفصال لنا ان نتساءل، ومن الناحية المفهومية ، كيف تقوم "الاحتمالات" اصلاً؟، أوليست تبنيها الممارسات والمعطيات مدماكاً بعد مدماك، بدءاً؟. فقد حدث ذلك، وهو ما لم يضنْ به حزب المؤتمر الوطني، كما نعلم.
إن عدم إعتبار الآخر، او بالاحرى عدم ممارسة التقييد بالتنافس النزيه، حتى ولو كان شرطاً حاسماً للتحول الديمقراطي، وبتلك الطريقة المطبوعة هو واحدٌ من المرتكزات الاساس التي تحكم السلوك السياسي لحزب المؤتمر الوطني. وهو مرتكزٌ، وكما هو مشهود، ما كف عن التقييد به حتى في تعامله مع شريكه في الحكم، اي الحركة الشعبية، طيلة فترة الانتقال. على اية حال، ومن حكم المؤكد، أن هذا الحزب يعرف ما يعمل ويدرك نتائج عمله!!!.
إن دعوة النظام الحاكم الاخيرة للقوى السياسية، وبذلك الإنتقاءٍ الذميم، فوق انها غير صادقة فهي لا تستوجب الوقوف عندها مبتدأً، لأنه لن يكن مفهوماً حدوثها إذا ما تساءل المرء، ما معنى ان يكون لحزب المؤتمر الوطني برلماناً يدعي بانه منتخبٌ إنتخاباً ديمقراطياً ويمثل وفقاً له إرادة الشعب وإجماعه، و في الوقت نفسه، يبدو كمنْ يعييه الرهق في سبيل البحث عن مخرج، لدى القوى السياسية الاخرى، من مأزق الإنشطار المطبق على الوطن ؟!!!.
لا شك، ومن تجارب الشعوب أن القضايا الكبرى، والوحدة الوطنية واحدة منها، مكان بحثها العميق وتداولها هو قبة البرلمانات حيث يلعب إختلاف الرأى والرؤى دوراً كبيرأ في كشف جوانبها وإستنباط حلولها المحتملة، وذلك قبل الخروج بها للناس وللناخبين حيث إمتحان صحتها وقبولها الحقيقيين. ولكن هل لبرلمان "حزب المؤتمر الوطني" الحالي، والمنتخب "ديمقراطياً" القدرة على مواجهة هذه القضية الكبرى، قضية الوحدة، والتصدي لها وفق هذه المعايير المتواضع عليه؟!. الإجابة قد لا تحتاج حتى لجهد المقل!!!.
إن موقف القوى السياسية الراهن والرافض لدعوة النظام بخصوص وحدة الوطن، هو موقف سياسي صحيح خاصة وانه قد كادت ان تكون مفهومة لدى الشعب، وبشكل عام، ألا مهمة للقوى السياسية غير إنقاذ سلطة الانقاذ كلما ضاق بها "المَفَر" وتساقطت فوق رأسها "الرطب الجنية" لما زرعت يداها!!!.
توافرت السوانح وتعددت لان تتعامل القوى السياسية بندية ومسئولية مع الحزب الحاكم ، إلا انها كانت، وفي كل المرات، تركل السانحة بعد الاخرى إما انمحاقاً او إيثاراً لما لم تكشف الدثار او الستارعنه!. كانت الانتخابات العامة في ابريل الماضي وبمراحلها المختلفة التي إمتدت من مرحلة السجل الإنتخابي وحتى الاقتراع هي الفرصة الاثمن لكل القوى السياسية لأجل ان تعيد الكثير من ممارسات حزب المؤتمر إلى جادة الحق، إلا انها لم تفعل، مما اسهم وبقدر، مهما قلّ، في تهديد وحدة الوطن!!!.
إنه لا يكفي ان تتقدم المعارضة بمبادرات سياسية دون ان ترتقي هي نفسها الي حجم تلك المبادرات التي تطرحها، وإلا فلتكف عما من شأنه تعزيز عدم ثقة الناس في الاحزاب والمؤسسات السياسية والمنظمات المدنية.
تطرح القوى المعارضة، الآن، مبادرة عقد المؤتمر القومي للتدارس والتفاكر حول قضايا اربعة محددة، وهي وحدة السودان، ازمة دار فور،التحول الديمقراطي والضائقة المعيشية. هناك ملاحظتان لابد من القول بهما، الاولى هي أن المعارضة محتاجة وكجزء من هذه المبادرة للوقوف عند تجربة تحالف جوبا والتي تمت قبل فترة زمنية من الانتخابات العامة تكاد تكون مساوية للزمن الذي تبقى من الآن وحتى إجراء الاستفتاء في يناير القادم. كانت تجربة الانتخابات العامة إمتحاناً حقيقياً لذلك التحالف، وقد كانت الحصيلة، إن رضينا ام ابينا، محبطة ولحد غير مسبوق، وتكاد ان تكون قد افقدت القوى السياسية أو قضت على قدر مصداقيتها المتبقي لدى الناس!!!.
والملاحظة الثانية، وهي ان المرء يعجب كيف ان قضية مثل قضية مشروع الجزيرة لم يتم إدراجها ضمن قضايا مبادرة المؤتمر القومي ؟!!!. فإن لم تكن قضية مشروع الجزيرة هي القضية القومية الملحة ومن الدرجة الاولى فإي قضية أخرى ستكون؟!!!.
إن السودان الذي نتحدث عن وحدته الآن والتي إن لم تتم سيكون السودان المتبقي فعلياً هو منطقة الجزيرة، وإن لم تحل قضية مشروع الجزيرة واراضيه فسوف لن يكن هناك سودان في المستقبل القريب المنظور!!!.
ختام/
في كتابه الأشهر "ضد الآلهة" أو " القصة الموسومة للخطر" صاغ الكاتب "بيتر بيرنيستاين" ، وبلغةٍ أخَّاذة، إنبهار العالم بدقة التنبوء العلمي العجيب الذي قال به الفلكي "إدموند هالي"، حيث كتب، " تمكن هالي من التعرف على ما مجموعه 24 مُذَنَّباً كان أن ظهرتْ فيما بين الاعوام 1337م و1698م. ومن بينها ثلاثةٌ متشابهات، حيث إنتهى للقول بانها، أي ثلاثتها، ليست سوى مذنب واحد ظهر في الاعوام 1531م، 1607م، و1682م. إن ملاحظة هذا المُذَنَّب أُرجِعتْ في تاريخها للعام 240 قبل الميلاد. كان تنبوء هالي بأن ذلك المُذَنَّب سيعاود الظهور في العام 1758م قد أصاب العالم بالقشعريرة حين وصوله، تماماً، وقتما كان مُتنبأً به". وتلك القشعريرة هي، بالطبع، قشعريرة التوقع الاكيد بإنفتاح المستقبل البشري على ما يمكن الإنتفاع به.
وعلى ذكر ذلك، فنحن السودانيون نجد ان قطاعاً واسعاً من قوانا الحية ومن مفكرينا والمهتمين بمستقبل بلادنا يتنبأوون بوصول البلاد إلى الانفصال، هذا إن لم يكن التشظي، في يناير 2011م، التاريخ المحدد للاستفتاء في جنوب السودان، فيا ترى إي نوعٍ من القشعريرة قد يصيبنا إذا ما حدث ذلك تماماً ووفق ما كان متنبأٌ به؟!.
عُرف ذلك المذنب بمذنب هالي، بعد ان تمَّ إطلاق اسم العالم "إدموند هالي" عليه. ولكن في حالة الوطن السودان اي اسمٍ يجدر بنا إطلاقه على "مذنب الانفصال"، سيما وأن ذكراه ستمر بنا، ذلك بالطبع لو قد حدث، في يناير من كل عام؟!.
(*) جريدة الايام 1أغسطس 2010م.